الجماعة سرُّ القوّة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين، الذي أمرَ بالوَحدة ونهى عن الفُرقة، وجعلَ الجماعةَ رحمةً، والفُرقةَ عذابًا. وأشهدُ أن لا إلهَ إلّا الله، وحدَه لا شريكَ له، أمرَ بالاعتصامِ بحبله المتين، فقال في كتابه المبين: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾[1]، وأشهدُ أنّ محمّدًا عبدُه ورسولُه، نبيُّ الجماعة، وداعيةُ الوحدة، صلّى الله عليه وعلى آله الميامين الأطهار.
أيّها المؤمنون،
يحثّنا الإسلامُ الحنيفُ على روحِ التعاون والعملِ الجماعيّ في مختلفِ مجالاتِ الحياة، سواء أكانت مرتبطةً بأمورِ الدين، أم بشؤونِ الدنيا. ومَن يتأمّل في آياتِ القرآن الكريم، وأحاديثِ النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، يجدْ أنّ مبدأَ الجماعة والتكافلِ الاجتماعيّ يحظى بأهمّيّةٍ قصوى في التشريعِ الإسلاميّ؛ إذ إنّه يمثّل ركيزةً أساسيّةً في بناءِ المجتمعِ المسلم.
فالإسلامُ لا ينظرُ إلى الإنسانِ ككائنٍ منفردٍ، بل كعنصرٍ فاعلٍ ضمن جماعةٍ متكاملة، تتضافر فيها الجهودُ لبناءِ منظومةٍ قائمةٍ على العدالة، والإحساس بالمسؤوليّة، وخدمةِ المصلحة العامّة. وهذا يتجلّى بوضوحٍ في العباداتِ الجماعيّة، مثل الصلاةِ في المسجد، والحجّ، ومجالسِ الذكرِ والدعاء، فضلًا عن التكاليفِ الاجتماعيّة الكبرى، كالجهادِ في سبيلِ الله، والدفاعِ عن حقوقِ المستضعفين، ومؤازرةِ المظلومين.
وقد عبّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن هذا المفهومِ بقوله: «والْزَمُوا السَّوَادَ الأَعْظَمَ، فَإِنَّ يَدَ اللَّه مَعَ الْجَمَاعَةِ، وإِيَّاكُمْ والْفُرْقَةَ، فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ، كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ»[2]، إشارةً إلى أنّ العَونَ الإلهيّ والبركةَ تحفّ الجماعةَ المتعاونةَ المتكاتفة، لا الأفرادَ المنعزلين.
ومن الملاحظِ في مسيرةِ التاريخِ الإسلاميّ، أنّ العديدَ من مظاهرِ الضعفِ والانكسارِ التي أصابتِ الأمّة، كانت نتيجةً لغيابِ روحِ الجماعة، وهيمنةِ النزعاتِ الفرديّة، وتغليبِ المصالحِ الشخصيّة على القِيمِ والمبادئ؛ ممّا أدّى إلى الانقسامِ والتنازع، وتراجعِ الإحساسِ بالمسؤوليّةِ الجماعيّة تجاهَ القضايا الكبرى، ولا سيّما همومِ المستضعفين والفقراء.
لقد رسمَ النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) صورةً مثاليّةً للمجتمعِ الإسلاميّ بقوله: «مثلُ المؤمنينَ في توادّهم وتراحمهم كمثلِ الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ، تداعى سائرُه بالسهرِ والحمّى»[3]. فالنجاحُ الحقيقيّ مرهونٌ بتحقيقِ هذا النموذجِ الإيمانيّ، حيثُ لا مكانَ للأنانيّةِ أو العزلة، بل يكونُ المسلمُ شريكًا في ألمِ أخيه، كما يشاركه في فرحه.
وما لم يُحقّق المسلمون هذا المفهوم، فإنّهم معرّضون للفشلِ والتراجع، إذ لا نصرَ بلا وحدة، ولا نجاحَ بلا تآزر، وكفى بقولِ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حجّةً واضحةً في ذلك: «مَن أصبح لا يهتمّ بأمورِ المسلمين، فليس بمسلم»[4]. فالإسلامُ يدعونا إلى أن نكونَ لَبِناتٍ في بناءٍ جماعيّ، لا أفرادًا مشتّتين على هامشِ الأمّة.
