بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى شهيدنا الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله تعالى عليه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك في هذه الأيّام الرجبيّة المباركة، بذكرى ولادة الإمام الجواد (عليه السلام) في العاشر من شهر رجب، وذكرى ولادة وصيّ رسول ربّ العالمين، إمام المتّقين، أمير المؤمنين، عليّ بن أبي طالبٍ (صلوات الله وسلامه عليه)، في الثالث عشر منه.
عن الإمام الباقر (عليه السلام): «لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ما شيعتنا إلّا من أطاع الله عزّ وجلّ»[1].
لا شكّ في أنّ ولاية النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) فريضـة ثابتة من الله تعالى على عباده؛ بمعنى اتّباعهم والائتمام بهم، وأنّها شرط في صحّة الأعمال وقبولها، فلا يصحّ عمل أحد من المكلّفين، ولا يقبله الله إلّا بها، ولكن صرّحت الروايات بأنّ ولايتهم (عليهم السلام) لا تتحقّق إلّا بطاعة الله، ولا تُنال إلّا بالورع عن محارم الله، وإنّ المطيع لله هو الوليّ لهم، والعاصي لله ليس لهم بوليّ.
رُوي عن الإمام الباقر (عليه السلام): «يا جابر، والله ما نتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلّا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجّة، مَن كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومَن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلّا بالعمل والورع»[2]. وهذا ما نفهمه من معنى الولاية؛ إذ إنّها بمعنى المتابعة في الأقوال والأفعال، والعاصي لله ليس بتابع أهل البيت (عليهم السلام)، بل هو مخالف لهم؛ لأنّهم لا يعصون الله تعالى.
يقول العلّامة الطبطبائيّ (قُدِّس سرّه) في معنى الولاية: «والولاية، وإن ذكروا لها معانيَ كثيرة، لكنّ الأصل في معناها ارتفاع الواسطة الحائلة بين الشيئَين، بحيث لا يكون بينهما ما ليس منهما، ثمّ استُعيرت لقرب الشيء من الشيء بوجه من وجوه القرب، كالقرب نسباً، أو مكاناً، أو منزلة، أو بصداقة، أو غير ذلك»[3].
شيعة عليّ (عليه السلام)
ولكي يكون المرء من شيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) واقعاً وفعلاً، ينبغي عليه أن يدخل مدرسته، وينهل من علومها، ويقتفي أثره (عليه السلام) في العقيدة والإيمان والسلوك، وهو القائل: «أَلَا وإِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، ولَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ واجْتِهَادٍ وعِفَّةٍ وسَدَادٍ»[4]، وفي ما يأتي مجموعة من العناوين المهمّة التي ينبغي العمل عليها:
1. اتّباع الحقّ
لقد أوضح الله تعالى للناس طرق الحقّ، وبيّن دلائلها وأعلامها، فالإنسان على بيّنة تامّة إن أراد الرشد والهدى، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَأَنَارَ طُرُقَهُ، فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ»[5]، و«إِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ»[6]، و«إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلًا وَلِلْحَقِّ دَعَائِمَ»[7]، والله تعالى لم يُبقِ لأحدٍ عذراً، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): « فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ، وَاتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَكَارِهَهُ مِنْهَا، لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ وَتَجْتَنِبُوا هَذِهِ»[8].
وعليه، فإنّ الإنسان الذي يريد أن يتمسّك بالحقّ، ويكون على الحقّ ومعه، لا بدّ من أن يأخذ بمحابّ الأعمال ويدع مكارهها، قال (عليه السلام): «فَإِنَّ لِلطَّاعَةِ أَعْلَاماً وَاضِحَةً، وَسُبُلًا نَيِّرَةً، وَمَحَجَّةً نَهْجَةً، وَغَايَةً مُطَّلَبَةً، يَرِدُهَا الْأَكْيَاسُ، وَيُخَالِفُهَا الْأَنْكَاسُ، مَنْ نَكَبَ عَنْهَا جَارَ عَنِ الْحَقِّ وخَبَطَ فِي التِّيه»[9].
معرفة الحقّ والوصول إليه
وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ الحقّ لا يُعرَف بالرجال، بل على العكس، ينبغي على الإنسان أن يعرف الحقّ، وبمعرفته يعرف أهله، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ دين الله لا يُعرَف بالرجال، بل بآية الحقّ، فاعرف الحقّ تعرف أهله»[10].
لذا، ورد في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) الإشارة إلى عدّة أمور توصلنا إلى الحقّ، ويكون لها أثرها في بلوغه ونيله:
أ. الجدّ والاجتهاد: عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لَا يُدْرَكُ الْحَقُّ إِلَّا بِالْجِدِّ»[11].
ب. الالتزام بأوامر الله تعالى: عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ [البصير بتحويل الأمور وتقليبها] وَجْهَ الْحِيلَةِ، وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللهِ وَنَهْيِهِ، فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ [التحرّج والتحرّز من الآثام] لَهُ فِي الدِّينِ»[12].
ح. ترك الهوى: عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَانِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى وَطُولُ الْأَمَلِ؛ فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ، وَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الْآخِرَةَ»[13].
