إلى مولانا صاحب الزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى سيّد شهداء الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك، بذكرى ولادة الإمام العسكريّ (عليه السلام) في العاشر من ربيع الآخر سنة 232 للهجرة.
كما ونرفع أسمى آيات العزاء بذكرى وفاة السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) سنة 201 للهجرة. وشهادة الأمين العامّ لحزب الله السيّد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه) ورفاقه في الضاحية الجنوبيّة لبيروت عام 2024م.
قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[1].
القتالُ كرهٌ للهوى وأمرٌ محتومٌ
تتكلّم هذه الآية الكريمة على حقيقةٍ روحيّةٍ وأخلاقيّةٍ عميقة، مفادها أنّ الإنسان قد يكره أمراً يحمل في طيّاته خيراً عظيماً لا تدركهُ العقول في حينه؛ فحكمة الله أوسع من مدارك البشر المحدودة. وفي الآية دعوة صريحة إلى التواضع أمام المشيئة الإلهيّة؛ فما نكرهه اليوم قد يكون بذرة خيرٍ تُثمر عزّة أو نصراً أو استقراراً في مستقبل الأيّام.
وقد جاء في الحديث النبويّ الشريف ما يُضيء هذا المعنى، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «عجباً لأمر المؤمن! إنّ أمره كلّه له خير، وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن؛ إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له»[2]، فالمؤمن ينظر إلى كلّ ما يُقدّره الله له باعتباره سبيلاً إلى خير؛ إمّا بالصبر على البلاء أو بالشكر على العطاء.
وفي خصوص مورد القتال، نجد أنّ الفطرة البشريّة تميل في الأصل إلى الراحة والدعة والابتعاد عن المشقّات، لكن حين يأمر الله بالقتال دفاعاً عن الحقّ، تتحوّل هذه المشقّات من أثقالٍ على النفس إلى طريقٍ نحو عزّةٍ وكرامةٍ وفتحٍ ونماءٍ للأمّة. ليس بالضرورة أن يرى الإنسان ثمرتها في الحاضر، بل قد تكون تأسيساً لمجتمعٍ مستقرٍّ في المستقبل. وقد بيّن القرآن أنّ عاقبة المجاهدين هي إحدى الحسنيَين؛ فإمّا أن ينتهي بالنصر والتمكين أو الشهادة التي هي أعظم أبواب الخير، والمؤمن مستعدّ دائماً لإحداهما: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾[3].
الشهادة حياة
والموت في ساحات الجهاد ليس موتاً عاديّاً، بل هو عبورٌ إلى حياة أبديّة وخلودٍ كريم، والشهادة هي الصورة الأسمى للانتصار على الهوى والخوف، وهي البرهان العمليّ على أنّ الإنسان قد تحرّر من أسر الدنيا وزخارفها، وأدرك أنّ الكرامة لا تُحفظ إلّا بالثبات على الحقّ.
إنّ الحديث عن الشهادة في الرؤية الإسلاميّة لا يُختَزَل في مجرّد توصيف واقعة القتل في سبيل الله، بل هو انفتاح على أفقٍ واسع تتجلّى فيه فلسفة الحياة والموت، وتظهر فيه الغاية من وجود الإنسان. فالشهادة تعني أن يدرك المؤمن أنّ حياته لم تُجعل عبثاً، بل هي أمانة، وأنّ الهدف الأسمى منها هو أن يعيش عزيزاً مرتبطاً بالله، رافضاً الذلّ والخضوع للباطل، مستجيباً لنداء الحقّ.
من أدرك أنّ الدنيا عابرة وأنّها دار امتحان، علم أنّ الكرامة لا تُحفظ بالخضوع، بل بالصمود، وأنّ الشهادة هي أسمى أشكال الحياة. فهي في ظاهرها فناءٌ للجسد، وفي حقيقتها خلودٌ للروح وارتقاءٌ بالمقام. فالمؤمن حين يقدّم نفسه فداءً لأرضه أو لأمّته، إنّما يفتح باب الخلود، وينتقل مباشرةً إلى مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر، وقد أكّد القرآن الكريم هذا المعنى بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَـاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾[4].
يقول شهيدنا الأسمى السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «الشهداء في مسيرتنا وفي ثقافتنا لهم مكانة خاصّة، مكانة إيمانيّة، معرفيّة، ثقافيّة، عاطفيّة، وجدانيّة، لهم عندنا قداسة، انطلاقاً من مديح الله سبحانه وتعالى لهم، وتعظيم الله لهم، وتكريم الله لهم في آيات القرآن وفي أحاديث الرسول وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين). حقيقة مقام الشهادة، نحن لا ندركها بعقولنا المحدودة، كما كان يقول إمامنا الخمينيّ»[5].
