الحمد لله الذي أمر بالحقّ، وأكرم المؤمنين بولاء محمّد وآل محمّد، وجعلهم مصابيح الهدى وسُفن النجاة. نحمده ونستغفره ونستعين به، ونشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله الميامين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى شهيد الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء بذكرى أربعين الإمام الحسين (عليه السلام).
أيّها المؤمنون والمؤمنات،
ها نحن نلتقي في هذا اليوم المبارك، يوم الجمعة، في ذكرى جليلة ومؤثِّرة في وجدان الأمّة، إنّها ذكرى أربعين الإمام الحسين (عليه السلام)، يومٌ تتجسّد فيه معاني الوفاء وتجديد العهد مع سيّد الشهداء وإمام المصلحين.
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾[1].
وعن الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام): «عَلاماتُ المؤمنِ خمسٌ: صَلاةُ الإحدَى والخَمسينَ، وزيارةُ الأربعينَ، والتَّخَتُّمُ في اليمينِ، وتَعفيرُ الجَبينِ، والجَهرُ بِبِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم»[2].
«الأربعين» تجديد العهد
إنّ زيارة الأربعين ليست مجرّد شعيرة عباديّة، بل هي تجديدٌ للبيعة مع الإمام الحسين (عليه السلام) على أن نسير على خطّه، ونحمل رسالته، وندافع عن مبادئه، ونواصل مشروعه الإصلاحيّ في الأمّة، وقد أعلن الإمام الحسين (عليه السلام) هدف نهضته بوضوح حين قال: «إنّي لم أخرُج بَطراً ولا أشراً، ولا مُفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجتُ أطلبُ الصلاحَ في أُمَّةِ جَدّي محمّد، أريدُ آمُرَ بالمعروفِ وأنهَى عنِ المُنكر، أسيرُ بسيرةِ جَدّي وسيرة أبي عليِّ بنِ أبي طالب»[3].
وهذا المنهج هو امتداد للآية الكريمة: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[4].
وفي كلّ أربعين، يخرج المؤمنون ليؤكّدوا للعالم أنّهم ماضون على هذا الطريق، وأنّهم لن يتركوا راية الحسين (عليه السلام) تسقط، ما دام فيهم قلب ينبض ودم يجري، وقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في وصف الشيعة: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، المتحابّون في مودّتنا، المتزاورون في إحياء أمرنا...»[5].
وهذه المعاني أكّدها الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) حين قال حول مسيرة الأربعين: «هذه الظاهرة الفريدة والحركة العظيمة والزاخرة بالمعنى المتمثّلة بمسيرة الأربعين الحسينيّة هي حسنة جارية.
إنّ من مميّزات مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) هي هذا المزج بين «العشق والإيمان» وبين «العقل والعاطفة». ولا شكّ في أنّ حركة الناس من شتّى أقطار العالم النابعة عن العشق والإيمان في هذه الظاهرة الفريدة تدخل في عداد الشعائر الإلهيّة»[6].
فالزيارة بهذا المعنى ليست انفصالاً عن الواقع، بل هي عمل إيمانيّ عمليّ، يربط الماضي بالحاضر، ويحوّل الولاء للإمام الحسين (عليه السلام) إلى التزام يوميّ بمبادئه في نصرة الحقّ وإصلاح المجتمع.
وحدة الأمّة في مسيرة الأربعين
لقد غدَت زيارة الأربعين ظاهرةً إنسانيّةً كبرى، تتلاقى فيها القلوب قبل الأبدان، ويجتمع فيها الملايين من شتّى الأقطار والبلدان، واللغات، والمذاهب، بل والأديان، متّحدين على حبّ الإمام الحسين (عليه السلام). إنّها رسالة واضحة بأنّ القيم التي ضحّى من أجلها سيّد الشهدء لا تنحصر في قوم أو طائفة، بل هي مبادئ إنسانيّة عالميّة.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «أن يسير ملايين الأفراد من البشر، وليس من مدينة واحدة أو بلد واحد، بل من بلدان متعدّدة، وليس من فرقة إسلاميّة واحدة، بل من شتّى الفِرَق الإسلاميّة، بل وحتّى من أديان أخرى غير الدين الإسلاميّ أحياناً. هذه هي الوحدة الحسينيّة؛ أي إنّكم قلتم قولاً صائباً: «الحسين يجمعنا»، هذا هو الواقع، فالحسين يخلق اجتماعاً عظيماً»[7].