الصلاة جماعة
إنّ الجماعةَ في الإسلام ليست مجرّدَ تجمّعٍ لأفرادٍ مختلفين، بل هي مظهرٌ من مظاهرِ التكافلِ والتعاون، تسهمُ في بناءِ وحدةِ الأمّة وقوّتها. وواحدةٌ من أروعِ صورِ هذه الوحدةِ هي صلاةُ الجماعة، التي تُظهر بجلاءٍ تماسكَ المسلمين وتآزرهم في العبادةِ والطاعة.
وإنّ الرواياتِ الشريفة تُظهر حبَّ اللهِ ورسولِه لهذا المشهدِ العظيم، وهو صفوفُ الصلاةِ في جماعة، الذي يُعدّ تجسيدًا حقيقيًّا لمفهومِ الجماعة، عن رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله): «أمّا الجماعة، فإنّ صفوفَ أُمّتي في الأرض، كصفوفِ الملائكةِ في السماء، والركعةُ في جماعةٍ أربعٌ وعشرونَ ركعة، كلُّ ركعةٍ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ من عبادةِ أربعين سنة»[5].
وفي هذا المعنى العظيم، رتّب اللهُ سبحانه على الصلاةِ في جماعة ثوابًا جزيلًا، وجعلها من أعظمِ الأعمال التي يمكنُ للمسلم أن يؤدّيَها. فالصلاةُ جماعةً لا تمثّل مجرّدَ أداءِ عبادةٍ فرديّة، بل هي شكلٌ من أشكالِ التضامنِ الروحيّ والجماعيّ، الذي يُعزّز الروابطَ بين المسلمين، ويُظهر قوّتَهم ووحدتَهم في وجهِ التحدّيات.
وفي هذا الصدد، يُؤكّد الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) أهمّيّةَ المحافظة على هذه الشعيرةِ الربّانيّة، إذ يقول: «من المناسبِ للمؤمنين أن يجتمعوا في مكانٍ واحد، ويحضروا جميعًا صلاةَ جماعةٍ واحدة، من أجلِ إضفاءِ العظمةِ على المراسمِ الدينيّة لصلاةِ الجماعة»[6].
كما يُشدّد (دام ظلّه) على ضرورةِ أن تتمّ الصلاةُ تحت إمامةِ العلماء وأهلِ الفضل، لأنّ إمامتَهم تعكسُ القيادةَ الرشيدةَ التي توجّه الأمّةَ نحو الخير. إذ يقول: «لو كان بإمكانِ الإخوةِ الأعزّاء بسهولةٍ أداءُ الفريضةِ خلفَ عالمِ الدينِ الذي يجدونه أهلًا للاقتداءِ به، ولو بالخروجِ إلى بعضِ المساجدِ المجاورة، فلا ينبغي لهم الاقتداءُ بغيرِ عالمِ الدين، بل الاقتداءُ بغيرِه لا يخلو في بعضِ الموارد من الإشكال»[7].
إنّ صلاةَ الجماعة، بهذا المعنى، هي خطوةٌ نحو بناءِ مجتمعٍ قويٍّ متعاون، يسعى لتحقيقِ مصلحةِ الأمّة.
الدعاء جماعة
كذلك، فإنّ لاجتماعِ المؤمنين في مجلسٍ واحدٍ لقراءةِ الأدعيةِ المباركة أثرًا مميّزًا، وقيمةً تفوق ما للدعاءِ الفرديّ، إذ وعد الله تعالى عبادَه بالاستجابةِ القطعيّةِ لدعائِهم حين يجتمعون ويتّحدون في الطلب، جزاءً على وحدةِ قلوبهم وتآلفِ نيّاتهم. وقد دأبَ الأنبياءُ والأوصياءُ (عليهم السلام) على الحثّ على هذا المنهج، وتأكيدِه في تعاليمهم وسيرتِهم.
