الحمد لله الذي جعل من الصبر مفتاحاً للفَرَج، ومن البلاء سبيلاً للثبات، ومن اليُتم باباً للرحمة، ومن الجراح سُلَّماً لرفعة الدرجات. نحمده على ما أولى، ونشكره على ما قضى، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّدٍ وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾[1].
الحروب وآثارها على الأسرة والتربية
إنّ آثار الحروب ونتائجها لا تقتصر على خطوط النار فحسب، بل تمتدّ عميقاً إلى قلوب البيوت والأُسَر، فتفرض واقعاً قاسياً على التربية والتنشئة، وتترك في الأرواح ندوباً، وفي العلاقات شروخاً، وفي التربية ثغراتٍ، تحتاج إلى مَن يرمّمها بالصبر والبصيرة والإيمان. وبيئتنا، التي تعيش في كنف مقاومةٍ شريفةٍ، ما توانت يوماً عن أداء واجبها؛ إذ واجهت -ولا تزال- تحدّيات تربويّة عميقة فرضتها تبعات المواجهة وصوت النار.
وإنّ من أبرز هذه التحدّيات، فقدان أحد أفراد الأسرة شهيداً في ساحات الجهاد. وهو ابتلاءٌ ثقيلٌ على قلوب الوالدَين والأزواج والأبناء... والعائلة عموماً؛ ولذا كان التقدير الإلهيّ عظيماً للصابرين في المصائب، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «ما من مؤمنٍ يُصاب بمصيبة في الدنيا، فيسترجع عند مصيبته، ويصبر حين تفجؤه المصيبة، إلّا غفر الله له ما مضى من ذنوبه، إلّا الكبائر...»[2]، بل عنه (عليه السلام) أيضاً أنّ الثواب لا يقتصر على زمن المصيبة فقط، بل قد يستمرّ، وإن تقادم عهدها، إذ يقول: «ما من مؤمنٍ يُصاب بمصيبة، وإن قدم عهدها، فأحدث لها استرجاعاً، إلّا أحدث الله له منزلة، وأعطاه مثل ما أعطاه يوم أُصيب بها»[3].
لكنّ المأساة لا تتوقّف عند الفقد، بل ثمّة تحدٍّ أكبر، يكمن في إعادة التوازن التربويّ داخل الأسرة، وترتيب الأدوار، وملء الفراغات التربويّة بحكمة ووعي.
ومن تلك التحدّيات أيضاً: تربية الأيتام، وهم أمانة ثقيلة في عنق المجتمع، وبخاصّة في بيئة المقاومة التي تُقدِّم الشهداء تباعاً. وهنا تتجلّى أهمّيّة التكافل في كلام النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله): «أنا وكافلُ اليتيمِ كهاتَين في الجنّة»[4]، وأشار بإصبعيه: السبّابة والوسطى.
وقد لا تُفجَع الأسرة بشهيد فحسب، بل تُبتلى أحياناً بجريح يحتاج إلى رعايةٍ خاصّة، فيزداد العبء النفسيّ والمادّيّ، وتُستنزف الطاقات، ويضعف أداء الأسرة لواجباتها التربويّة.
ولا يُمكن إغفال ما تفرضه الحرب من انشغال الوالدين بمسؤوليّات ما بعد الحرب: إعادة البناء، مواجهة الأعباء، تدبير المعاش… وقد ينسحب ذلك على الأبناء، ليقعوا في براثن الإهمال العاطفيّ أو ضعف الرقابة.
وفي ظلّ هذه التقلّبات، يعيش الأطفال والمراهقون قلق الترقّب الدائم من حربٍ جديدة، ما يخلق بيئةً غير مستقرّة نفسيّاً وتربويّاً، ويُهدّد توازن شخصيّاتهم واستقرارهم العاطفيّ.
وهكذا، فإنّ التربية في زمن الحرب جهادٌ من نوعٍ آخر، يحتاج إلى صبرٍ ويقظةٍ واحتساب، وإلى يقينٍ بوعد الله: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا﴾[5].
