بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى شهيدنا الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله تعالى عليه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء بذكرى وفاة السيّدة أمّ البنين (عليها السلام) زوجة أمير المؤمنين (عليه السلام)، في الثالث عشر من جمادى الآخرة، سنة 64 للهجرة.
عن عليّ بن سُوَيد، عن أبي الحسن الأوّل [الإمام الكاظم (عليه السلام)] قال: سألته عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[1]، فَقَاَل «التوكّل على الله درجات، منها أن تتوكّل على الله في أمورك كلّها، فما فعل بك كنتَ عنه راضياً، تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً، وتعلم أنّ الحكم في ذلك له، فتوكَّل على الله بتفويض ذلك إليه، وثِقْ به فيها وفي غيرها»[2].
إنّ التوكّل على الله يعني الاعتماد عليه تعالى في جميع الأمور، وانقطاع العبد في جميع ما يأمُله من المخلوقين، والتعويل على وكالته، والإعراض عمّا سواه. والذي يبعث على ذلك اليقين به سبحانه، والعلم بأنّه المالك الفعليّ ومسبّب الأسباب والمؤثِّر الحقيقيّ في هذا الكون.
والتوكّل من السمات الأساس والمزايا الرفيعة للمؤمنين، بل هو من دلائل الإيمان وعلاماته، ويبعث على العزّة في النفس؛ إذ يترفّع العبد بتوكّله على الله ويقينه بقدرته، عن استعطاف العباد والتذلّل إليهم.
التوكّل في الكتاب والسنّة
من هنا، ينبغي على العباد التمسّك بالتوكّل على عالم قدير كريم، رحيم بالعباد، قائم بمصالحهم، لا يفوّت شيئاً فيها، وأن لا يكون ذلك مجرّد ادّعاء ولقلقة لسان، أو من باب التقليد والاحتياط، ويكون الواقع هو التشبّث بالأسباب الظاهريّة والمؤثّرات الكونيّة، وقد تواترت الآيات والروايات في الحثّ على التوكّل، وبيان مكانته عند الله تعالى، وأهمّيّته، وضرورته، وأثر ذلك في حياة العباد، قال تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[3]، وقال أيضاً: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾[4].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «أوحى الله عزّ وجلّ إلى داوود (عليه السلام): ما اعتصم بي عبدٌ من عبادي دون أحدٍ من خلقي، عرفتُ ذلك من نيّته، ثمّ تكيده السماوات والأرض ومَن فيهنّ، إلّا جعلتُ له المخرج من بينهنّ؛ وما اعتصم عبدٌ من عبادي بأحدٍ من خلقي، عرفتُ ذلك من نيّته، إلّا قطعتُ أسباب السماوات من يدَيه، وأسخت الأرض من تحته، ولم أبالِ بأيّ وادٍ هلك»[5].
أركان التوكّل وكيفيّته
ويكفي في ضرورة حثّ النفس وتهذيبها على التوكّل قوله تعالى بأنّه يحبّ المتوكّلين: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[6].
لكن، ينبغي أن يكون التوكّل ثابتاً في القلب، مستقّراً في النفس، وليس مصطنعاً، ولا يكون ذلك إلّا من خلال ثبوت أركانه ورسوخها لدى العبد، وهي أربعة، يذكرها الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)[7]:
الأوّل: أنّ الحقّ تعالى عالم بحاجات العباد.
الثاني: أنّه قادرٌ على تلبية تلك الحاجات.
الثالث: أنّه ليس في ذاته المقدّسة بخل.
الرابع: أنّه رحيم بالعباد ورؤوف بهم.
فإذا حصل الانقطاع التامّ عمّا سوى الله، وآمنت القلوب بأنّه مسبّب الأسباب، والمؤثّر الفعليّ، والسلطان، ومالك الأشياء، وثبتت هذه الأركان في القلب، نال المرء مقام التوكّل، وصار من أصحابه.
