الحمدُ للهِ الذي يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تُخفي الصدور، ويعلمُ السِّرَّ وأخفى، له الحمدُ في الأولى والآخرة، وله الحكمُ وإليه تُرجَعون، وأشهدُ أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين، ومَن سار على دربهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أيّها المؤمنون،
إنّ مرحلة الشباب هي من أعظم مراحل العمر، وهي من أمثل فرص الإصلاح وبناء الذات، ومن أخطرها في ذات الوقت؛ لما فيها من طاقاتٍ ونشاطٍ ونزوعٍ نحو التغيير والتفاعل، وقد قال الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، موجِّهاً خطابه إلى الشباب: «الجهاد الأكبر هو جهاد الإنسان لنفسه الطاغوتيّة. وعليكم أيّها الشبّان أن تشرعوا من الآن بهذا الجهاد، لا تَدَعوا قوى شبابكم تتبدّد، فكلّما ذهبت قوى الشباب من الإنسان، زادت جذور الأخلاق الفاسدة في الإنسان وتعقّدت، وصعب الجهاد. والشابّ يستطيع أن ينتصر في هذا الجهاد سريعاً، ولا يستطيع الشيخ بلوغ هذا النصر بسرعة. لا تَدَعوا إصلاح أحوالكم يتدحرج من الشباب إلى الشيخوخة، فمن مكائد النفس التي تكيدها لصاحبها هذا الأمر، وهو ما يقترحه الشيطان على الإنسان، أن دع إصلاح نفسك إلى آخر العمر، وتمتّع بشبابك الآن، وتُب في آخر العمر»[1].
أيّها الأحبّة،
هذا تحذير نابع من خبرةٍ بالواقع الذي نعيشه، واقعٍ يسقط فيه كثير من شبابنا ضحيّةَ غزوٍ ثقافيٍّ وإعلاميٍّ مسموم، تواطأ فيه الخارج مع ضعف الداخل، فانفتح شبابنا على هذه السموم، وانخرطوا فيها بمستوىً خطير. ولا شكّ في أنّ أسباب هذا الانحراف كثيرة، ولكنّ أحد أخطر مظاهره وأسبابه هو الاختلاط المحرّم بين الجنسين، والذي بات -مع الأسف- ظاهرةً اجتماعيّةً تتّسع يوماً بعد آخر.
الاختلاط، أيّها الأحبّة، هو اجتماع أفراد من الجنسين في محلّ واحد، وهذا بذاته ليس مذموماً ولا ممدوحاً، إنّما يتحدّد حكمه بحسب السياق والمقصد. وقد نهى الشارع المقدّس عن الاختلاط إذا كان بغير مقتضٍ عقلائيٍّ أو شرعيّ؛ لأنّ فيه ما يفتح أبواب الفتنة والانحراف.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «لقد عرف الإسلامُ الإنسانَ، فقرّر له حكم الحجاب، وحكم عدم الاختلاط بين المرأة والرجل. الإسلامُ عرفنا أنا وأنتم، فالإنسان ملك الله، والله هو الذي خلقه»[2].
من أسباب الاختلاط
إنّ الاختلاط قد يحصل أحياناً بشكلٍ عفويٍّ غير مدبَّر، وأحياناً كثيرة يكون مُخطَّطاً له ومقصوداً، ومن أبرز أسباب الاختلاط كما نراها في الواقع:
1. العلاقات الاجتماعيّة، والتي تنشأ بسبب الجوار أو تبادل الزيارات، ومع كثرة اللقاءات والاحتكاك، قد تحصل علاقات من دون مراعاة للضوابط الشرعيّة، خصوصاً في اللقاءات المختلطة في البيوت أو غيرها.
2. القرابة والمصاهرة، إذ يسعى كثير من الأقارب إلى توثيق الروابط وتوطيد أواصر العلاقات، ولكن يغيب عنهم أحياناً الحذر من التجاوزات في اللقاءات التي تتضمّن اختلاطاً محرّماً تحت عنوان صلة الرحم أو الاجتماع العائليّ.
3. الزمالة في العمل، إذ تفرض طبيعة العمل أحياناً اختلاطاً مستمرّاً ودائماً؛ الأمر الذي يؤدّي غالباً إلى تطوّرٍ في العلاقة، قد يتجاوز حدود الزمالة إلى ما لا يُرضي الله سبحانه.
4. الزمالة العلميّة، كما هو الحال في الجامعات والمدارس المختلطة، حيث يتوسّع التفاعل بين الجنسين، وقد يشمل حتّى العلاقة مع المدرّسين والهيئات التعليميّة.
5. الأماكن العامّة، كالحدائق، والمواصلات، والأسواق، والسفر... وهي مواضع يكثر فيها التماسّ المباشر.
6. وسائل التواصل والاتّصال الحديثة، وهي من أخطر أسباب الاختلاط في زماننا، فما يحصل عبر الهواتف، وتطبيقات المراسلة، ووسائل التواصل، يفتح مجالاً واسعاً لتدبير العلاقات وتوسيعها، وغالباً ما تكون النيّات غير صافية، والنتائج وخيمة.