توجيهات الإسلام في التحدّيات التربويّة بعد الحروب
أيّها المؤمنون، إذا كانت الحروب تفرض على الأسرة تحدّياتٍ قاسيةً وابتلاءاتٍ مُوجعة، فإنّ الإسلام لم يتركنا في مواجهة الأوجاع بلا هُدىً، بل قدّم لنا منهجاً متكاملاً لبناء التوازن النفسيّ والتربويّ، ومن هذه التوجيهات:
أوّلاً: الصبر الواعي لا المنكسر
الصبر المطلوب هو صبر الإيمان، لا صبر العجز والانكسار، الصبر الذي يحمل في جوهره الرضا والثقة بوعد الله، وعن الإمام الباقر (عليه السلام): «دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على خديجة حين مات القاسم ابنُها، وهي تبكي... فقال: يا خديجة، أما ترضَين إذا كان يوم القيامة أن تجيئي إلى باب الجنّة وهو قائم، فيأخذ بيدك، فيدخلك الجنّة، وينزلك أفضلها، وذلك لكلّ مؤمن، إنّ الله عزّ وجلّ أحكم وأكرم أن يسلب المؤمنَ ثمرة فؤاده، ثمّ يعذّبه بعدها أبداً»[6].
فليكن موقفُ الأهل -وخاصّة الأمّ- موقفَ المؤمن الواعي، الذي يُقدّم ولده قرباناً لله تعالى عن إيمانٍ راسخ، لا موقفَ الضحية المنكسرة أمام قسوة الحرب. فإنّ دمعةَ الصابر المحتسب، عند الله، أعظم من كلّ شعارات الصمود.
ثانياً: تحويل اليتم إلى وعي وعزّة
وهذا واجبٌ دينيٌ وتربويّ، فالأبناء اليتامى لا يحتاجون إلى شفقةٍ تُضعِفهم، بل إلى احتضانٍ واعٍ يزرع فيهم الثقة والكرامة، ويُشعِرهم بأنّ فقد الأب أو الأمّ لا يعني فقد الأمل، وقد علّمنا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنّ اليُتم قد يجعل من بيت المسلم خير البيوت، فقال: «خير بيتٍ من المسلمين، بيتٌ فيه يتيمٌ يُحسَن إليه، وشرّ بيتٍ من المسلمين، بيتٌ فيه يتيم يُساء إليه»[7].
فالمقياس ليس اليُتم ذاته، بل طريقة تعاطينا معه؛ إمّا أن نرتقي باليتيم، أو نحطّمه بإهمال أو قسوة أو شفقة مفرطة تُشعره بالضعف. ولأنّ قلب اليتيم مجروحٌ ومكسور، فإنّ الله تعالى جعل له منزلةً خاصّةً عنده، وقد سأل موسى (عليه السلام) الله تعالى، فقال: «إلهي، أين أبغيك؟»، قال تعالى: «عند المنكسرة قلوبهم».
ثالثاً: الجراح امتدادٌ للجهاد
إنّ الجرحى مجاهدون أحياء، يستمرّ جهادهم بصبرهم اليوميّ على الآلام، والأسرة تتحمّل مسؤوليّة عظيمة في احتضان جراحهم، ليس بالرعاية الجسديّة فقط، بل بالتثبيت النفسيّ والتربويّ، وبزرع الاعتزاز في نفوس الأبناء تجاه آبائهم أو إخوتهم الجرحى.
إنّ هذه الرؤية الإيمانيّة، التي تكرّس ثقافة الوفاء والاعتراف بفضل المضحّين، عبّر عنها بعمق شهيد الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، ووجّه نداءً وجدانيّاً وأخلاقيّاً إلى كلّ بيتٍ مؤمن، ليعيَ أنّ الجراح ليست نهاية للجهاد، بل هي امتدادٌ له، فقال (رضوان الله عليه): « كلّ ساعة تتحمّلون فيها هذه الآلام وهذه التبعات، هي ساعة جهاد في سبيل الله... ويجب أن تنظروا إلى العمر الذي أعطاكم الله إيّاه بعد إصابتكم بالجراح، أنّه فرصة ونعمة عظيمة، مَنَّ الله بها عليكم لمزيدٍ من الجهاد، من موقع الصبر والاحتساب والإيمان والثبات واليقين، لمزيدٍ من الثواب والأجر، لمزيدٍ من علوّ الدرجات... هنا عادةً عندما أُخاطب الجرحى، يستحضرني أيضاً عائلاتهم الكريمة والشريفة، الأمّهات، الآباء، الأهل الذين تحمّلوا مع ابنهم الجريح أو ابنتهم الجريحة خلال سنوات الجراح الصعبة. كذلك يجب أن نَخصّ بالذكر الزوجات... تارةً هناك أخت متزوّجة، ولاحقاً صار الأخ جريحاً، وهي بقيت معه وصبرت معه، هذا له قيمته الإنسانيّة والأخلاقيّة العالية، ولكن هناك أخوات بملء إرادتهنّ تزوّجن جرحى... كلا هذَين النوعين من الزوجات هُنّ مجاهدات حقيقيّات، مجاهدات في الخطّ الأماميّ، في الصفّ الأوّل، كريمات وغاليات وعزيزات، ولهنّ مقام عند الله سبحانه وتعالى»[8].
