بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على خير خلقه محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى شهيدنا الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء بذكرى شهادة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام)، في الخامس والعشرين من شهر رجب، عام 183 للهجرة.
جاء في وصيّة الإمام الكاظم (عليه السلام) لهشام بن الحكم: «يا هشام، مَن صدقَ لسانُه زكا عملُه، ومَن حسُنَت نيّتُه زيدَ في رزقِه، ومَن حسُنَ برُّه بإخوانِه وأهلِه مُدَّ في عمرِه»[1].
قبس من سيرة الإمام الكاظم (عليه السلام)
إنّه سابع أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، وُلِد في نهاية العهد الأمويّ سنة 128 للهجرة، وعاصر انهيار هذا العهد الذي عاث باسم الخلافة الإسلاميّة فساداً. وعايش بدايات نشوء الحكم العبّاسي، الذي استولى على مركز القيادة في العالم الإسلاميّ تحت شعار «الرضا من آل محمّد».
عاش في ظلّ أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) عقدَين من عمره المبارك، وقد أحكم (عليه السلام) التدبير، للحفاظ على ولده الإمام الكاظم (عليه السلام)، ضماناً لاستمرار حركة الرسالة الإلهيّة في أقسى الظروف السياسيّة.
لقد عاش الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ثلاثة عقود من عمره المبارك والحكم العبّاسي لَمّا يستفحل، ولكنّه عانى في عقده الأخير ضغوطاً قلّما عاناها أحدٌ من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام)، حيث السجن المستمرّ، وصولاً إلى القتل في سبيل الله على أيدي عملاء السلطة الحاكمة باسم الله ورسوله.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) مبيناً صعوبة هذه المرحلة وخطرها: «إنّ حياة موسى بن جعفر، أي إمامته، بدأت في أصعب المراحل والمقاطع الزمنيّة. فباعتقادي لا يوجد عصر من بعد عصر الإمام السجّاد (عليه السلام) بشدّة وصعوبة عصر موسى بن جعفر (عليه السلام)؛ فموسى بن جعفر (عليه السلام) صار إماماً عام 148 بعد وفاة أبيه الإمام الصادق (عليه السلام). وفي هذا العام كانت أوضاع بني العبّاس قد استتبَّت، بعد فراغهم من الصراعات والخلافات والحروب التي كانت دائرة فيما بينهم في بداية حكمهم»[2].
ثمّ يشير (دام ظلّه) إلى أنّ استمرار نهج الأئمّة (عليهم السلام) وتكامله، إنّما كان عبر السعي والجهاد: «في هذا العصر، الشيء الوحيد الذي كان من الممكن أن يمنح جهاد أهل البيت (عليهم السلام) وحركتهم الفكريّة والسياسيّة، هم وأتباعهم، مجالاً للاستمرار والتكامل، هو السعي دون هوادة والجهاد الخطير واعتماد أسلوب التقيّة الإلهية. وبهذا اللحاظ تتضّح العظمة المدهشة لجهاد موسى بن جعفر (عليه السلام)»[3].
نظرة في وصيّته (عليه السلام)
هي وصيّة طويلة ومفصّلة، ذكرها الإمام (عليه السلام) لهشام بن الحكم، وهي تشتمل على مواعظ بليغة، وحكم رائعة، وأقوال جامعة، ولا سيّما في العقل وأهمّيّته وجنوده، وفيها يقول (عليه السلام): «يا هشام، اعرف العقل وجنده، والجهل وجنده، تكن من المهتدين»، ويختمها الإمام (عليه السلام) بقوله في آخرها: «يا هشام، لا تُجمَع هذه الخصال إلّا لنبيّ، أو وصيّ، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان». ومراعاةً للمقال، وفي ذكرى شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)، نأخذ من هذه الوصيّة العظيمة المقطع الذي صُدِّرَت به الخطبة، والذي يشتمل على ثلاث وصايا، هي:
1. مَن صدقَ لسانُه زكا عملُه
إنّ الصدق من المفردات التربويّة التي لها صلة وثيقة بإيمان الإنسان وسلوكه الاجتماعيّ، وقد ورد في الأحاديث والروايات عن أهل العصمة (عليهم السلام) أنّه رأس الإيمان ودعامته، ولباس الدين، وروح الكلام، وفيه صلاح كلّ شيء... عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الإِيمَانُ أَنْ تُؤْثِرَ الصِّدْقَ حَيْثُ يَضُرُّكَ، عَلَى الْكَذِبِ حَيْثُ يَنْفَعُكَ»[4].
