الحمد لله الذي جعل الصبر مفتاحاً للفرج، والبلاء ميداناً للثبات، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الذين كان صبرهم في الشدائد نوراً، وثباتهم في المحن هدايةً للأمّة.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى وليّ أمر المسلمين آية الله العظمى الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى شهيدنا الأقدس سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك بذكرى ولادة الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) في السابع من شهر صفر، سنة 128 للهجرة.
جاء في الرواية عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «لن تكونوا مؤمنين حتّى تعدّوا البلاء نعمة، والرخاء مصيبة؛ وذلك أنّ الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء»[1].
الإمام الكاظم (عليه السلام) إمام الصبر في السجن والظلم
لقد جسّد الإمام الكاظم (عليه السلام) في حياته أرقى معاني الصبر والثبات، فصار مدرسةً خالدةً في مواجهة القهر والظلم، من دون أن يتنازل عن مبدئه، أو يُفرِّط بعزّته، أو يضعُف في عبادته.
لُقِّب (عليه السلام) بـ «الكاظم»، لكثرة ما كظم غيظه، وصبر على الأذى والظلم، حتّى في أشدّ لحظات القهر والقيد.
لقد عرف الإمام الكاظم (عليه السلام) مرارة السجن، وتقلّب في غياهب المطامير وسجون العباسيّين سنين طويلة، ومع ذلك لم يشكُ ولم يضعف، بل حوّل زنزانته إلى محراب، ومحنته إلى خلوة مناجاة، وقيوده إلى سلاسل من نور تربط قلبه بالله تعالى.
وقد رُوي أنّه كان يُسمَع كثيراً يقول في دعائه: «اللهمّ، إنّك تعلم أنّي كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك. اللهمّ، وقد فعلت، فلك الحمد»[2].
وفي ما رُوي عن الفضل بن الربيع مشهدٌ مهيبٌ من سيرة الإمام (عليه السلام) في السجن؛ إذ يقول أحدهم: دخلت على الفضل بن الربيع، وهو جالس على سطح، فقال لي: أشرف على هذا البيت، وانظر ما ترى؟ فقلت: ثوباً مطروحاً، فقال: انظر حسناً، فتأمّلت، فقلت: رجل ساجد، فقال لي: تعرفه؟ هو موسى بن جعفر، أتفقّده الليل والنهار، فلم أجده في وقت من الأوقات إلّا على هذه الحالة؛ إنّه يصلّي الفجر فيعقّب إلى أن تطلع الشمس، ثمّ يسجد سجدة، فلا يزال ساجداً حتّى تزول الشمس، وقد وكّل مَن يترصّد أوقات الصلاة، فإذا أخبره وثب يصلّي من غير تجديد وضوء، وهو دأبه، فإذا صلّى العتمة أفطر، ثمّ يجدِّد الوضوء، ثمّ يسجد، فلا يزال يصلّي في جوف الليل حتّى يطلع الفجر[3].
وسألت أخت السنديّ بن شاهك أخاها أن تتولّى حبسه -وكانت تتديّن- ففعل، فكانت تلي خدمته، فحُكيَ أنّها قالت: كان إذا صلّى العتمة، حمد الله ومجّده ودعاه، فلم يزل كذلك حتّى يزول الليل، فإذا زال الليل، قام يصلّي حتّى يصلّي الصبح، ثمّ يذكر قليلاً حتّى تطلع الشمس، ثمّ يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثمّ يتهيّأ ويستاك ويأكل، ثمّ يرقد إلى قبل الزوال، ثمّ يتوضّأ ويصلّي حتّى يصلّي العصر، ثمّ يذكر في القبلة حتّى يصلّي المغرب، ثمّ يصلّي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه.
فكانت أخت السنديّ إذا نظرت إليه، قالت: خاب قوم تعرّضوا لهذا الرجل[4].
هذه الروايات لا تُظهر لنا صورة إنسان مقهور، بل صورة إمامٍ مرفوع الروح، حاضر القلب، رابط الجأش، يجد في ظلمة السجن نوراً، وفي قيده عبادة، وفي محنته مناجاة، ويُعلّمنا أن السجن لا يُغلِق باب السماء، بل قد يكون مِحراباً.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في هذا الأمر: «هذا كان حال حياة موسى بن جعفر في السجن. بالتأكيد، لقد جاؤوا مرّات إلى الإمام في السجن، وهدّدوه، وطمّعوه، وأرادوا أن يُرغّبوه، لكنّ هذا الإنسان العظيم الذي اتّصف بتلك الصلابة الإلهيّة، وبالتوكّل على الربّ المتعال واللطف الإلهيّ، ونفس هذا الصمود هو الذي حفظ القرآن والإسلام إلى اليوم»[5].
الصبر قيمة روحيّة وتربويّة
أيّها المؤمنون،
إنّ الصبر والصمود في منطق الإسلام قوّةٌ باطنيّة، لا استسلامٌ أو ضعف؛ إنّه ثباتٌ في مواضع البلاء، وضبطٌ للنفس عند الغضب، وسكينةٌ في تقلّبات الزمان، وقد عَدَّه النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) من أندر ما يُعطى العبد، فقال: «مِن أقلّ ما أُوتيتم اليقين وعزيمة الصبر، ومَن أُعطي حظّه منهما لم يُبالِ ما فاته من قيام الليل وصيام النهار»[6].