رابعاً: الوقت التربويّ المشترك
إنّ من أوجب الواجبات التربويّة بعد الحروب، أن لا نُهمِل أبناءَنا بحجّة الانشغال أو التعب أو الجراح، فمهما عظُمَت التضحيات، تبقى أمانةُ الأبناء في أعناقنا لا تسقط، ومسؤوليّةُ رعايتهم لا تزول.
ولئن قلّ الوقت الذي يجمع الوالدَين بأبنائهم، فليكن وقتاً مليئاً بالحضور والاهتمام والحنان، وقد حذّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من خطورة التفريط في هذه الأمانة، فقال: «كلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته»[9]، كما بيّن فضل الجلوس مع الأهل بقوله: «جلوسُ المرء عند عياله، أحبّ إلى الله تعالى من اعتكافٍ في مسجدي هذا»[10].
خامساً: زرع الطمأنينة الإيمانيّة
إنّ زرع الطمأنينة في القلوب هو من جملة المسؤوليّات التربويّة الملقاة على عاتق الأسرة، خصوصاً في ظلّ القلق الدائم من تجدّد الاعتداءات؛ فالقلق لا يُعالَج بالكتمان أو التجاهل، بل بالتوجيه الروحيّ، والربط بالله، والتثبيت بالقرآن، وبفتح نوافذ الذكر والدعاء والمجالس الدينيّة في فضاء البيت.
وقد أكّد القرآن الكريم هذا المبدأ بقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[11]، كما نجد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) ما يرسّخ هذا المعنى الإيمانيّ العميق، فعن الإمام أبي الحسن (عليه السلام): «إذا خفتَ أمراً، فاقرأ مِئة آية من القرآن من حيث شئت، ثمّ قل: اللهمّ اكشف عنّي البلاء -ثلاث مرّات-»[12].
إنّ هذا الإيمان هو سياج القلوب، وحصانة العقول، وسرّ الثبات في زمن الاضطراب.
ختاماً، إنّ لبنان، الذي قدّم آلاف الشهداء، يقف اليوم أمام مسؤوليّة مضاعفة، هي حفظ دماء الشهداء، بتربية جيلٍ يحمل قِيَم الشهادة، جيلٍ يحمل وعي الشهداء والجرحى، وصبرهم وعزّتهم. إنّ كلّ بيت شهيدٍ هو منارة تربويّة، وكلّ جريحٍ شاهد حيّ على الوفاء، وكلّ أمّ شهيد مدرسة صبرٍ واحتساب.
نسأل الله أن يرزقنا اليقين وعزيمة الصبر وحسن الختام، إنّه سميع مجيب، والحمد لله ربّ العالمين.
[1] سورة التحريم، الآية 6.
[2] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص175.
[3] قطب الدين الروانديّ، الدعوات، ص286.
[4]الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، ج2، ص474.
[5] سورة الكهف، الآية 30.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج3، ص218.
[7] الفيض الكاشانيّ، المحجّة البيضاء، ج3، ص403.
[8]من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 06/03/2023م.
[9] ابن أبي جمهور الأحسائيّ، عوالي اللئالي، ج1، ص129.
[10]ورّام بن أبي فراس، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر، ج2، ص441.
[11] سورة الرعد، الآية 28.
[12]الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص621.