2. الإيمان
وهو من الأمور الأساسيّة التي ينبغي أن يكون عليها أتباع أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ إذ إنّ الإيمان أعلى رتبةً من الإسلام؛ فالإيمان هو التصديق المنعقد في قرارة النفس والمستقرّ في القلب والظاهر بالعمل والطاعة لله تعالى، أمّا الإسلام فهو إقرار بالشهادتين لساناً والعمل بالشرع ظاهراً، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «الإسلام شهادة أن لا إله إلّا الله والتصديق برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، به حُقِنَت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس. والإيمان الهدى، وما يثبت في القلوب من صفة الإسلام، وما ظهر من العمل به، والإيمان أرفع من الإسلام بدرجة؛ إنّ الإيمان يشارك الإسلام في الظاهر، والإسلام لا يشارك الإيمان في الباطن، وإن اجتمعا في القول والصفة»[14]، فالإيمان اعتقاد مقرون بالعمل، وأتباع أمير المؤمنين (عليه السلام) لا ينبغي لهم الاكتفاء بالإسلام ظاهراً، من دون وجود الاعتقاد القلبيّ الذي ينعكس على السلوك ويُترجَم بالعمل، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الْإِيمَانُ مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وعَمَلٌ بِالْأَرْكَانِ»[15].
ويشير (عليه السلام) إلى علامة الإيمان، فيقول: «عَلَامَةُ الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ، وأَلَّا يَكُونَ فِي حَدِيثِكَ فَضْلٌ عَنْ عَمَلِكَ، وأَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ فِي حَدِيثِ غَيْرِكَ»[16].
وقد حرص أمير المؤمنين (عليه السلام) على تنبيه شيعته من ارتكاب الذنوب والخطايا، نظراً للآثار السلبيّة التي تتركها في النفوس، وما يترتّب عليها من الجزاء في الدنيا والآخرة، فرُوي عنه محذِّراً أصحابه: «احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ وَالْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ»[17].
3. الدنيا ليست هدفاً
ومن دروس أمير المؤمنين (عليه السلام) لشيعته أنّ الدنيا ليست هدفاً، وليست الغاية والمنتهى، إنّما هي مرحلة يعبر منها الإنسان ليصل إلى داره ومقرّه الأساسيّ، يقول (عليه السلام) مبيّناً ذلك: «الدُّنْيَا خُلِقَتْ لِغَيْرِهَا، وَلَمْ تُخْلَقْ لِنَفْسِهَا»[18]، وهي أيضاً: «دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مَقَرٍّ»[19]، وقد أوصى ولده الإمام الحسن (عليه السلام)، فقال: «وَأَنَّكَ فِي قُلْعَةٍ، وَدَارِ بُلْغَةٍ، وَطَرِيقٍ إِلَى الْآخِرَةِ»[20].
وإنّ الله تعالى يختبر عباده في هذه الدنيا ويمتحنهم ويبتليهم ليعلم أيّهم أحسن عملاً، قال (عليه السلام): «إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا، وَابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا، لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَلَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا، وَلَا بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا، وَإِنَّمَا وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَي بِهَا»[21].
لذا يجب على الإنسان التزوّد من هذه الدار؛ إذ فيها الماء والكلأ، وبها تُحرَز الآخرة، قال (عليه السلام): «إِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ، بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الْأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ»[22].
أشرف الموت قتل الشهادة
فطوبى لمن غادرها بأرقى طرق المغادرة، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أشرف الموت قتل الشهادة»[23]، طوبى لمن ارتحل عنها شهيداً في سبيل الله تعالى، فلولا هؤلاء الشهداء وعطاءاتهم لما حُفِظ نهج أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولما استطاعت الأمّة أن تواصل طريقها بحرّيّة وعزّة وكرامة.
إنّ عطاءات الشهيد وخدماته هي التي أنبتت وأثمرت عطاءات الآخرين، فبدون حرّيّة كيف يعطي الآخرون؟ والحرّيّة من عطاءات الشهيد. وبدون عزّة كيف ينتج ويتقدّم الآخرون؟ والعزّة من عطاءات الشهيد. وبدون أمن وطمأنينة كيف يبدع الآخرون؟ والأمن والطمأنينة من عطاءات الشهيد.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص73.
[2] المصدر نفسه، ج2، ص75.
[3] العلّامة الطبطبائيّ، تفسير الميزان، ج10، ص88.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص417، الكتاب 45.
[5] المصدر نفسه، ص221، الخطبة 157.
[6] المصدر نفسه، ص235، الخطبة 164.
[7] المصدر نفسه، ص330، الخطبة 214.
[8] المصدر نفسه، ص251، الخطبة 176.
[9] المصدر نفسه، ص390، الكتاب 30.
[10] الشيخ المفيد، الأمالي، ص5.
[11] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص73، الخطبة 29.
[12] المصدر نفسه، ص83، الخطبة 41.
[13] المصدر نفسه، ص83، الخطبة 42.
[14] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص25.
[15] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص508، الحكمة 227.
[16] المصدر نفسه، ص556، الحكمة 458.
[17] المصدر نفسه، ص114، الخطبة 83.
[18] المصدر نفسه، ص557، الحكمة 463.
[19] المصدر نفسه، ص493، الحكمة 133.
[20] المصدر نفسه، ص400، الكتاب 31.
[21] المصدر نفسه، ص446، الكتاب 55.
[22] المصدر نفسه، ص190، الخطبة 132.
[23] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص576.