بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى شهيدنا الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله تعالى عليه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك بذكرى ولادة سيّدة نساء العالمين السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وولادة حفيدها الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه).
جاء في الرواية أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذ بيد ابنته فاطمة (عليها السلام)، فقال: «مَنْ عرف هذه فقد عرفها، ومَنْ لم يعرفْها فهي فاطمة بنت محمّد، وهي بضعةٌ منّي، وهي قلبي وروحي التي بين جنبيّ؛ فمن آذاها فقد آذاني، ومَنْ آذاني فقد آذى الله»[1].
مكانتها والانتساب إليها
إنّ السيّدة الزهراء (عليها السلام) هي مجمع الخيرات والخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى لنبيّه الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، قائلاً: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾[2]. إنّها من العترة الطاهرة التي تدين لها البشريّة، كما تدين للإسلام والقرآن وتعاليم الأنبياء (عليهم السلام) والنبيّ الخاتم (صلّى الله عليه وآله)، وإنّ الانتساب إليهم يضع على عاتقنا تكليفاً عظيماً، ولا يكون ذلك عبر المحبّة الفارغة، بل بالعمل الذي تُمليه علينا هذه المحبّة وتلك الولاية وذاك الإيمان؛ فليس من السهل أن يصبح الإنسان من أتباعهم وحاشيتهم، إذ إنّ ذلك لا يحصل بمجرّد الادّعاء، إنّما يستلزم العمل والإيثار والتشبّه بهم والتخلّق بأخلاقهم.
إنّ السيّدة الزهراء (عليها السلام) نفسها، التي حازت تلك المكانة العظيمة: «وأمّا ابنتي فاطمة، فإنّها سيّدة نساء العالمين مِنَ الأوّلين والآخرين...»[3]، لم تحصل عليها عبثاً، بل إنّ الله تعالى قد امتحنها، وهي المصطفاة من عباده، فقد جاء في زيارتها: «يا مُمْتَحَنَةُ، امْتَحَنَكِ اللهُ الَّذِي خَلَقَكِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكِ، فَوَجَدَكِ لِما امْتَحَنَكِ صابِرَةً»[4]؛ ذلك أنّ النظام الإلهيّ يعتمد الحساب والكتاب، فيجب علينا الاهتداء بهذا النجم الساطع إلى الصراط المستقيم، الذي سلكته (سلام الله عليها)، فوصلت إلى تلك المدارج والمقامات العالية.
أسوة وقدوة
نعم، إنّ السيّدة فاطمة (عليها السلام)، امتُحِنت وعمِلت وصبرت، فكان لها ما كان من الاصطفاء والكمال والمقامات المعنويّة، وكانت عِدل أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكما أنّه (عليه السلام) يقود الرجال المؤمنين إلى الجنّة، كذلك السيّدة الزهراء (عليها السلام)، تقود النساء المؤمنات، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يا عليّ، أنت إمام أمّتي، وخليفتي عليها بعدي، وأنت قائد المؤمنين إلى الجنّة. وكأنّي أنظر إلى ابنتي فاطمة، قد أقبلت يوم القيامة على نجيبٍ من نور، عن يمينها سبعون ألف ملك، وعن يسارها سبعون ألف ملك، وبين يديها سبعون ألف ملك، وخلفها سبعون ألف ملك، تقود مؤمنات أمّتي إلى الجنّة»[5]. ففي الوقت الذي سعى التاريخ لتحقير المرأة، وجعلِها أسيرةَ الزخارف والزينة الظاهريّة واللباس والحليّ، وحياة اللهو والعبث، قدّم الإسلام النموذج والقدوة والأسوة، وعرّفنا فاطمة الزهراء (عليها السلام)، التي جسّدت الحياة التي يريدها الله تعالى، حياة الجهاد والعلم والبيان والتضحية وحسن التبعّل والأمومة... حياة الحضور في جميع الميادين عندما تقتضي الحاجة ذلك.
إنّ شخصيّة السيّدة الزهراء (عليها السلام) في أبعادها كافّة، هي شخصيّة ينبغي أن يُحتذى بها، ويؤخَذ منها الدروس والعبر، على الرغم من قصر عمرها الشريف في الحياة الدنيا، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) فيها: «امرأةٌ وُلِدت في بيت الثورة، وأمضت كلّ طفولتها في حضن أبٍ كان في حالة مستمرّة من الجهاد العالميّ العظيم الّذي لا يُنسى. تلك السيّدة الّتي كانت في مرحلة طفولتها تتجرّع مرارات الجهاد في مكّة، وعندما حوصرت في شعب أبي طالب، لمست الجوع والصعاب والرعب وكلّ أنواع وأصناف الشدائد في مكّة، وبعد أن هاجرت إلى المدينة أضحت زوجة رجلٍ كانت كلّ حياته جهاداً في سبيل الله، فلم تمرّ سنة أو نصف سنة على هذا الزوج لم يكن فيها في جهادٍ في سبيل الله، أو لم يذهب فيها إلى ميدان المعركة، طيلة المدّة التي عاشتها فاطمة الزهراء (عليها السلام) مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، والتي قاربت الإحدى عشرة سنة. وكانت هذه المرأة العظيمة والمضحّية زوجةً لائقةً لرجلٍ مجاهدٍ وجنديّ وقائد دائمٍ في ميدان الحرب. فحياة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وإن كانت قصيرة ولم تبلغ أكثر من عشرين سنة، لكنّها من جهة الجهاد والنضال والسعي والصبر الثوريَّين والدرس والتعليم والتعلّم والخطابة والدفاع عن النبوّة والإمامة والنظام الإسلاميّ كانت بحراً مترامياً من السعي والجهاد والعمل، وفي النهاية الشهادة»[6].
