الصفحة الرئيسية
بحـث
تواصل معنا
Rss خدمة
 
  تحريك لليسار إيقاف تحريك لليمين

العدد 1685 17 ربيع الأول 1447هـ - الموافق 10 أيلول 2025م

الاستقامة والثبات

آفَةُ اللِّسَانِالجهاد الكبير الصمود والمقاومة وعدم التبعيّةمراقباتوَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰمراقباتالأخوّةِ الإيمانيّةِمراقباترَحْمَةً لِلْعَالَمِينَمراقبات
من نحن

 
 

 

التصنيفات

العدد 1685 17 ربيع الأول 1447هـ - الموافق 10 أيلول 2025م

الاستقامة والثبات

تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق

الحمد لله الذي أمر بالاستقامة، وجعل الثبات على الحقّ طريق النصر في الدنيا والآخرة، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[1]، وقال أيضاً: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[2].

لقد وردَت هاتان الآيتان في سورة هود الكريمة، هذه السورة التي قال فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «شيّبتني هود»[3]؛ إذ يشير (صلّى الله عليه وآله) بقوله هذا إلى شدّة أثر الأمر الإلهيّ الوارد فيها: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾، فقد شقّ على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أمر الله له بالاستقامة؛ ومعناه الثبات وعدم التزلزل أو التردّد في السلوك والعمل.

يقصّ الله تعالى في سورة هود على نبيّه (صلّى الله عليه وآله) مجموعةً من أخبار الأنبياء (عليهم السلام)، وما واجهوه من تحدّيات ومعاندين، وقد جاءت هذه القصص بهدف تثبيت فؤاد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقلوب المؤمنين معه، فكانت السورة متوافقة مع الأمر بالاستقامة؛ إذ قدّمت ما يعين على الثبات ويقوّيه في مواجهة الصعاب، وذكّرت بالحقائق والسنن الإلهيّة، مستخلصةً تجارب الأنبياء والمؤمنين، لتكون موعظة وعبرة.

كما بيّنت السورة كيف أنّ الثبات على الحقّ يؤدّي إلى النصر في الدنيا والآخرة، وكيف أنّ المواجهة مع الظالمين والمعاندين تتطلّب إيماناً عميقاً وقوّةَ إرادة. وبذلك يُفهم منها أنّ الأمر بالاستقامة ليس مجرّد وصيّة أخلاقيّة، بل هو دعوة عمليّة لمواجهة التحدّيات بجانب الله، سواءٌ أكان في طريق التبليغ والإرشاد، أو في ميادين المواجهة السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة وغيرها.

الاستقامة تعني أن يكون السلوك والفعل متوافقَين مع المبادئ الإلهيّة، من دون تردّد أو انحراف، مع اليقين بأنّ الله بصيرٌ بما تعملون، وأنّ أيّ انحراف أو ضعف لن يغفل عنه سبحانه: ﴿وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾. فالثبات على المبادئ والأهداف، والاستقامة في طريق تحقيقها، هي مطلب إلهيّ عظيم، لما تتطلّبه من عزيمة وثبات وصبر؛ ولذا كان أثر هذا الأمر الإلهيّ ما ذكرته الرواية عنه (صلّى الله عليه وآله) حين قيل له: أسرع إليك الشيب يا رسول الله! فقال (صلّى الله عليه وآله): «شيّبتني هود».

وفي تفسير الاستقامة، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «الاستقامة معناها الصمود، ومواصلة الطريق بشكل مستقيم، والمسير بالاتّجاه الصحيح. النقطة المقابلة لهذه المسيرة المستقيمة، والمذكورة في هذه الآية الشريفة، هي الطغيان: ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾؛ الطغيان بمعنى التمرّد والانحراف. يقول للرسول: أنت شخصيّاً والذين معك، واصلوا هذا الطريق بشكل صحيح، ولا تنحرفوا، ﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾»[4].

عوامل التزلزل والانحراف
إنّ السورة الكريمة، تؤكّد للنبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وللمؤمنين أنّ تحمّلَ مسؤوليّةَ العمل لله، ومواجهة المخاطر، والسير نحو الأهداف النبيلة السامية، مصحوبٌ دائماً بمختلف المشاقّ والابتلاءات، من نجاحات وإخفاقات. وأنّ ما تتركه هذه التجارب في النفوس من جراح وآلام، يجب أن لا يحرف أقدام السائرين على خطى الأنبياء (عليهم السلام) عن طريق الحقّ. ومن ينحرف عن هذا الطريق، إنّما يحدث له ذلك نتيجة ضعفه أمام وساوس الشيطان، أو جموح النفس عند النصر والنجاح فتتجاوز الحدود وتطغى، أو سقوطها تحت وطأة الهزائم والفشل.

وثمّة أسباب وعوامل عديدة تُودي بالإنسان إلى التزلزل، وتُسهم في انحرافه وانزلاقه، نذكر منها:

1. حبّ الدنيا والتعلّق بها
حين يتعلّق قلب الإنسان بالدنيا، وتصبح لذائذها هواه، تتحوّل هذه الدنيا وشهواتها إلى إله خفيّ يتحكّم في مشاعره وعواطفه؛ فيتعاظم خوفه إذا تعرّضت متاعه للخطر، ويغمره الفرح إذا أتت الظروف بما يتيح له التمتّع بها والتمكّن منها.

وهذا ما أشار إليه الإمام الحسين (عليه السلام) في أحوال الأمّة التي ارتكبت الجريمة التاريخيّة بحقّه وأهل بيته وأصحابه: «إنّ الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا مُحِّصوا بالبلاء قلَّ الديّانون»[5].

