بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
بدايةً، ونحن على أعتاب الأسبوع الأخير من شهر شعبان المعظَّم، والذي أعلنه الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه) أسبوعاً للمسجد، فإنّنا في هذا اليوم المبارك سنتكلّم على مكانة المسجد في الإسلام وأهمّيّته ودوره في بناء الإنسان والمجتمع...
كما سنتطرق في الختام إلى التشييع العظيم المُرتقَب يوم الأحد القادم إن شاء الله، للشيهد الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله وللشهيد الهاشميّ سماحة السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليهما)؛ إذ إنّه يوم مفصليّ في تاريخ هذه الأمّة، ويحمل معاني عظيمة من التضيحة والإيثار في سبيل الله.
يقول تعالى في كتابه الكريم: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ﴾[1].
إنّ المساجد بيوت الله ومهابط رحمتِه، فيها يُعبَد الله ويُوحَّد، وفيها يُذكَر اسمُه، وزوّاره فيها عُمَّارُها، وهي ملتقى المؤمنين من عبادِه وصفوتِه، وأحبُّ البقاع إليه تعالى، أساسُها على التقوى، وهي منارات الهدى وأعلام الدين، ومنطلق إعلان التوحيد.
لقد عظَّم الإسلامُ المسجد، وأعلى مكانتَه، ورسّخَ في النفوس قدسيّتَه؛ إذ أضافه اللَّهُ تعالى إلى نفسه إضافةَ تشريفٍ وتعظيمٍ وتكريم، فقال جلّ وعلا: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا﴾[2]، وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «قال الله تبارك وتعالى: ألا إنّ بيوتي في الأرض المساجد»[3].
أحبُّ البقاع إلى الله
وإنّ معنى أن يكون الشيء للَّه تعالى، هو أنّه خير محض، ومحور هداية وصفاء إلهيّ، وقد أكّدت الروايات ذلك، وأشارت إلى أنّ هذا المكان ليس لله فحسب، بل هو أحبّ الأمكنة إليه تعالى، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لجبرائيل (عليه السلام): يا جبرائيل، أيّ البقاع أحبّ إلى الله عزّ وجلّ؟ قال: المساجد، وأحبُّ أهلها إلى الله أوّلُهم دخولاً، وآخرهم خروجاً منها»[4].
ولا يخلو هذا الدخول والتردّد إلى المساجد من فائدة، سواءٌ على الصعيد الأخرويّ أو الدنيويّ، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «إنّ إطلاق ظاهرة المسجد... كان من أجمل وأعمق إبداعات الإسلام في بداية تأسيس المجتمع الإسلاميّ، بيت الله وبيت الناس، خلوة الأنس مع الله، وتجلّي الحشر مع الناس، قطب الذكر والمعراج المعنويّ، وميدان العلم، والجهاد، والتدبير الدنيويّ، مكان العبادة ومقرّ السياسة، ثنائيّات مترابطة تُظهر صورة المسجد الإسلاميّ...»[5]، هذه البركات تجعل مَن يترك التردّد إلى بيوت الله في منزلة الخسران الكبير.
الدور الرياديّ للمسجد
من هنا، كان للمسجد دور أساسيّ في بناء الشخصّية الإسلاميّة؛ إذ إنّه يمثّل محور حركة الإنسان الرساليّ والمجتمع، ومنطلق الأعمال الرياديّة؛ ولذلك نجد التأكيد الشديد من قادة الإسلام على ضرورة الاعتناء بالمساجد وعمارتها؛ وما ذلك إلّا لأجل الأدوار العظيمة التي يؤدّيها المسجد؛ إذ يكون زائره رابحاً في جميع أحواله، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَن اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان: أخاً مستفاداً في الله عزّ وجلّ، أو علماً مستطرفاً، أو آيةً محكمةً، أو رحمةً منتظرةً، أو كلمة تردّه عن ردىً، أو يسمع كلمة تدلّه على هدىً، أو يترك ذنباً خشيةً أو حياءً»[6].
ولنا أن نتأمّل في كلمات القادة، لنعلم كيف أنّ المساجد قاعدة الأعمال الصالحة والحسنة، وقاعدة بناء النفس وصناعة الإنسان، والأرضيّة اللازمة لبناء الإسلام ومواجهة الأعداء:
1. نواة المقاومة: يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «المسجد نواة المقاومة، غاية الأمر أنّه مركز المقاومة بأنواعها المختلفة؛ المقاومة الثقافيّة، والمقاومة السياسيّة، وكذلك -في الوقت المناسب- المقاومة الأمنيّة والعسكريّة، لقد كانت المساجد هكذا دوماً»[7].
2. بيت الوعي السياسيّ، فمن المسجد كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يبثّ الوعي في نفوس المسلمين، وعن هذا قال الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه): «المسجد هو مركز الاجتماعات السياسيّة»[8].
3. صلة وثيقة بالإسلام: يقول الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه): «انطلقوا إلى المساجد واملؤوها، واجعلوها القطب الأكثر أهمّيّة في حياتكم، فهذا تكليف إلهيّ في حدّ ذاته. ويُعدُّ حفظ المساجد والمثابرة على الحضور فيها من أشدّ الأمور ذات الصلة الوثيقة بالإسلام»[9].