نصيرة الحقّ
لقد جسّدت السيّدة الزهراء (عليها السلام) الدور الأصيل الذي أناطه ربّ العالمين بالمرأة، فهي بالقدر الذي كانت فيه حريصةً على أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، كانت مقدامة ومندفعة في أداء أدوار الجهاد في سبيل الله بالمعنى الأعمّ، وكانت (عليها السلام) أوّلَ من نادى بنصرة الحقّ بعد رحيل أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فعلى الرغم من المدّة القصيرة زماناً، والفاصلة لها عن اللحاق بأبيها (صلّى الله عليه وآله)، نجد أنّها استفادت من كافّة الوسائل الممكنة للانتصار لنهج الولاية المتمثِّل بأمير المؤمنين (عليه السلام). ولقد اعتمدت (عليها السلام) في المواجهة على أمور:
1. واجهت (عليها السلام) منطق القوم بما برّروا به ما جرى من أحداث، فقالت (عليها السلام): «ابتداراً زعمتُمْ خوفَ الفتنةِ، ألا في الفتنةِ سقطوا، وإنَّ جهنّمَ لَمحيطةٌ بالكافرينَ»[7].
2. كشفت عن الطريق الصحيح للوصول إلى الحقّ بالرجوع إلى كتاب الله عزّ وجلّ، فقالت (عليها السلام): «وكتابُ اللهِ بين أظهرِكِم، أمورُه ظاهرةٌ، وأحكامُه زاهرةٌ، وأعلامُه باهرةٌ، وزواجرُه لايحةٌ، وأوامرُه واضحةٌ، قد خلّفتموه وراءَ ظهورِكم، أرغبةً عنه تريدون؟ أم بغيرِه تحكمون؟ بئس للظالمينَ بدلاً!»[8].
3. كشفت عن مرجعيّة أمير المؤمنين (عليه السلام) بوصفه الأعلم فيهم، بما يحتّم عليهم الرجوع إليه، وأنّهم لو اعتمدوا على أنفسهم في الرجوع إلى القرآنِ لما اهتدَوا إلى الحقّ، قالت (عليها السلام): «أَفخصَّكم اللهُ بآيةٍ أخرجَ أبي منها؟ أم هل تقولونَ إنَّ أهلَ ملّتَينِ لا يتوارثانِ؟ أَوَلستُ أنا وأبي من أهلِ ملّةٍ واحدةٍ؟ أم أنتم أعلمُ بخصوصِ القرآنِ وعمومِه من أبي وابنِ عمّي؟».[9]
4. إنّ العدالة الإلهيّة تبقى هي الحاكمة، وإنّ البعد الإيمانيّ المرتبط بالآخرة هو الذي يشدّ من عزيمة أهل الإيمان؛ لذا قالت (عليها السلام) في خطبتها: «فنِعمَ الحَكَمُ اللهُ، والزعيمُ محمّد، والموعدُ القيامةُ، وعند الساعةِ يخسرُ المبطِلونَ، ولا ينفعُكم إذْ تندمونَ، ولكلِّ نبإٍ مستقرٌّ، وسوف تعلمونَ مَن يأتيه عذابٌ يخزيه، ويحلُّ عليه عذابٌ مقيم»[10].
الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) حفيد الزهراء (عليها السلام)
تصادف ذكرى ولادة السيّدة الزهراء (عليها السلام)، ذكرى ولادة حفيدها الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، الذي لطالما أسدى فيها أرقى الكلمات والعبارات، وكثيراً ما كان يعبّر عن أنّنا لا نستطيع أن ندرك مقام هذه السيّدة العظيمة؛ لما تتحلّى به عند الله، من درجات وكمالات نفسيّة وروحيّة. يقول (قُدِّس سرّه) في ذلك: «لا يفي حقَّها من الثناء كلُّ مَن يعرفها، مهما كانت نظرته ومهما ذكر؛ لأنّ الأحاديثَ التي وصلتنا عن بيت النبوّة هي على قدر فهم المخاطبين واستيعابهم، من غير الممكن صبُّ البحر في جرّة»[11].
[1] الإربليّ، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، ج2، ص94.
[2] سورة الكوثر، الآية 1.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص175.
[4] الشيخ الطوسيّ، مصباح المتهجّد، ص711.
[5] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص575.
[6] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 16/01/1990م.
[7] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج1، ص137.
[8] المصدر نفسه، ج1، ص137.
[9] المصدر نفسه، ج1، ص138.
[10] المصدر نفسه، ج1، ص139.
[11] مكانة المرأة في فكر الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، ص24.