وعندما نتأمّل في فضل الصدق وآثاره على إيمان الإنسان وسلوكه الفرديّ والاجتماعيّ، ندرك كيف يزكو العمل وينمو؛ إذ إنّ الصدق يجعل من المرء إنساناً سويّاً في سلوكه وأعماله كافّة، وهذا يعني أنّه يسير في مسيرة التقوى التي تقرّبه من الله تعالى؛ فهو لا يحابي، ولا يرائي، ولا ينافق، بل تخضع أفعاله وأقواله لميزان العقل والشرع؛ وبذلك يزكو العمل، ويزداد خيراً وبركة؛ إذ إنّ الجزاء عند الله تعالى من جنس العمل، وقد ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحجّ والمعروف، وطنطنتهم بالليل؛ انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة»[5].
وإنّ الصدق يكون في القول والفعل، وفي النيّة والإرادة، وفي العزم والوفاء به، وفي مقامات الدين، وهو أرقى الدرجات وأعزّها؛ إذ يربّي الإنسان نفسه على العلاقة الصادقة مع الله تعالى، فيكون صادقاً في خشيته وخوفه منه تعالى، في تعظيمه وحبّه والتوكّل عليه، في الرضا بقضائه وقدره.
2. ومَن حسُنَت نيّتُه زيدَ في رزقِه
إنّ مسألة النيّة من العناوين الإسلاميّة الأساسيّة في حياة الإنسان؛ إذ إنّها تجسّد الدوافع التي تحرّك الإنسان نحو العمل، سواءٌ أكان عمله عباديّاً بينه وبين ربّه، أو كان مرتبطاً بعلاقاته مع الآخرين وفي حياته. فالنيّة لها تأثيرها في أعمال العباد وفي أنفسهم، وعلى الصعيدَين، الدنيويّ والأخرويّ، وهي شرط واجب لجميع العبادات، ولا يمكن لأحدٍ أن يؤدّي عبادة من دون نيّة القربة إلى الله تعالى، بل يمكن تحصيل الثواب في جميع الأعمال والمعاملات المختلفة التي لا تُشترَط فيها النيّة أصلاً، إذا نُوي فيها القربة لله تعالى، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يا أبا ذرّ، ليكن لك في كلّ شيء نيّة صالحة، حتّى في النوم والأكل»[6]؛ فالله تعالى يريد من عبده أن يكون في كلّ حركاته وسكناته له جلّ وعلا، لا لغيره، وإنّ القيمة التي يمنحها سبحانه للإنسان تتحدّد بمقدار ما يكون الله تعالى حاضراً في قلبه.
لذلك، لا بدّ للإنسان من أن يستشعر عظمة الله في نفسه، بحيث يكون حاضراً دائماً في قلبه، وهذا يحتاج إلى بناء النيّة بشكلٍ سليمٍ وخالصٍ لوجهه تعالى، وأن يعيش الإنسان هذه النيّة في كلّ وجوده، فقد ورد في الأحاديث أنّ قيمة العمل إنّما تتحدَّد بقيمة النيّة، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «النيّة أساس العمل»[7]، و«الأعمال ثمار النيّات»[8]، فكلّما كانت النيّة أكثر نموّاً وصفاءً وخلوصاً في قلب المرء، كانت الأعمال أكثر نضجاً وأشدّ صلاحاً.
ومن الأمور التي ينبغي تربية النفس عليها، حسن النيّة تجاه الآخرين، وعدم سوء الظنّ، وهو ما حثّت عليه الروايات العديدة، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «عوّد نفسك حسن النيّة وجميل المقصد، تُدرك في مباغيك النجاح»[9].
وفي المقابل عدّت الروايات سوء النيّة من الأمراض الخطيرة التي يجب اقتلاعها من النفس، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً: «سوء النيّة داء دفين»[10]، و«من الشقاء فساد النيّة»[11].