4. مركز التربية والتعليم، ففيه كانت تتمّ عمليّة التعليم في زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وإليه يشير الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه) بقوله: «ينبغي أن تكون المساجد محالّاً للتربية والتعليم بالمعنى الحقيقيّ، وبجميع الأبعاد»[10].
5. خندق الإسلام ومحراب الحرب: يقول الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه): «المسجد هو خندق إسلاميّ، والمحراب هو محلّ الحرب، إنّهم يريدون أن يأخذوا هذا منكم، بل إنّ ذلك مقدّمة، وإلّا فاذهبوا وصلّوا ما شئتم»[11].
تفعيل الحضور في المساجد والصلاة فيها
وبناءً عليه، ينبغي العمل الجادّ ليصبح الحضور في المساجد وكثرة التردّد إليها جزءاً هامّاً وأساسيّاً من ثقافة المجتمع وواجباته، بل المطلوب إكثار الجلوس في المساجد، حتّى تصبح أرواحنا مجبولة على سكونه، ونفوسنا مستأنسة بزواياه، وقد شجّع الإسلام ذلك، فعن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «يا أبا ذرّ، إنّ اللَّه تعالى يعطيك ما دمت جالساً في المسجد بكلّ نَفَسٍ تنفّستَ درجةً في الجنّة، وتصلّي عليك الملائكة، ويُكتَب لك بكلّ نَفَسٍ تنفّست فيه عشر حسنات، ويُمحى عنك عشر سيئات»[12].
كما أنّ الروايات أكّدت ضرورة أداء الصلاة الواجبة في المسجد، وحثّت جار المسجد على حضور صلاة الفريضة فيه، ما لم يكن معذوراً لمرض أو غيره من الأعذار الشرعيّة، عن الإمام الصادق، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (صلوات الله عليهم): «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد، إلّا أن يكون له عذر، أو به علّة، فقيل له: ومَن جار المسجد يا أمير المؤمنين؟ قال (عليه السلام): مَن سمِع النداء»[13].
بل أكّدت الروايات أهمّيّة المشاركة في صلاة الجماعة في المسجد، فعن الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «ألا ومَن مشى إلى مسجد يطلب فيه الجماعة، كان له بكلّ خطوة سبعون ألف حسنة، ويُرفَع له من الدرجات مثل ذلك، فإن مات وهو على ذلك، وكّل اللَّه عزّ وجلّ به سبعين ألف ملك يعودونه في قبره، ويبشّرونه، ويؤنسونه في وحدته، ويستغفرون له حتّى يُبعَث»[14].
وعن الإمام الصادق عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): فمَن صلّى المغرب والعشاء الآخرة، وصلاة الغداة في المسجد في جماعة، فكأنّما أحيا الليل كلّه»[15].
بل ذمّت الروايات تارك جماعة المسلمين، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «مَن لم يصلِّ جماعة، فلا صلاة له بين المسلمين؛ لأنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: لا صلاة لمن لم يصلِّ في المسجد مع المسلمين إلّا من علة»[16].
ولأداء الصلاة جماعةً فضائل كثيرة وعظيمة، من حيث ضعف الثواب وقضاء الحوائج، فقد سأل زرارة الإمام الصادق (عليه السلام) قائلاً: ما يروي الناس أنّ الصلاة في جماعة أفضل من صلاة الرجل وحده بخمسٍ وعشرين صلاة؟ فقال (عليه السلام): «صدقوا»، فقلت: الرجلان يكونان جماعة؟ فقال: «نعم، ويقوم الرجل عن يمين الإمام»[17].
وعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّ الله عزّ وجلّ يستحيي من عبده إذا صلّى في جماعة، ثمّ سأله حاجته أن ينصرف حتّى يقضيها»[18].
توصية: لا تهجروا المساجد
إذا كان المسجد هو محور حركة الإنسان المؤمن الرساليّ، فإنّ هجرانه والتخلي عنه يعني تفكّك نواة الإسلام وتشتّت المجتمع الإسلاميّ، وهو من أخطر الأمراض الداخليّة التي يمكن أن يُبتلى بها المجتمع الإسلاميّ، بل إنّ الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه) يرى أنّ بقاء الإسلام في حفظ دور هذه المساجد! يقول (قُدِّس سرُّه): «إنّ حفظ المساجد من الأمور التي يعتمد عليها وجود الإسلام اليوم»[19].
وإنّ النعمة إذا وُجِدت، ولم يعطِها الإنسان حقّها، ولم يستفد منها، تحوّلت إلى نقمة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «ثلاثة يشكون إلى اللَّه عزَّ وجلَّ: مسجد خراب لا يُصلي فيه أهلُه، وعالمٌ بين جهّال، ومصحف معلَّق قد وقع عليه الغبار لا يُقرأ فيه»[20]، ويقول الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه): «لا تهجروا المساجد، فإنّ ذلك هو تكليفكم»[21].