وقد جاء في السنّة الشريفة ما يكشف بعضاً من هذه المكانة الاستثنائيّة للشهداء والمجاهدين، فقد ورد عن النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله): «من قُتِل في سبيل الله، لم يُعرِّفه الله شيئاً من سيّئاته»[6]، وفي حديث آخر: «كلّ حسنات بني آدم يحصيها الملائكة، إلّا حسنات المجاهدين، فإنّهم يعجزون عن إحصائها»[7]، فإنّ هذه النصوص تبيّن أنّ الشهيد يعيش في ظلّ رعايةٍ خاصّة، محاطاً برحمة الله، ومحصّناً من شدائد ما بعد الموت.
أثر الشهادة في الأمّة وبشارة الشهداء
والشهادة ليست مجداً فرديّاً فحسب، بل هي ضمانة للأمّة بأسرها؛ فبدماء الشهداء تُحفظ الأرض وتُصان الأعراض وتُرسَّخ الحرّيّة. ولولا الشهداء لذابت الأمّة في قهر أعدائها. إنّهم صانعو الأمن، وممهّدو سبل العلم والعمل والنموّ الاقتصاديّ والاجتماعيّ. وبذلك يكون موتهم حياةً لغيرهم، ودماؤهم بذرةً لنهضة أمّتهم.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «الشهادة في سبيل الله غنيمة، وليست خسارة، ووفق التعبير الدقيق للإمام الخمينيّ الراحل، فإنّ الشعب الذي يملك الشهادة لا يؤسَر!»[8].
لا خوف ولا حزن
والقرآن يصرّح -كما ذكرنا- أنّ الشهداء لا يُطوى ذكرُهم بالموت، ولا تُغلق حياتُهم مع خروج أرواحهم من أجسادهم، بل لهم حياةٌ أخرى خاصّة، غير الحياة المادّيّة التي نعرفها. وليس الأمر مجرّد حياةٍ لهم في عالم الغيب، بل هذه الحياة لها أثرٌ في واقعنا نحن الأحياء. الشهداء مؤثِّرون في الأمّة؛ لأنّهم أحياء عند الله، وما زالت أرواحهم تُلهمنا الصبر والثبات، ومن بشارتهم لنا ما ذكره القرآن الكريم: ﴿وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾[9]. هذه الرسالة القرآنيّة هي نداء الشهداء إلى من يسير على خطاهم: إنّ الطريق إلى الله فيه مشقّة وصعاب، لكنّ عاقبته نورٌ واطمئنان، لا خوف فيه ولا حزن.
إنّ الخوف والحزن هما من أكبر ما يثقل كاهل الإنسان في مسيرة حياته الدنيويّة. الشهداء يرفعون عنّا هذا الحمل، ويزرعون في قلوبنا الطمأنينة بأنّ السائر في طريق الحقّ مأجور محفوظ، وأنّ نهاية المسير أمانٌ ورضوان. لذلك، حين نتأمّل تضحيات شهدائنا، فإنّنا لا نرى فيها مجرّد فقدانٍ لأعزّائنا، بل نقرأ فيها رسالةً حيّة من الله إلى قلوبنا: واصلوا الطريق، اثبتوا على درب الجهاد، فإنّ أمامكم مستقبلاً مشرقاً، لا خوف فيه ولا حزن.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «إنّهم يقولون لنا إنّ طريق الجهاد في سبيل الله قد يتخلّله صعوبات ما -بالطبع فيه صعوبات- لكن له عاقبة جيّدة جدّاً. ففي ختام هذا الطريق ونهايته، لا خوف ولا حزن... هذا كلام صريح لـلقرآن معنا»[10].
وهكذا تكون دماء الشهداء مشعلاً للأمّة، تبعث فيها الأمل، وتمنحها الثبات، وتطمئن قلوب المؤمنين بأنّ مشروعهم في سبيل الله مشروع منتصر لا محالة، لأنّه مؤيَّدٌ ببركة الشهادة ورعاية الله سبحانه وتعالى.
[1] سورة البقرة، الآية 216.
[2] الشهيد الثاني، مسكِّن الفؤاد، ص50.
[3] سورة التوبة، الآية 52.
[4] سورة آل عمران، الآية 169.
[5] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 11/11/2023م.
[6] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج5، ص54.
[7] الميرزا النوريّ، مستدرك الوسائل، ج11، ص13.
[8] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 28/11/2017م.
[9] سورة آل عمران، الآية 170.
[10] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 11/09/2022م.