آثار الاختلاط
عباد الله، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) منبِّهاً من خطورة الاختلاط وآثاره السلبيّة: «قضيّة اختلاط المرأة والرجل التي أطلقوا عليها اسم المساواة، وهي -مع الأسف- ليست مساواة، بل هي اختلاط بين المرأة والرجل... إنّه اختلاط مضرّ ومسموم جدّاً، وقد سمّم اليوم المجتمعات، والمجتمعات الغربيّة أكثر من غيرها، وراح مفكّروهم الآن يدركون أنّ هذا المسار مسار لا نهاية له أساساً؛ بمعنى أنّ هذا المسار سيستمرّ هكذا، والطبع الجشِع للإنسان سوف يأخذ هذا المسار إلى متاهات. هم يرَون هذا الاختلاط أحد أصولهم ومبادئهم»[3].
من هنا، فإنّ للاختلاط آثاراً سلبيّة عديدة، نذكر منها:
أوّلاً: النظر، وهو أدنى ما يحصل عند تلاقي الجنسين، وقد قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾[4]، وفي تفسير هذه الآية: «أي خيانتها، وهي مسارقة النظر إلى ما لا يحلّ النظر إليه»[5]. وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «العيون مصائد الشيطان»[6]، وعن نبيّ الله عيسى (عليه السلام)، محذِّراً: «إيّاكم والنظر إلى المحذورات؛ فإنّها بذر الشهوات ونبات الفسق»[7]، وعن الإمام الصادق (عليه السلام): «كم من نظرة أورثَت حسرة طويلة!»[8]، وفي ذلك إشارة إلى التفاعل النفسيّ، وما ينتج عنه من تداعيات في الدنيا، تُورِث الحسرة والندم، وصولاً إلى الآخرة.
ثانياً: ما بعد النظرة، فالنظر غالباً لا يقف عند حدّه، بل يستتبع تفاعلات وتأثيرات، ممّا يؤدّي إلى التواصل، ثمّ التحادث والتحاور، ثمّ إبرام المواعيد، التي تُوصِل بدورها إلى أكثر من ذلك.
وهكذا يُستدرَج الإنسان خطوةً خطوة، حتّى تُسقطه المعصية. وإذا تكرّرت هذه المشاهد، زال الحياء، الذي هو أعظم أسوار النفس، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الحياء يصدّ عن فعل القبيح»[9]، و«الحياء غضّ الطرف»[10].
والحياء من الإيمان، بل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه: «لا إيمان لمن لا حياء له»[11].
فإذا سقط الحياء، سقطت العفّة، وهي الحصن الداخليّ للإنسان، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «على قدر الحياء تكون العفّة»[12]، و«أصل المروءة الحياء، وثمرتها العفّة»[13]، فإذا ذهبت العفّة، انعدم الورع، وهجمت الغريزة، وسيطرت الشهوات، وتجرّأ الإنسان على الحرام.
وقد مدحت الروايات العفّة، فقال الإمام عليّ (عليه السلام): «مَا الْمُجَاهِدُ الشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ فَعَفَّ، لَكَادَ الْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ الْمَلَائِكَةِ»[14].
يشير الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) إلى تدهور المجتمعات الغربيّة والجرائم التي تحصل فيها، بسبب تفلّت الغرائز والشهوات، وعدم تقييدها بضوابط وحدود، فيقول: «ذات يوم كانوا يقولون لنا: إنّ في أوروبّا لا يوجد حجاب، والنساء والرجال يعيشون هناك حياة مختلطة، والأهواء والدوافع الجنسيّة هناك مُسيطَر عليها طبعاً.
طيّب، انظروا الآن، ولاحظوا كيف هو الوضع. هل تمّت السيطرة على الأهواء أم زيد من إثارة الأهواء والنزوات؟ كلّ هذه الجرائم تُرتكب اليوم في أمريكا وأوروبّا، ولم يعودوا مكتفين بالجنس الآخر! وسوف يحصل ما هو أسوأ»[15].
أيّها الأحبّة،
احذروا خطوات الشيطان ﴿وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾[16]، احذورا تزيين النفس ف﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾[17]، واستعينوا بالله على جهادها، فإنّ التوبة في آخر العمر ليست مضمونة، والعافية في الشباب فرصة لا تُعوّض، فليكن لكلّ شابٍّ منكم في قلبه ساحة بناءٍ للنقاء، لا ساحةً للانزلاق.
اللهمّ اجعلنا من العفيفين، واحفظ علينا أبصارنا وأعراضنا، وزيّنا بلباس الحياء، واغمر شبابنا بنور الهداية والتقوى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله ربّ العالمين.
[1] صحيفة الإمام، ج8، ص236.
[2] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 11/11/2015م.
[3] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 09/12/2013م.
[4] سورة غافر، الآية 19.
[5] الشيخ الطبرسيّ، مجمع البيان، ج8، ص433.
[6] ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، ص151.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، 101، ص42.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص559.
[9] الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، ص74.
[10] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص26.
[11] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص106.
[12] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص327.
[13] المصدر نفسه، ص112.
[14] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص559، الحكمة 474.
[15] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 11/11/2015م.
[16] سورة النور، الآية 21.
[17] سورة يوسف، الآية 53.