وليس معنى التوكّل إغفال الأسباب والوسائل والوسائط الباعثة على تحقيق المنافع ودرء المضارّ، وأن يقف المرء إزاء الأحداث والأزمات مكتوف اليدَين؛ فالتوكّل لا يتنافى مع العمل والسعي والتكسّب؛ إنّما هو الثقة بالله عزّ وجلّ، والاعتماد عليه دون غيره، باعتبار أنّه تعالى هو مصدر الخير، ومقدّر الأمور، ومسبّب الأسباب، وأنّه وحده المُصرّف لأمور العباد، والقادر على إنجاح غاياتهم ومآربهم، ولا حدود لقدرته.
والمشكلة تكون في اعتبار الأسباب مستقلّة عن ربوبيّة الحقّ تعالى، فهذا شركٌ بالله تعالى، وناتج عن خللٍ في الإيمان وضعفٍ في الثقة به؛ أمّا الاستفادة من الأسباب الطبيعيّة والوسائل الظاهريّة لتحقيق الأهداف والمصالح، كالتزوّد للسفر، والتسلّح لمقاومة الأعداء، والتداوي من المرض، والتحرّز من الأخطار والمضارّ، فهذه كلّها أسباب ضروريّة لحماية الإنسان وإنجاز مقاصده، وقد أمر بها تعالى، وأبى أن تجري الأمور إلّا بأسبابها، والآيات القرآنيّة عديدة في الإشارة إلى ذلك، قال تعالى في مواجهة الأعداء: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ﴾[8]، وقال أيضاً: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾[9]، وأيضاً: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾[10].
بيد أنّه يجب أن تكون الثقة به تعالى والتوكّل عليه، في إنجاح الغايات والمآرب، دون الأسباب، وقد أهمل أعرابيٌّ عَقل بعيره، فتركه متوكِّلاً على الله، فقال له النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «اِعقل وتوكّل»[11]، ومن حِكم أمير المؤمنين (عليه السلام): «الدَّاعِي بِلَا عَمَلٍ، كَالرَّامِي بِلَا وَتَرٍ»[12].
درجات التوكّل[13]
إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ التوكّلَ مقامٌ يسهل نيله وبلوغه، بل ثمّة تفاوت كبير في مدارجه؛ وذلك يعود إلى التفاوت في معرفة الربوبيّة والتباين في ذلك؛ فمن الناس مَن حُجِبت عنه ربوبيّة الحقّ تعالى، وهم في الأمور الدنيويّة لا يتشبّثون إلّا بالأسباب الظاهريّة والمؤثّرات الكونيّة، وإذا ما اتّفق أحياناً أن توجّهوا إلى الحقّ تعالى، وطلبوا منه حاجة، أو رجَوا منه رجاء، فذلك من باب التقليد، أو من باب الاحتياط.
وثمّة فريقٌ آخر اقتنع وصدّق بأنّ الحقّ تعالى هو مقدّر الأمور ومسبّب الأسباب والمؤثِّر، وأركان التوكّل تامّة عنده، إلّا أنّهم لم يبلغوا مرتبة الإيمان؛ لذا هم مضطربون في اتّخاذ أمر من الأمور، وعقولهم مغلوبة في الصراع مع قلوبهم؛ لتعلّقها بالأسباب، واحتجابها عن تصرّف الحقّ سبحانه في الأشياء.
أمّا الطائفة الثالثة، فهم الذين توصّلوا بقلوبهم إلى معرفة تصرّف الحقّ تعالى في الكائنات، فآمنت تلك القلوب بأنّ مقدّر الأمور، والسلطان ومالك الأشياء، هو الحقّ تعالى، وكتبوا بقلم العقل على ألواح القلوب أركان التوكّل.
وإنّ من أروع صور التوكّل وأسماه، ما رُوي عن نبيّ الله إبراهيم (عليه السلام)، أنّه لمّا أمر نمرود بجمع الحطب في سواد الكوفة... وأوقد النار، ورُمي فيها إبراهيم (عليه السلام)، تلقّاه جبرائيل في الهواء، فقال: هل لك من حاجة؟ فقال (عليه السلام): «أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل»، فاستقبله ميكائيل، فقال: إن أردتَ أخمدتُ النار، فإنّ خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: «لا أريد»، وأتاه ملك الريح، فقال: لو شئت طيّرت النار، قال: «لا أريد»، فقال جبرائيل: فاسأل الله، فقال: «حسبي من سؤالي علمه بحالي»[14].
