بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى شهيدنا الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله تعالى عليه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء بذكرى شهادة سيّدة نساء العالمين السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، في الثالث من جمادى الآخرة.
جاء في الرواية عن السيّدة الزهراء (عليها السلام): «فجعل الله... الجهاد عزّاً للإسلام»[1].
إنّ الإسلام دين التوحيد، الذي بُني على أساس الفطرة، وهو القيِّم على إصلاح الإنسانيّة وتقويم اعوجاجها وانحرافها. لذا، فإنّ إقامته والحفاظ عليه من أهمّ الحقوق الإنسانيّة المشروعة، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾[2].
وقد وضع الله سبحانه القوانين والسنن مُبيّناً للناس حقيقةَ أمرهم، من مبدئهم إلى معادهم، وأنّهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياةً تنفعهم في غد، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل.
والجهاد فرض عباديّ تتولّاه الأمّة الإسلاميّة، استجابةً لنداء الإسلام المفروض عليها، كونه يحفظ بقاء الإسلام وقوّته وعزّة المسلمين وبلدانهم وأعراضهم. وقد حدّدت السيّدة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها العصماء -التي ألقتها في مسجد أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بعد سلسلةٍ من الأحداث التي وقعت عقيب رحيل الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، والتي كان منها بعد غصب الخلافة ضمّ فدك وبعض متروكات النبيّ (صلّى الله عليه وآله)- الغاية التي لأجلها شُرِّع الجهاد، واضعةً أمام الأجيال نقطةً مهمّة جدّاً يحقّقها الجهاد للأمّة؛ فالجهاد في نظر السيّدة الزهراء (عليها السلام) يحقّق النصر المؤزَّر للرسالة الإسلاميّة، ويُكسبها العزّة والظهور على المناهج الجاهليّة المعوجّة.
الإنسان والجهاد
وإنّ الطبيعة البشريّة بأصلها تميل نحو الراحة والدِعة، وتكره كلّ ما يسلب منها الراحة ويورثها العناء، وتبتعد تلقائيّاً عن المخاطر، وقد راعت أحكام الشريعة هذه الغرائز وضبطتها بما يتلاءم مع مصلحة الفرد والمجتمع على حدّ سواء؛ ومن هنا كان تشريع الجهاد بلحاظ ما يترتّب عليه من آثار عظيمة، يقول الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾[3].
وقد أشار القرآن الكريم في آياته إلى أمثلةٍ كثيرة لتخلّف الناس عن الجهاد والدفاع عن الأرض والعرض والكرامة، ففي سيرة بني إسرائيل أنّهم، وبعد النبيّ موسى (عليه السلام)، تخلّفوا عن الالتزام بهذا الواجب المقدّس، إلّا قليلاً منهم، يقول تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾[4].
لكن، وعلى الرغم من مخالفته للطبيعة البشريّة، إلّا أنّ الآيات والروايات حثّت عليه، مشيرةً إلى فضله وعظمته في سبيل الله تعالى، وفضّلَت المجاهد على القاعد عن القيام بواجبه في الدفاع عن أمّته ووطنه، يقول الله تعالى: ﴿لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمً﴾[5].
وقد بيّن الإمام الباقر (عليه السلام) المكانة المرموقة التي يحتلّها الجهاد في سبيل الله بين العبادات، إذ يقول: «ألا أخبرك بالإسلام؛ أصله وفرعه وذروة سنامه[6]؟»، قلت: بلى، جُعِلت فداك! قال: «أمّا أصله فالصلاة، وفرعه الزكاة، وذروة سنامه الجهاد»[7]. ويقول الشيخ الكلينيّ (رحمه الله)، مُعلِّقاً على هذه الرواية: الجهاد ذروة سنامه؛ لأنّه سبب لعلوّ الإسلام[8].
وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام): «أتى رجلٌ رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله، إنّي راغب في الجهاد نشيط»، قال: «فقال له النبيّ (صلّى الله عليه وآله): فجاهد في سبيل الله، فإنّك إن تُقتَل تكنْ حيّاً عند الله تُرزق، وإنْ تمُت فقد وقع أجرك على الله، وإنْ رجعت رجعت من الذنوب كما وُلدت»[9].