لقد كانت دنيا المسلمين سبباً في قتل سيّد الشهداء، وليس فقط دنيا يزيد وابن زياد وابن سعد وشمر؛ فدنيا هؤلاء جعلتهم قادة الجيوش الزاحفة على معسكر سيّد الشهداء، ودنيا غيرهم جعلتهم جنوداً في هذه الجيوش، ودنيا آخرين أورثتهم خذلان الحقّ وأهله، بل إنّ دنيا عبيد الله بن العبّاس نقلته ومَن معه من جيش الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) إلى جيش معاوية، مُظهِرةً أثر تعلّق القلوب بها على مسارات الأقدار.

2. خوف الموت
قال الله تعالى مبيّناً أثر الخوف من الموت في نفوس الناس، وكيف يزرع التردّد والاضطراب: ﴿يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾[6]. فالخوف من الموت، حين يسيطر على النفس، يحوّل الإنسان إلى أسير وهم البقاء الزائف، ويقمع عقله، ويُعمي بصره عن رؤية الحقّ، ويمنعه من العمل بما يقتضيه إيمانه.

إنّ الحياة والموت بيد الله وحده، والحرص على النجاة بالابتعاد عن ساحات الشرف، ومحاولة الهروب من مواجهة الباطل، هو خيال محض؛ إذ إنّ الموت له أسباب متعدّدة، لا ترتبط بما يواجهه المجاهدون في ساحات الوغى؛ فإنّ الله تعالى قد قضى بالموت على كلّ مخلوق، ولو كان في بروج مشيّدة، وفي حراسة مشدّدة، فإنّ الموت ملاقيه، وقد ذكر الله تعالى في كتابه الكريم قصّة أولئك الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، ولكن لم يغنِ ذلك عنهم شيئاً، قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ * وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾[7].

إنّ تاريخ البشر مليء بالأمثلة على الذين استسلموا للخوف، فخذلوا الحقّ وأعانوا الباطل، ولم يلبثوا إلّا قليلاً، حتّى أتتهم مناياهم سريعاً. ومن أبرز النماذج، جند جيش ابن زياد وقادته، الذين قُتلوا على أيدي الطالبين بثأر الإمام الحسين (عليه السلام).

3. تهيّب المخاطر
إنّ التهيّب من مواجهة الأخطار، التي قد تنشأ في سبيل الحقّ والعدل، يؤدّي إلى التردّد وضعف الإرادة، كما يسهّل الوقوع في الاستسلام للواقع المنحرف، ويُضعف الطموح، ويحدّ من التوجّه نحو التغيير الإيجابيّ. فخوف الإنسان من المخاطر، وشعوره بالوحدة والغربة، يُضعف ثقته بنفسه وبقدرته على تحقيق النجاح والانتصارات، ويُثبط العزائم، ويضعف المعنويّات، ويشلّ ميادين العمل والجهاد. ولا يقتصر أثر ذلك على فقدان الفعاليّة، بل قد يصل إلى قعود العاملين والمجاهدين عن مواصلة عملهم وجهادهم. وقد يدفع ذلك إلى استعجال النتائج، ولو على حساب المبادئ والقيم، ممّا يفضي إلى المساومة عليها وعدم الثبات. ومن هنا جاء التحذير الإلهيّ للأمّة، مخاطباً نبيّه (صلّى الله عليه وآله): ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًاً﴾[8]؛ إذ يبيّن الله تعالى أنّ الخطر الناتج عن تهيّب مواجهة المشاقّ، ليس بأقلّ من الخطر الناتج عن الرغبة في النجاح الذي قد يُفضي إلى المساومة والتنازل عن القيم. فالانتصار الحقيقيّ لا يتحققّ إلّا بالثبات على المبادئ، ومجابهة المخاطر مهما عظمت، من دون تردّد أو ضعف.

طاعة الوليّ ضمانة الثبات
إنّ من أدقّ الميادين في العمل والجهاد وأصعبها، هو المحافظة على المبادئ والقيم والأهداف النبيلة، والسير نحوها وفق منهج الشرع الحنيف، من دون تزلزل أو انحراف عن الحقّ، ومن دون اعوجاج في السلوك والعمل. فالثبات والاستقامة يعنيان التوازن بين الانضباط الشرعيّ والفاعليّة العمليّة؛ أي أن تكون الأعمال مثمرة ومنتجة، وفي الوقت نفسه لا يغيب عن العاملين والمجاهدين الهدف الأسمى والغايات العظمى التي يسعَون لتحقيقها.

ولا ريب في أنّ الضمان الأكيد للثبات والنجاح، كما أكّدته الآيات والسور التي تحثّ على الصبر والمثابرة، يكمن في الانقياد للقيادة الشرعيّة، المتمثّلة في الأنبياء والأولياء (عليهم السلام)، وفي زماننا الحاليّ تجسّدت هذه القيادة في الوليّ الفقيه؛ فالانصياع لتلك القيادة، مهما كانت التكاليف والمعاناة، هو الطريق إلى الهداية والتسديد الإلهيّ، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[9].


[1] سورة هود، الآية 112.
[2] سورة هود، الآية 120.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص304.
[4] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 04/05/2010م.
[5] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص245.
[6] سورة آل عمران، الآية 154.
[7] سورة البقرة، الآيات 243 - 245.
[8] سورة الإسراء، الآيتان 73 - 74.
[9] سورة العنكبوت، الآية 69.

10-09-2025 | 13-44 د | 148 قراءة


 
صفحة البحــــث
سجـــــــل الزوار
القائمة البريـدية
خدمــــــــة RSS

 
 
شبكة المنبر :: المركز الإسلامي للتبليغ - لبنان Developed by Hadeel.net