دروسٌ في الصبر الواعي والقيادة الرشيدة
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه أجمعين، محمّد وآله الطاهرين.
السلام عليك يا أبا عبد الله وعلى الأرواح التي حلَّت بفنائك، عليك منّي سلام الله أبداً ما بقيتُ وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد منّي لزيارتكم، السلام على الحسين، وعلى عليّ بن الحسين، وعلى أصحاب الحسين.
إلى مولانا صاحب الزمان وصاحب العزاء (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء، بذكرى شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) وأهل بيته وأصحابه (عليهم السلام)، سائلين المولى أن يرزقنا شفاعة الحسين يوم الورود، ويثبّت لنا قدمَ صدقٍ عنده مع الحسين وأصحاب الحسين الذين بذلوا مهجهم دون الحسين (عليه السلام).
قال الله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[1].
إنّ الحديث عن كربلاء لا يقتصر على ذِكر العطش والسيوف والرماح، وإن كان ذلك من عظيم البلاء، بل إنّ في كربلاء مشهداً أعظم يجب أن نقف عنده طويلاً، وهو مشهد الصبر الواعي والثبات الرساليّ الذي مثّله الإمام الحسين (عليه السلام) في أبهى صوره، حين سار في طريقه إلى الشهادة، برغم اعتراض كبار الأمّة ووجهائها، وبرغم كلّ التثبيط الموجَّه إليه ممن يُعَدّون من أهل الرأي والمكانة.
الصبر ليس تحمّل الأذى فقط
حينما نتكلّم على صبر الإمام الحسين (عليه السلام)، فإنّ أنظارنا تتّجه سريعاً إلى صبره على العطش، وعلى فقد الأحبّة، وعلى وقع الجراح والسيوف، وهي -بلا شكّ- وجوهٌ عظيمة من الابتلاء، ولكن يبيّن الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) أنّ هذا الصبر -على شدّته- هو الأسهل، بالمقارنة مع صنفٍ آخر من الصبر، قلّ مَن يتنبّه إليه، ألا وهو الصبر على مواجهة الشكّ والتثبيط، حين يصدر من شخصيّات وازنة ومرموقة، وذات نفوذٍ في الوسط الإسلاميّ.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) كان عملاً استثنائيّاً، وأبعاده تفوق بكثير ما يمكن أن ندركه بحسابات اليوم، فغالباً ما نصرف النظر عن أبعاده ودقائقه. ذات مرّة تحدّثتُ بالتفصيل عن صبر الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لم يكن صبره منحصراً في تحمّل العطش والصبر على مقتل الأصحاب، فمثل هذا صبرٌ سهلٌ. الصبر الأصعب هو أن يسمع أصحاب النفوذ والاطّلاع والاحترام يقولون له: لا تفعل هذا، وهذا عملٌ خاطئ وخطِر، وهم يبثّون الشكّ والتردّد»[2].
إنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم يُبتلَ فقط بأعداءٍ مكشوفين، بل واجه تحدّياً داخليّاً دقيقاً؛ أصواتاً من داخل الصفّ الإسلاميّ، ومن رجالاتٍ يُعَدّون من أهل الحكمة والبصيرة، تنصحه بعدم الخروج، وتقدّم له قراءات عقلانيّة مغلَّفة بالحرص على الدين والأمّة. وهنا يكمن الامتحان الأصعب: أن تبقى ثابتاً حين تكون في موقع الأقلّ رأياً، والضعيف سنداً، بينما تجمع الجهة المقابلة بين العقل والمكانة، والخبرة والخوف.
قال تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾[3]، وحقّ الجهاد لم يَقصُره الإمام الحسين (عليه السلام) على ساحة القتال المادّيّ، بل وسَّعه ليشمل جهاد النفس أمام الإقناع المُضلِّل، ومواجهة التأويلات العقلانيّة التي تُغلِّف التراجع بثوب الحكمة، وتدعو إلى التأجيل باسم المصلحة، والتريّث باسم وحدة الصفّ، والانسحاب درءاً للفتنة.
لقد كان صبر الإمام الحسين (عليه السلام) في هذا السياق صبراً على الغربة الفكريّة والوحشة المعنويّة، إذ وُضع بين خيارين: إمّا أن يمضي في أداء تكليفه والواجب العظيم، أو أن يرضخ لصوت الواقعيّة السياسيّة كما أرادها المقرّبون. فاختار الأوّل، ومضى من دون أن يُرهبه الميزان الظاهريّ للقوّة أو حجم المعترضين.
مَن هم الذين ثبَّطوا الإمام؟
لم يكن الذين واجهوا الإمام الحسين (عليه السلام) بالنصيحة بعدم الخروج من عامّة الناس، أو ممّن لا يُلتَفت إليهم، بل كما يبيّن الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، كانوا من كبار شخصيّات المجتمع الإسلاميّ يومها، يقول (دام ظلّه): «ومَن هم هؤلاء؟ إنّهم أمثال عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عبّاس، هذه الشخصيّات البارزة الكبرى في ذاك الزمن المميّز، وهم من أبناء الشخصيّات المهمّة في الإسلام، فقد كانوا يقولون: لا تفعل هذا»[4].