وقد جاء عن رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله): «لا يجتمعُ أربعون رجلًا في أمرٍ واحد إلّا استجابَ اللهُ تعالى لهم، حتى لو دعوا على جبلٍ لأزالوه»[8]. وهي من الرواياتِ التي تُبيّن بوضوحٍ، وبلسانِ العدد، عظيمَ أثرِ الدعاءِ الجماعيّ، وما يحمله من قوّةٍ روحيّةٍ تستنزلُ الرحمةَ الإلهيّة وتقرّبُ الإجابة.
الجهاد جماعة
وأيضًا، من أعظمِ صورِ التضامنِ والاتّحادِ بين المسلمين الجهاد، والذي يُعبّر عن وحدةِ الأمّة وقوّتِها، ولا يكونُ الفردُ في ساحةِ الجهادِ إلّا ضمن جماعةٍ متّحدةٍ تساندُ بعضَها بعضًا، ويشعرُ كلُّ فردٍ فيها بأنّه جزءٌ من كيانٍ واحد، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾[9].
إنّ قوّةَ المسلمين لا تتحقّق من خلالِ تفرّقِهم وتجزّؤهم، بل هي متجسّدةٌ في تماسكِهم واتّحادِهم تحت رايةِ الحقّ، في قتالهم ضدّ الأعداءِ بالطريقةِ التي يرضاها الله سبحانه. فالمرادُ أن يكونوا كالبنيانِ المرصوص، يشدُّ بعضُهم بعضًا، ممّا يُعزّز عزائمَهم ويزيدُ في قوّتِهم. وهذا المبدأُ جزءٌ من الشريعةِ الإسلاميّة، التي شهدت لها تضحياتُ المجاهدينَ والشهداءِ منذ فجرِ الإسلام. وعلى النقيضِ من ذلك، فإنّ التفرُّقَ والاختلافَ كانا سببًا في كثيرٍ من الهزائمِ والضياع، وهو ما يرفضُه الله عزّ وجلّ.
أيّها الأحبّة،
لقد تجلّت عظمةُ الجماعةِ في الإسلام، وما تحمله من معانٍ ساميةٍ ومقاصدَ عظيمة، في العبادةِ والسلوك، في الدعاءِ والجهاد، في البناءِ الروحيّ والاجتماعيّ. فإنّ روحَ الجماعةِ ليست خيارًا تكميليًّا، بل هي جوهرٌ من صميمِ الدين، وسرٌّ من أسرارِ القوّةِ والمنعة، ووسيلةٌ لنَيلِ التأييدِ الإلهيّ والبركةِ الربّانيّة.
فلنكن -معاشرَ المؤمنين- من أولئك الذين يعمّرون الأرضَ بالإيمانِ والعملِ الجماعيّ، ويجعلون من وحدتِهم سلاحًا في وجهِ الفُرقة، ومن تآزرِهم حصنًا منيعًا أمام التحدّيات. لنجعلْ من صلاةِ الجماعة، ومجالسِ الدعاء، ومواقفِ الجهاد، ميادينَ لتجديدِ عهدِ الانتماءِ للأمّة، والالتزامِ بمصيرِها، والتفاعلِ مع همومِها، والسعي في صلاحِها ورفعِ شأنِها.
نسألُ اللهَ تعالى أن يُؤلّفَ بين قلوبِنا، ويجمعَ كلمتَنا على الحقّ، وأن يجعلَنا من العاملينَ المخلصينَ في صفّ الجماعةِ المؤمنة، تحتَ رايةِ التوحيد، ومن السائرينَ على نهجِ نبيّهِ الكريمِ وآلِه الطاهرين. إنّه سميعٌ مجيب.
[1] سورة آل عمران، الآية 103.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص184، الخطبة 127.
[3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج58، ص150.
[4] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص164.
[5] الشيخ الصدوق، الخصال، ص355.
[6] الإمام الخامنئيّ، أجوبة الاستفتاءات، ج1، ص163.
[7] المصدر نفسه، ص109.
[8] الراونديّ، الدعوات (سلوة الحزين)، ص30.
[9] سورة الصفّ، الآية 4.