ويرى الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في هجران المساجد تهديداً للمجتمع، إذ يقول: «يجب أن لا يغفل أيّ منّا، بل لا يستطيع أن يغفل عن الخطر الذي يهدِّد المجتمع، والعوائل، والأجيال القادمة، بسبب قلّة ارتياد المساجد أو ضعفها، أو أن نحرم أنفسنا من البركات العظيمة التي يهديها المسجد»[22].
المسجد منارة للجهاد
في الختام، لقد كان المسجد عبر التاريخ منارةً للجهاد، ومركزاً لصناعة الرجال وحفظ القيم والمبادئ. إنّه ليس مكاناً للصلاة فحسب، بل هو ميدان إعداد الأجيال التي تحمي هذا النهج وتصونه. لقد كان المسجد مدرسةً لصياغة الروح الجهاديّة، وحاضنةً للفكر المقاوم، ومركزاً لوحدة الصفّ والتوجيه. ومن هنا، فإنّ الحفاظ على المسجد، وإحياءه بالعلم والعبادة، هو جزء من حفظ خطّ المقاومة ونهج العزّة والكرامة.
في هذه الأيّام، ونحن نعيش أجواء الحزن والأسى على رحيل أميننا العامّ، الشهيد الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله، نتأمّل في مسيرته الجهاديّة والقياديّة التي تركت بصمات واضحة في تاريخ المقاومة الإسلاميّة؛ إذ كان (رضوان الله عليه) رمزاً للصمود والتحدّي، وقائداً حكيماً وشجاعاً، قاد المقاومة في أحلك الظروف، محقِّقاً إنجازات عظيمة في مواجهة الأعداء، ولم تزعزعه التحدّيات، بل ازداد عزيمةً وإصراراً على تحقيق النصر والكرامة لهذه الأمّة.
إنّ تشييع هذا القائد الفذّ ليس مجرّد مراسم وداع، بل هو تأكيد على الوفاء لدماء الشهداء، وتجديد للعهد بمواصلة درب المقاومة حتّى التحرير الكامل والنصر الكبير بإذنه تعالى. إنّ حضورنا ومشاركتنا في هذه المراسم يعكسان وحدة الصفّ، والتزامنا بالقيم والمبادئ التي ناضل من أجلها سماحة السيّد (رضوان الله عليه).
في الوقت ذاته، نشيّع الشهيد الهاشميّ سماحة السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه)، الذي كان الأخ المواسي للشهيد الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله، وعضده، وحامل رايته، ومحلّ ثقته، ومعتمده في الشدائد، والكفيل في المصاعب، لسنوات طويلة في خدمة الإسلام المحمّديّ الأصيل، والذي نجد في مسيرته رسالة واضحة بأنّ أمانة المقاومة مستمرّة، وأنّ المسيرة التي بدأها سيظلّ يتابعها من بعده رجالٌ صادقون، مثلما كان هو، من أبناء هذه الأمّة المخلصين.
إنّ مشاركتنا اليوم في تشييعهما (رضوان الله عليهما) ليست مجرّد توديع لجسد، بل هي مبايعة لنهج، وتجديد للعهد، بأنّنا سنحفظ هذه المسيرة، وسنكمل طريقهما مهما بلغت التضحيات؛ لأنّ درب الشهداء لا ينتهي برحيلهم، بل يبدأ من حيث توقفوا، ويستمرّ بأمانة من يحملون رايتهم بعدهم.
ندعو الجميع إلى المشاركة الفاعلة في تشييع الشهيدَين السيدَين (رضوان الله عليهما)، لنؤكّد للعالم أجمع أنّ مسيرة المقاومة مستمرّة، وأنّ دماء الشهداء ستظلّ نبراساً يضيء درب الأجيال القادمة نحو الحرّيّة والعزّة والكرامة.
اللهمّ، اجعلنا من الثابتين على درب الشهداء، واحفظ هذه الأمّة من الفتن، ووفّقنا لنكون أهلاً لحمل الأمانة وإكمال المسيرة، إنّك قادر على ما تشاء.
[1] سورة التوبة، الآية 18.
[2] سورة الجنّ، الآية 18.
[3] الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص28.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص489.
[5] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، خطاب الوليّ 2010م، ص378.
[6] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص237.
[7] من كلمة للإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في اليوم العالميّ للمسجد، بتاريخ 21/08/2016م.
[8] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه)، صحيفة الإمام، ج7، ص53.
[9] المصدر نفس، ج13، ص22.
[10] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه)، الكلمات القصار، ص64.
[11] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه)، منهجيّة الثورة الإسلاميّة، ص479.
[12] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، ص467.
[13] القاضي النعمان، دعائم الإسلام، ج1، ص148.
[14] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج4، ص17.
[15] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص407.
[16] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج2، ص325.
[17] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص371.
[18] ورّام بن أبي فارس، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، ج1، ص12.
[19] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه)، الكلمات القصار، ص65.
[20] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص613.
[21] الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه)، الكلمات القصار، ص64.
[22] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، خطاب الوليّ 2010م، ص378.