إنّ هذا الأمر جعل التحدّي الذي واجهه الإمام أعظم وأخطر؛ ولم يكن التثبيط صريح العداء، بل كان ملفوفاً بثوب النصح، ومُغلّفاً بمنطق العقلانيّة والمصلحة العامّة.
لقد جابه الإمام الحسين (عليه السلام) تأويلاتٍ دينيّةً من الداخل، وتأثيراً نفسيّاً يصدر من وجوهٍ لها تاريخها ومكانتها. وفي مثل هذا الموقف، كم من الناس سيضعف أمام هذه الأسماء؟ وكم منّا لو كان في ذلك الزمان كان سيقول: «لعلّ الحقّ معهم»؟!
ولقد عبّر القرآن الكريم عن هذا النوع من التثبيط بقوله: ﴿وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾[5].
في هذا السياق يصدح قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَيُّهَا النَّاسُ، لَا تَسْتَوْحِشُوا فِي طَرِيقِ الْهُدَى لِقِلَّةِ أَهْلِه»[6]، والإمام الحسين (عليه السلام) سار في هذا الطريق برغم قلّة الناصر وكثرة الناصح، وبرغم ضجيج الأصوات التي كانت تُلبِس الانسحاب لبوس التعقّل، وتُغلّف التراجع باسم الحكمة.
لذلك، كانت نهضته صرخةً في وجه التأويل والتبرير، وتطبيقاً حقيقيّاً لحديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطان جائر»[7]؛ كلمةٌ قالها الإمام الحسين (عليه السلام) بدمه، وموقفٌ جسّده بصموده، حين سقطت من حوله كلّ الاعتبارات، إلّا اعتبار التكليف والحقّ.
الإمام الحسين (عليه السلام) ونموذج القيادة الرشيدة
إنّ ما قام به الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن قراراً شخصيّاً عاطفيّاً، بل قراراً قياديّاً مبنيّاً على فهمٍ عميقٍ للتكليف الإلهيّ. لقد رأى أُمّةً تُقاد إلى الذلّ، وشريعةً تتحوّل إلى مسرحيّة سياسيّة، فوقف، لا ليقاتل فحسب، بل ليُعيد تعريف القيادة في الأمّة.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «لو لم يكن فيه [الإمام الحسين (عليه السلام)] ذلك العزم وتلك الإرادة والثبات، لكان سيقول في نفسه: لم يعد الأمر من تكليفي، فهؤلاء هكذا يقولون، والدنيا هكذا تتحرّك، فلنقل وندع الأمور».
ولكنّه (عليه السلام) لم يقل ذلك، بل قال: «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي محمّد (صلّى الله عليه وآله)»[8].
أتباع الحسين على هذا النهج
ولم يكن الإمام الحسين (عليه السلام) وحده في هذا الطريق، بل علّم الأجيال أن تكون مثله، كما نرى في مواقف مَن انتهج منهجه، وسار على دربه؛ فهذه زينب (عليها السلام) لم تضعف أمام الطغاة، بل قالت ليزيد: «فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، وَنَاصِبْ جُهْدَكَ، فَوَاللهِ لا تَمْحُو ذِكْرَنَا»[9].
وها هو إمامنا الخمينيّ (قُدِّس سرّه) أيضاً، وكما يحدّثنا مَن أحاط به خُبْراً الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «قد تشبّه إمامنا الجليل بهذا المجال، واقتفى أثر سيّد الشهداء... هذه هي حراسة الإمام الحسين»[10].
حاجتنا إلى الثبات الحسينيّ في هذا الزمن
أيّها المؤمنون، نحن نعيش زمناً تتكاثر فيه التثبيطات، وتُشوَّه فيه المفاهيم، ويُقال لمن يدعو للحقّ: أنت متشدّد، ويُقال لمن يناصر المقاومة: أنت تُورِّط البلد، فهل نقبل هذا الانحراف ونصمت؟ أليس واجبنا أن نقف كما وقف الإمام الحسين (عليه السلام)، وأن نصبر كما صبر، وأن نُعرِض عن منطق الأسماء اللامعة إذا ناقضَت منهج الحقّ؟
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً﴾[11].
ختاماً
فلنُجدد العهد مع سيّد الشهداء (عليه السلام) بأن نكون من السائرين في طريق الحقّ، وإن قلّ الناصر، ولنصبر صبر الواعين، لا صبر العاجزين، ولنكن في مواجهة كلّ تشكيك، كما كان الإمام الحسين (عليه السلام) في مواجهة ذلك، ثابتاً واثقاً، لا تهزّه الأصوات؛ لأنّه يعلم أنّ رضا الله فوق كلّ اعتبار.
[1] سورة هود، الآية 112.
[2] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 04/07/2011م.
[3] سورة الحجّ، الآية 78.
[4] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 04/07/2011م.
[5] سورة الأحزاب، الآية 12.
[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص319، الخطبة 201.
[7] ابن أي جمهور الأحسائيّ، عوالي اللئالي، ج1، ص432.
[8] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص329.
[9] المصدر نفسه، ج45، ص135.
[10] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 04/07/2011م.
[11] سورة الأنفال، الآية 29.