هذه الوحدة حول الإمام الحسين (عليه السلام) هي برهان على أنّ الأمّة إذا اجتمعت على الحقّ، استطاعت أن تواجه أعتى التحدّيات، وأن تتجاوز الانقسامات، وأن تعلن موقفها الرافض للظلم والطغيان.
«الأربعين» مدرسة التضحية والصمود
كربلاء لم تكن مجرّد واقعة تاريخيّة، بل كانت مدرسة إيمانيّة عظمى وخالدة، تعلّمنا أنّ الدفاع عن الحقّ يحتاج إلى تضحية، وأنّ الإصلاح في الأمّة واجب مهما كان الثمن.
وفي زيارة الأربعين وصفٌ لعِظم هذه التضحية، فنقرأ عن الإمام الحسين (عليه السلام): «فَأعذَرَ فيِ الدُّعاءِ، وَمَنَحَ النُّصحَ، وَبَذَلَ مُهجَتَهُ فيكَ؛ لِيَستَنقِذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالَةِ وَحَيرَةِ الضَّلالَةِ»[8].
كما أنّ هذه المدرسة الحسينيّة لم تعلّمنا التضحية فقط، بل غرست فينا روح الصمود وعدم الاستسلام أمام الظلم والطغيان، كما يذكّرنا شهيد الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، إذ يقول: «من أهمّ عِبر ذكرى الأربعين ويوم الأربعين، ونحن نَستحضر مواقف الإمام السجاد (عليه السلام) في المسجد الكبير في دمشق، ونستحضر مواقف السيّدة زينب (عليها السلام) في قصر يزيد وبين زبانيته، من أعظم العِبر وأهمّها، أنّ المؤمن مهما كانت المصائب والمصاعب، ومهما أحاطت به الظروف القاسية، لا يمكن أن يضعف، لا يمكن أن يَهين، لا يمكن أن يستسلم، لا يمكن أن يُظهِر أيَّ علامة من علامات الخضوع والذلّ، أيضاً في تلك المواقف التي شهدناها في موكب الأحزان، يتعلّم الإنسان أنّ المؤمن لا يمكن أن ييأس، بل ينظر بعين الله إلى كلّ الأيّام والسنين والقرون الآتية، لا يمكن أن ييأس، ولا يمكن أن ينتهي الأمل؛ لأنّه ينطلق من الثقة بالله سبحانه وتعالى وبِوعده»[9].
أيّها الإخوة،
إنّ مناسبة الأربعين دعوة مفتوحة لنكون حسينيّين في أقوالنا وأفعالنا، وأن نترجم حبّ الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مواقف عمليّة، وأن نكون دائماً في جبهة الحقّ، مهما عظُمَت التضحيات.
اللهمَّ، اجعلنا من السائرين على درب الإمام الحسين (عليه السلام)، والطالبين بثأره مع حفيده صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه).
اللهمَّ، وفّقنا لزيارته في الدنيا، وارزقنا شفاعته في الآخرة، إنّك سميع مجيب الدعاء.
[1] سورة الشورى، الآية 23.
[2] الشيخ المفيد، المزار، ص54.
[3] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج3، ص241.
[4] سورة آل عمران، الآية 104.
[5] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص236.
[6] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 30/11/2015م.
[7] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 13/10/2019م.
[8] الشيخ الطوسيّ، تهذيب الأحكام، ج6، ص113.
[9] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 17/09/2022م.