الحمد لله ربّ العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.
عباد الله، أيّها المؤمنون…
نقف اليوم على أعتاب مناسبةٍ عظيمةٍ أرساها الإمام الخمينيّ (قدّس سرّه)، حين أعلن «يوم تعبئة المستضعفين» في السادس والعشرين من تشرين الثاني، ذلك اليوم الذي لم يُرِد له الإمام أن يكون ذكرى تاريخيّة عابرة، بل أراده مشروعاً رساليّاً مستمرّاً لتحريك الطاقات، وبناء الوعي، واستنهاض الأمّة بجميع شرائحها، لتكون قادرة على تحمّل مسؤوليّاتها في مواجهة الطغيان وحماية الحقّ والعدل.
يقول الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه): «إنّ هدف الأنبياء هو تربية الإنسان ليكون إنساناً إلهيّاً، يحمل روح الله، ويتحرّك في سبيل إقامة العدل. الإنسان خليفة الله في الأرض، وكلّ ما يُعطى له من طاقات إنّما هو أمانة ليجعلها في خدمة المستضعفين»[1].
التعبئة في أصل الخطاب القرآنيّ
إنّ فكرة التعبئة ليست فكرة طارئة في الفكر الإسلاميّ، ولا هي اجتهاد سياسيّ أو عسكريّ وُلِد من رحِم ظرفٍ مُعيَّن، بل إنّ لها جذوراً عميقة في القرآن الكريم، في الأساس العقديّ والعمليّ للأمّة؛ فالقرآن يُحمِّل الإنسان مسؤوليّة الاستخلاف في الأرض، وهذه المسؤوليّة لا تتحقّق إلّا بالنهوض بالواجبات الكبرى: الجهاد، العمل الصالح، التعاون، التكافل، الأمر بالمعروف، إقامة القسط...
وانظروا كيف يوجّه القرآن خطابه للأمّة ككلّ، لا للفرد فقط: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾؛ فالمسؤوليّة جماعيّة، والنهضة جماعيّة، والانتصار لا يتحقق إلّا في صيغة «نحن».
وقد بيّن الله عزّ وجلّ هذا المعنى في قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾[2]، فالآية لا تتحدّث عن نبيٍّ يقاتل وحده، بل عن جماعةٍ مؤمنةٍ تعبويّة تحمل الرسالة، وتثبت، وتصبر، وتقاتل؛ إذ لا يتحقّق النصر الإلهيّ بمجرد الإيمان النظريّ، بل بإيمانٍ مصحوبٍ بالحضور العمليّ المنظَّم.
كما ويجعل الله عزّ وجلّ وعده مشروطاً بالسعي والمجاهدة: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾[3]، فالهداية والنصر والتمكين ثمرة جهدٍ جماعيّ واعٍ، وهذا هو جوهر التعبئة.
ويؤكّد القرآن وحدة الصفّ وعدم التفرّق شرطاً أساسيّاً في النهوض: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾[4]، فلا اعتصام بلا «جَمِيعًا»، ولا نهوض بلا وحدة، ولا تعبئة بلا انسجامٍ وتكامل.
من هنا، نفهم أنّ التعبئة ليست مجرّد حشدٍ عدديّ، بل هي مشروع إيمانيّ شامل، يتجاوز السلاح إلى القِيم، والإعداد العسكريّ إلى بناء الإنسان الرساليّ.
البعد العسكريّ للتعبئة
ومن أبعاد التعبئة التي شدّد عليها الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه) البعد العسكريّ والاستعداد المهنيّ والمنهجيّ للدفاع عن الأمّة، فالقرآن الكريم يأمرنا: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾[5]؛ والقوّة ليست السلاح فحسب، بل التدريب، والخبرة، والانضباط، والتنظيم، وبناء الهيئات القادرة على حماية المجتمع والدفاع عنه. إنّ القوّة التي لم تُدرَّب ولم تُنظَّم تظلّ طاقةً معطّلة لا تُؤتي ثمارها.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «وجب على تشكيلات التعبئة -الشباب خاصّة- الحفاظ على قوّتهم وجهوزيّتهم ونشاطهم وشعورهم بالواجب وعلى عملهم وطريقهم»[6].
كما أنّ التعبئة العسكريّة لا تقتصر على الشباب وحَمَلَة السلاح، بل تشمل التأهيل البدنيّ والذهنيّ والمهنيّ، وبناء القدرة على العمل ضمن منظومة، وصيانة الجهوزيّة الدائمة. هذا كلّه يُحوِّل الاستعداد إلى عنصر ردعٍ فعّال، يحفظ أمن المجتمع، ويمنع عنه الاعتداءات.
البعد الدفاعيّ الشامل
ولكنّ الإعداد الحقيقيّ لا يقتصر على الجبهة العسكريّة فحسب، بل ثمّة جبهة الوعي والفكر والثقافة. إنّ الحرب الأولى التي تُشنّ علينا اليوم هي حرب الوعي، حرب تغيير المفاهيم، حرب ضرب الثقة بالذات وبالقيم وبالقدوة.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «عليكم التحلّي باليقظة... طبعاً هو صعب وليس سهلاً؛ لكنّكم رجال العمل الصعب، وأنتم بصفتكم تعبويّون عليكم تولّي هذا العمل الصعب»[7].