فالصبر باب من أبواب الفضل الإلهيّ، يفتح على المؤمنين آفاق النجاة من الفتن، ويجعلهم أقوى من الابتلاءات، لا أضعف أمامها.
ولم يكن الصبر في فكر أهل البيت (عليهم السلام) مجرّد تحمّل سلبيّ، بل هو ركيزة الإيمان وميزان الثبات، كما عن الإمام الصادق (عليه السلام): «الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الايمان»[7].
ومنزلته يوم القيامة عالية؛ إذ يُنادى على أهله ليدخلوا الجنّة بغير حساب، كما رُوي عن الإمام زين العابدين (عليه السلام): «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين، ينادي منادٍ: أين الصابرون؟ ليدخلوا الجنّة بغير حساب»، قال: «فيقوم عنق من الناس، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين يا بني آدم؟! فيقولون: إلى الجنّة، فيقولون: وقبل الحساب؟ فقالوا: نعم، قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: الصابرون، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا على طاعة الله، وصبرنا عن معصية الله، حتّى توفّانا الله عزّ وجلّ، قالوا: أنتم كما قلتم، ادخلوا الجنّة، فنِعمَ أجر العاملين»[8].
الصبر المقاوِم في زمن الأزمات
أيّها الموالون، فإذا كان الصبر في منطق أهل البيت (عليهم السلام) هو معيار الإيمان، وميزان الوعي والثبات، فإنّ تجلّياته اليوم في واقعنا أكثر من أن تُحصى.
لقد عايشنا في لبنان سلسلةً من الابتلاءات المتلاحقة والمتشابكة، حتّى غدا البلاء هو الواقع لا الاستثناء؛ أزمةٌ اقتصاديّة خانقة عصفت بالناس، فأنهكت العائلات، وأثقلت كاهلها، واستنزفت لقمة العيش من موائد الكرامة. وتخبّطٌ سياسيّ عميق، أغلق أبواب الحلول، وعمّق الهوّة بين المواطن والسلطة. وها نحن اليوم نعيش على وقع توتّر أمنيّ دائم، يتغذّى من الخروقات الإسرائيليّة المستمرّة، والتهديدات المتصاعدة، ومحاولات بثّ الفتنة وزعزعة الاستقرار الداخليّ.
في هذا السياق، نستحضر حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطِع، فاصبر، فإنّ في الصبر على ما تكره خيراً كثيراً، واعلم أنّ النصر مع الصبر، وأنّ الفرج مع الكرب، وإنّ مع العسر يسراً، إنّ مع العسر يسراً»[9]؛ لنفهم أنّ النصر ليس وليد لحظة، بل ثمرة صبرٍ طويل، وعزيمةٍ لا تتزعزع أمام الضغط أو الحصار أو الحملات الإعلاميّة المضلِّلة.
وقد يَضعُف بعض الناس تحت وطأة الجوع أو المرض أو الظلم، لكنّ المؤمن يقرأ البلاء بعين اليقين، لا بعين الشكوى، فهو عند الإمام الكاظم (عليه السلام) معيار الإيمان الراسخ، إذ يقول: «لن تكونوا مؤمنين حتّى تعدّوا البلاء نعمة، والرخاء مصيبة»[10].
وفي هذا السياق، يربط شهيد الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، في أكثر من خطاب، بين مفهوم الصبر ومعركة الثبات في مواجهة المشقّات، فيقول: «هذا زمن صعب، وفي الزمن الصعب، في المشقّات الأقوى والأكبر، نحن نحتاج أن نستعين بهذا الصبر، وليس لدينا غير الصبر في الدرجة الأولى لنواصل حياتنا، ونواصل إيماننا، ونواصل جهادنا وثباتنا، ونصنع مصيرنا، كما أراده الله سبحانه وتعالى لنا في الدنيا والآخرة»[11].
إنّ الصبر اليوم ليس سكوناً ولا انكساراً، بل هو أن تُحافظ على وعيك حين يضيع وعي الآخرين، أن تبقى ثابتاً في مشروع المقاومة عندما تتكاثر الدعوات للتطبيع والانبطاح، أن تصبر على تشويه صوتك، ولا تتنازل عن حقّك في العيش بكرامة وحرّيّة.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[12]؛ فلنكن من هؤلاء، من الصابرين، من الثابتين، من الذين يُبصّرون غيرهم في زمن الغفلة، ويثبتون في مواقعهم حتّى تُشرق شمس الفرج والنصر بإذن الله تعالى.
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج64، ص237.
[2] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص240.
[3] ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص433.
[4] الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد، ج13، ص31.
[5] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص407.
[6] الشهيد الثاني، مسكِّن الفؤاد، ص47.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص89.
[8] الشهيد الثاني، مسكِّن الفؤاد، ص49.
[9] الشيخ الصدوق، مَن لا يحضره الفقيه، ج4، ص413.
[10] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج64، ص237.
[11] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، ليلة التاسع من محرّم 1438هـ.
[12] سورة الزمر، الآية 10.