3. ومَن حسُنَ برُّه بإخوانِه وأهلِه مُدَّ في عمرِه
إنّ الروايات قد استفاضت في الحثّ على البرّ بالإخوان والأرحام، وذكرت الكثير من الآثار المترتبة على ذلك في الدنيا والآخرة؛ فلصلة الأرحام آثار إيجابيّة في الحياة الإنسانيّة بجميع مقوّماتها، عن الإمام الباقر (عليه السلام): «صلة الأرحام تزكّي الأعمال، وتنمّي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتُنسئ في الأجل»[12].
ومن أبرز الآثار التي ذكرتها الروايات حول صلة الرحم والبرّ بهم زيادة العمر، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما نعلم شيئاً يزيد في العمر إلّا صلة الرحم، حتّى أّن الرجل يكون أجله ثلاث سنين، فيكون وصولاً للرحم، فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة، فيجعلها ثلاثاً وثلاثين سنة، ويكون أجله ثلاثاً وثلاثين سنة، فيكون قاطعاً للرحم، فينقصه الله ثلاثين سنة، ويجعل أجله إلى ثلاث سنين»[13].
حادثةٌ في البرّ وقضاء الحوائج
ولقد كان الإمام الكاظم (عليه السلام) يأمر شيعته بالبرّ والمعروف، وكان (عليه السلام) يرى أنّ إدخال الغبطة على الناس وقضاء حوائجهم من أهمّ أفعال الخير. وقد رُوي أنّ شخصاً من أهل الريّ، كانت عليه أموال طائلة لحكومة الريّ، يطالبه بها الوالي، ولم يتمكّن من أدائها، وخاف على نعمته أن تُسلب منه، فسأل عن حاكم الريّ، فأُخبِر أنّه من الشيعة، فاجتمع رأيه على السفر إلى الحجّ، وأن يلتقي بالإمام الكاظم (عليه السلام) ليستجير به، فسافر، فلمّا انتهى إليه، وتشرّف بمقابلته، شكا إليه حاله، فزوّده (عليه السلام) برسالة جاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، اعلم أنّ لله تحت عرشه ظلّاً لا يسكنه إلّا مَن أسدى إلى أخيه معروفاً، أو نفّس عنه كربة، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك والسلام».
يقول هذا الرجل: فعُدتُ من الحجّ إلى بلدي، ومضيتُ إلى الرجل ليلاً، واستأذنتُ عليه، وقلت: رسول الصابر (عليه السلام)، فخرج إليّ حافياً ماشياً، ففتح لي بابه، وقبّلني، وضمّني إليه، وجعل يقبّل بين عينيّ، ويكرّر ذلك كلّما سألني عن رؤيته (عليه السلام)، وكلّما أخبرتُه بسلامته وصلاح أحواله، استبشر، وشكر الله، ثمّ أدخلني داره، وصدّرني في مجلسه، وجلس بين يديّ، فأخرجتُ إليه كتابه (عليه السلام)، فقبّله قائماً، وقرأه، ثمّ استدعى بماله وثيابه، فقاسمني ديناراً ديناراً، ودرهماً درهماً، وثوباً ثوباً، وأعطاني قيمة ما لم يمكن قسمته، وفي كلّ شيء من ذلك يقول: يا أخي، هل سررتُك؟ فأقول: إي والله، وزدتَ على السرور، ثمّ استدعى العمل، فأسقط ما كان باسمي، وأعطاني براءة ممّا يتوجّه عليّ منه، وودّعتُه، وانصرفتُ عنه.
فقلتُ: لا أقدر على مكافاة هذا الرجل، إلّا بأنّ أحجّ في قابل، وأدعو له، وألقى الصابر (عليه السلام)، وأعرّفه فعله، ففعلتُ، ولقيتُ مولاي الصابر (عليه السلام)، وجعلتُ أحدّثه، ووجهه يتهلّل فرحاً، فقلت: يا مولاي، هل سرّك ذلك؟ فقال: «إي والله، لقد سرّني، وسرّ أمير المؤمنين. والله، لقد سرّ جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولقد سرّ الله تعالى»[14].
[1] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص388.
[2] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص318.
[3] المصدر نفسه، ص314.
[4] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص556، الحكمة 458.
[5] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص379.
[6] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، ص464.
[7] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص29
[8] المصدر نفسه، ص19.
[9] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص340.
[10] المصدر نفسه، ص284.
[11] المصدر نفسه، ص470.
[12] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص150.
[13] المصدر نفسه، ج2، ص153.
[14] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج48، ص174.