اكتساب التوكّل وآثاره
إنّ ما يجدر الانتباه إليه هو عظيم قدرة الله تعالى، وجميل صنعه، وسموّ عنايته بالإنسان في جميع أطواره وشؤونه، منذ أن كان جنيناً في رحم أمّه، حتّى آخر حياته.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): كان في ما وعظ به لقمان ابنه، أن قال له: يا بُنيّ، ليعتبر مَن قَصُر يقينُه، وضَعُفَت نيّته في طلب الرزق، إنّ الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال من أمره، وآتاه رزقه، ولم يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة، إنّ الله تبارك وتعالى سيرزقه في الحال الرابعة.
أمّا أوّل ذلك، فإنّه كان في رحم أمّه، يرزقه هناك في قرار مكين، حيث لا يؤذيه حرّ ولا برد، ثمّ أخرجه من ذلك، وأجرى له رزقاً من لبن أمّه يكفيه به ويُربيه وينعشه من غير حولٍ به ولا قوّة، ثمّ فُطِم من ذلك، فأجرى له رزقاً من كسب أبويه برأفة ورحمة له من قلوبهما، لا يملكان غير ذلك، حتّى أنّهما يُؤثِرانه على أنفسهما في أحوال كثيرة، حتّى إذا كبر وعقل واكتسب لنفسه، ضاق به أمره، وظنّ الظنون بربّه، وجحد الحقوق في ماله، وقتّر على نفسه وعياله، مخافة إقتار رزق، وسوء يقين بالخلف من الله تبارك وتعالى في العاجل والآجل، فبئس العبد هذا يا بُنيّ!»[15].
فهذا يدعو إلى تقوية الإيمان بالله عزّ وجلّ، والثقة بحسن صنعه، وحكمة تدبيره، وجزيل حنانه ولطفه، وأنّه هو مصدر الخير، وأنّ من توكّل عليه كفاه، ومن استنجد به أنجده وأغاثه.
وعلى المرء أن يعتبر من تطوّر ظروف الحياة، وتداول الأيّام بين الناس، فكم فقير صار غنيّاً، وغنيّ صار فقيراً، وأمير غدا صعلوكاً، وصعلوك غدا أميراً متسلّطاً.
إنّ الله وحده جدير بالثقة والتوكّل والاعتماد عليه، وهو على كلّ شيء قدير، وإنّ مَن نال مقام التوكّل:
1. كان أقوى الناس: عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «مَن أحبّ أن يكون أقوى الناس، فليتوكّل على الله»[16].
2. لا يُغلَب: عن الإمام الباقر (عليه السلام): «مَن توكّل على الله لا يُغلَب، ومَن اعتصم بالله لا يُهزَم»[17].
[1] سورة الطلاق، الآية 3.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص65.
[3] سورة التوبة، الآية 51.
[4] سورة آل عمران، الآية 160.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص63.
[6] سورة آل عمران، الآية 159.
[7] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، الأربعون حديثاً، الحديث الثالث عشر: التوكّل، في بيان معنى التوكّل ودرجاته.
[8] سورة الأنفال، الآية 60.
[9] سورة الملك، الآية 15.
[10] سورة الجمعة، الآية 10.
[11] ابن أبي الحديد المعتزليّ، شرح نهج البلاغة، ج11، ص201.
[12] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص534، الحكمة 337.
[13] راجع: الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، الأربعون حديثاً، الحديث الثالث عشر: التوكّل، في بيان معنى التوكّل ودرجاته.
[14] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج68، ص155.
[15] الشيخ الصدوق، الخصال، ص122.
[16] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)، ص27.
[17] الفتّال النيسابوريّ، روضة الواعظين، ص425.