بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى شهيدنا الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التبريك بذكرى ولادةِ عليٍّ الأكبر بن الإمام الحسين (عليهما السلام)، في الحادي عشر من شهر شعبان، سنة 33 للهجرة، وذكرى انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979م.
كما ونرفع أسمى آيات العزاء بذكرى شهادة القائد الجهاديّ الكبير الحاج عماد مغنيّة، في الثاني عشر من شباط، عام 2008م.
جاء في ذكر الأحداث التي حصلت عندما كان الإمام الحسين (عليه السلام) في طريقه إلى كربلاء، أنّه (عليه السلام) خفق -وهو على ظهر فرسه- خفقة، ثمّ انتبه وهو يقول: «إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والحمد لله ربّ العالمين»، فعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً، فأقبل إليه ابنه عليّ بن الحسين (عليهما السلام) على فرس، فقال: ممَّ حمدت الله واسترجعت؟ فقال: «يا بُنيّ، إنّي خفقت خفقة، فعنَّ لي فارس على فرس، وهو يقول: القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم، فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيَت إلينا!»، فقال له: يا أبتِ، لا أراك الله سوءاً! ألسنا على الحقّ؟ قال: «بلى، والذي إليه مرجع العباد»، قال: فإنّنا إذاً لا نبالي أن نموت محقِّين، فقال له الحسين (عليه السلام): «جزاك الله من ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده!»[1].
ينطوي كلام عليّ الأكبر (عليه السلام) على معانٍ عظيمة، تتجلّى فيها العقيدة الراسخة والإيمان العميق بالمبدأ والحقّ، ولا شكّ في أنّ سؤاله لأبيه (عليه السلام) لم يكن للتأكّد من صحّة الموقف وسلامة المسار، بل كان يؤكّد قناعته التي يحملها، ويظهر يقينه الكامل بها، ويبيّن استعداده للشهادة في سبيلها.
لقد كان الموقف حاسماً في مواجهة الباطل، وكلام عليّ الأكبر (عليه السلام) إنّما يدلّ على شجاعة كبيرة وإيمان عميق، بحيث يرى أنّ الموت في سبيل الحقّ ودفاعاً عنه لا يشكّل خسارة، بل هو شرف وواجب. وهذه اللامبالاة بالموت في سبيل الحقّ تعكس قمّة الإيمان؛ إذ إنّ الإنسان إذا كان على يقين بأنّه يسير في طريق الحقّ، فلن يكون الموت عائقاً له، بل سيكون باباً إلى الخلود والعزّة والشرف.
لقد كان جواب عليّ الأكبر يعكس دلالة عقائديّة، يعكس عقيدة أهل البيت (عليهم السلام) في رفض الظلم والاستسلام والخضوع للباطل، يعبّر عن مبدأ التضحية في سبيل الحقّ، وهو جوهر رسالة كربلاء، ويُرشد المؤمنين إلى أنّ الثبات على المبدأ أهمّ من الحياة نفسها، وأنّ العاقبة للحقّ وأهله.
وبذلك كان هذا الموقف نموذجاً للبطولة والإيمان الراسخ الذي استمرّ في مدرسة كربلاء، وأصبح مثالاً يُحتذى عبر الأجيال.
الثبات على الحقّ
إنّ الحقّ والثبات عليه، هما من أعظم القِيم التي حثّنا عليها الإسلام، يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾[2].
والحقّ هو ما يُرضي الله تعالى، وهو ما يأمر به في كتابه الكريم وسنّة نبيّه (صلّى الله عليه وآله)، وهو الطريق الذي لا عوج فيه ولا لبس، وكلّ ما خالف هذا الحقّ فهو باطل. وقد بيّن لنا أهل العصمة (عليهم السلام) وجوب التمسّك به، وترك الباطل، وعدم الرضوخ له، مهما كانت التحدّيات والظروف، عن الإمام أبي الحسن الماضي [الإمام الكاظم (عليه السلام)]: «قل الحقّ وإن كان فيه هلاكك، فإنّ فيه نجاتك، ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك، فإنّ فيه هلاكك»[3].
بل إنّ سكوت أهل الحقّ وعدم مواجهتهم للباطل، يُعَدّ إمضاءً وتأييداً للباطل من حيث لا يشاؤون، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «حينما تُمسِكُ قوّةٌ بجميع إمكانات المجتمعات أو بإمكانات مجتمعٍ واحد، وتنتهج سبيلَ الطغيان وتسير فيه، إذا لم يقف في وجهها رجالُ الحقّ ودعاتُه، ولم يشيروا إلى مواطن الخطأ في مسيرتها، فإنّهم إنّما يُمضون ممارساتِها بفعلهم هذا؛ أي إنّ الظلمَ سينال إمضاءَ أهل الحقّ من دون أن يشاؤوا ذلك»[4].