لماذا فرض الله الجهاد؟
وإنّ هذا التعظيم لهذا العمل إنّما هو بما له من آثار ونتائج عظيمة تترتّب عليه؛ إذ إنّ من آثاره صلاح المجتمعات وتحريرها من العبوديّة لغير الله تعالى، وإخراجهم من ولايتهم للعبيد والملوك إلى رحب الإسلام وعزّته التي تعمّ الجميع على حدٍ سواء، وكذلك في الجهاد حفاظ على الدين والمؤمنين.
عن الإمام الباقر (عليه السلام) في رسالة إلى بعض خلفاء بني أميّة، يقول (عليه السلام): «ومن ذلك ما ضيَّع الجهادَ الذي فضّله الله عزّ وجلّ على الأعمال، وفضّل عامله على العمّال تفضيلاً في الدرجات والمغفرة والرحمة؛ لأنّه ظهر به الدين، وبه يُدفع عن الدين، وبه اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنّة بيعاً مفلحاً منجحاً، اشترط عليهم فيه حفظ الحدود، وأوّل ذلك الدعاء إلى طاعة الله عزّ وجلّ من طاعة العباد، وإلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى ولاية الله من ولاية العباد»[10].
الجهاد يُورث المجد
كما أنّ الجهاد يُورث الكرامة للأمّة؛ إذ إنّ الأمّة التي تجاهد وتحافظ على أرضها وكيانها من التدخّل الخارجيّ، والغزو العسكريّ والفكريّ والثقافيّ، أمّة عزيزة تتمتّع بأعلى معايير الكرامة، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): اغزوا، تُورِثوا أبناءَكم مجداً»[11].
لولا الجهاد...
وفي ظلّ أطماع المستعمرين والمستكبرين الذين لا يألون جهداً في محاولة السيطرة والتسلّط على أراضي الآخرين وممتلكاتهم وثرواتهم، كانت الحاجة إلى قوّة رادعة تصدّ تلك المطامع، وتشكّل حصناً منيعاً ضدّ تعدّياتهم وانتهاكاتهم، وقد أراد الكيان الإسرائيليّ الغاصب في حربه الأخيرة علينا القضاء على هذه القوّة الرادعة التي أعادت الاستقلال لأرضنا وحرّرتها منه، ثمّ منعته لسنوات عديدة من إعادة احتلالها والسيطرة عليها، ولكن بفضل الله وحمده، وبسبب الإيمان والثبات والالتزام بهذه الفريضة العظيمة التي فيها المجد والعزّة والكرامة، تمّ ردعه مجدّداً، ومنعه من تحقيق أهدافه وغاياته، وإرغامه على إيقاف الاعتداء مذلولاً، ولو تُركَت هذه الفريضة العظيمة لكان الذلّ قد لحِق بنا نحن، وانسلخت منّا العزّة والكرامة، وقد أخبر بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ يقول: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَه اللَّه لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِه، وهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، ودِرْعُ اللَّه الْحَصِينَةُ، وجُنَّتُه الْوَثِيقَةُ؛ فَمَنْ تَرَكَه رَغْبَةً عَنْه أَلْبَسَه اللَّه ثَوْبَ الذُّلِّ وشَمِلَه الْبَلَاءُ، ودُيِّثَ بِالصَّغَارِ والْقَمَاءَةِ»[12].
وعن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «للجنّة باب يُقال له: باب المجاهدين، يمضون إليه، فإذا هو مفتوح، وهم متقلّدون بسيوفهم والجمع في الموقف، والملائكة ترحّب بهم، ثمّ قال: فمن ترك الجهاد ألبسه الله عزّ وجلّ ذلّاً وفقراً في معيشته ومحقاً في دينه»[13].
[1] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج3، ص568.
[2] سورة الروم، الآية 30.
[3] سورة البقرة، الآية 216.
[4] سورة البقرة، الآية 246.
[5] سورة النساء، الآية 95.
[6] السنام هو المكان المرتفع في ظهر الجمل، وهي أعلى نقطة في الظهر، والتشبيه بالسنام في الرواية بل وذروة السنام، واضح في بيان مكانة الجهاد في رأس هرم الشريعة.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص 23.
[8] المصدر نفسه، ج2، ص25.
[9] المصدر نفسه، ج2، ص160.
[10] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص3.
[11] المصدر نفسه، ج5، ص8.
[12] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص69، الخطبة 27.
[13] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص2.