ولذلك، فإنّ البعد الدفاعيّ في التعبئة يشمل الدفاع المادّيّ، ولكن يسبقه الدفاع الفكريّ والثقافيّ والقيميّ، ويلازمه الدفاع الإعلاميّ والقانونيّ. فالطلّاب في الجامعات، وطلبة الحوزات، والمثقّفون، والباحثون، والنشطاء، جميعهم جزء من هذه الجبهة.
إنّ التعبئة دفاعٌ عن العقيدة، وتحصينٌ للهويّة، وحراسةٌ للمعاني التي يريد الأعداء محوها من وجدان الأمّة. وقد أثبتت التجارب أنّ الهزيمة تبدأ حين يُهزَم الوعي، وأنّ الانتصار يبدأ حين ينهض الفكر، ومن هنا تأتي البصيرة؛ فهي النور الذي يحفظ المجاهد من التيه، والميزان الذي يُميَّز به الحقّ من الباطل، والسلاح الذي يسبق كلّ سلاح. فبقدر ما تمتلك الأمّة من بصيرة، تمتلك قدرةً على الصمود، وعلى تحويل المعرفة إلى موقف، والموقف إلى فعلٍ يصنع النصر.
التعبئة مشروع أمّة لا مشروع لحظة
إنّ يوم تعبئة المستضعفين ليس مناسبة احتفاليّة، بل هو دعوة مفتوحة لتجديد العهد مع مشروع الإسلام العالميّ، مشروع نصرة المستضعفين في الأرض، قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾[8].
إنّ هذا الوعد الإلهيّ العظيم ليس مجرّد شعار، بل هو غايةٌ مشروطة بتكوين قوّةٍ واعيةٍ منظّمة، تعمل على تحقيق هذا الوعد، والتعبئة هي الطريق إلى ذلك: تعبئةٌ للإيمان، تعبئةٌ للطاقات، تعبئةٌ للعقول والهمم، تعبئةٌ للصبر والجهاد.
والمستضعفون الذين يريد الله لهم النهوض ليسوا الضعفاء الذين استكانوا، بل هم الذين يُراد لهم أن يكونوا ضعفاء، فيقفون ويواجهون ويقاومون.
مسؤوليّتنا في يوم التعبئة
إنّ مسؤوليّتنا اليوم هي أن نتحوّل إلى أمّةٍ تنهض وتعمل وتبني، مسؤوليّتنا أن ندرك أنّ التعبئة ليست لأهل الجبهات وحدهم، بل لكلّ فردٍ في المجتمع؛ كلٌّ من موقعه؛ المعلّم في مدرسته، الطالب في جامعته، المربّي في أسرته، صاحب المهنة في ورشته، المجاهد في ساحته، المبلِّغ على منبره، الإعلاميّ في قلمه، العالم في فكره... الجميع جزء من التعبئة، والجميع مسؤول.
إنّ الفرد التعبويّ هو ذلك الشخص الذي ينتمي إلى الفئات الشعبيّة بمجملها، فإنّ التعبئة لا تقتصر على فئة خاصّة من الشعب، كالنخب العلميّة أو الاقتصاديّة أو العسكريّة... بل هم من أبناء الشعب على وجه عامّ، وقد ذكر الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) ذلك قائلاً: «أمّا في ما يتعلّق بنطاق التعبويّين، فمَن هو التعبويّ؟ كلّ إنسان ينشط في هذا المجال العقائديّ والإنسانيّ الذي تكلّمنا عنه، هو تعبويّ»[9].
أيّها المؤمنون…
إنّ الأمّة التي تُعبِّئ قواها تعرف كيف تنتصر، وتعرف كيف تصمد، وتعرف كيف تبني مستقبلها. وقد رأينا هذا بأعيننا في انتصارات المقاومة، وفي تحوّل المستضعفين إلى قوّةٍ يحسب لها الطغاة حساباً.
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا من جنود الحقّ، وأن يوفّقنا لصيانة رسالته، وأن يكتب لأمّتنا النصر والتمكين.
اللهمّ انصر الإسلام وأهله، واخذل الكفر وأهله، واجعل هذا اليوم يوم تعبئةٍ للإيمان والوعي والعمل في سبيلك.
[1] صحيفة الإمام (قُدِّس سرّه)، ج10، ص240.
[2] سورة آل عمران، الآية 146.
[3] سورة العنكبوت، الآية 69.
[4] سورة آل عمران، الآية 103.
[5] سورة الأنفال، الآية 60.
[6] من كلامٍ للإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، بتاريخ 27/06/1989م.
[7] من كلامٍ للإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، بتاريخ 21/05/2007م.
[8] سورة القصص، الآية 5.
[9] من كلامٍ للإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، بتاريخ 27/11/2014م.