إنّ الحقّ يقتضي أن نتّبع ما أمرنا به الله، وأن نبتعد عمّا نهانا عنه، مهما كلّفنا ذلك من تضحيات، بل أُمرنا بأن نصبر على مرارته، عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في وصيّته لابنه الإمام الباقر (عليه السلام): «يا بُنيّ، اصبر على الحقّ، وإن كان مرّاً»[5].
والصبر يعني الثبات، يعني التمسّك بالحقّ في وجه كلّ الفتن والمغريات، وعدم التأثّر بما يواجهه من صعاب، قال تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ﴾[6]؛ وإنّ من أعظم صور الثبات على الحقّ هو أن يكون الإنسان مستعدّاً للدفاع عنه حتّى لو كان في ذلك مشّقة أو ثمن باهظ، فمن يتّبع الحقّ لا يخشى إلّا الله، ولا يلتفت إلى الوعود الكاذبة، ولا إلى الضغوطات الاجتماعيّة؛ إذ إنّ المؤمن الصادق هو الذي لا يتزلزل أمام العواصف، ولا ينحني للضغوط، ولا يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا قليل. الحقّ ليس مجرّد كلمة تُقال، بل هو موقف يُتّخذ، والتزام يُمارَس، وثباتٌ يُختبر.
يقول شهيد الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «إنّ المؤمن، مهما كانت المصائب والمصاعب، ومهما أحاطت به الظروف القاسية، لا يمكن أن يضعف، لا يمكن أن يَهين، لا يمكن أن يستسلم، لا يمكن أن يُظهِر أيَّ علامة من علامات الخضوع والذلّ... إنّ المؤمن لا يمكن أن ييأس، بل ينظر بعين الله إلى كلّ الأيّام والسنين والقرون الآتية، لا يمكن أن ييأس، ولا يمكن أن ينتهي الأمل؛ لأنّه ينطلق من الثقة بالله سبحانه وتعالى، وبِوعده»[7].
عوامل الثبات على الحقّ
أيّها المؤمنون، لنكن من أهل الحقّ، ولنسعَ لأن نثبت عليه في جميع الأوقات وكافّة الظروف، لنكن من الذين يصبرون في وجه الفتن، ويعلمون أنّ الثبات على الحقّ هو طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، ومن العوامل المساعدة على هذا الثبات:
1. الإخلاص لله: فالمخلص لا يخاف إلّا الله، ولا يطلب رضا الناس على حساب رضا الله، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ المؤمن ليخشع له كلّ شيء، ويهابه كلّ شيء»، ثمّ قال: «إذا كان مخلصاً لله، أخاف الله منه كلّ شيء»[8].
2. العلم والبصيرة: فمن كان على بيّنة من أمره، لا تضلّه الفتن، ولا تخدعه الشعارات الكاذبة، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ قلوب الجهّال تستفزّها الأطماع، وترتهنها المُنى، وتستعلقها الخدائع»[9].
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «إذا لم تكن لدينا بصيرة، ولم تكن لدينا رؤية صحيحة وأعين مفتّحة ويقظة لازمة، فسوف لن نحدّد مصالحنا بشكلٍ صحيح، ولن نشخّص الطريق لتحقيق تلك المصالح بشكلٍ صحيح... عندما لا تكون هناك بصيرة فسيكون أمرنا كالإنسان الفاقد للبصر، إنّه لن يرى الطريق»[10].
3. التوكّل على الله: فمن جعل الله ثقته، أعانه وسدّده، ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[11]، وأورثه القوّة والشجاعة، عن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «من أحبّ أن يكون أقوى الناس، فليتوكّل على الله»[12].
4. عدم الخوف: يقول الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه): «لا تقلقوا ولا تضطربوا، وأبعدوا الخوف عن أنفسكم، فأنتم أتباع أئمّةٍ صبروا واستقاموا في النكبات والمصائب، وما نعانيه اليوم ليس شيئاً بالقياس إلى ما عانَوه»[13].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الثابتين على طريق الحقّ، وأن يمنحنا الصبر في مواجهة التحدّيات، وأن يجعلنا من أهل الثبات والاستقامة، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، والحمد لله ربّ العالمين.
[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص82.
[2] سورة الإسراء، الآية 81.
[3] الشيخ المفيد، الاختصاص، ص32.
[4] خطاب الوليّ 2010، ص61.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص91.
[6] سورة إبراهيم، الآية 27.
[7] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 17/09/2022م.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج66، ص285.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص23.
[10] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 30/10/2019م.
[11] سورة الطلاق، الآية 3.
[12] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص27.
[13] صحيفة الإمام، ج1، ص171.