الصفحة الرئيسية
بحـث
تواصل معنا
Rss خدمة
 
  تحريك لليسار إيقاف تحريك لليمين

العدد 1701 08 رجب 1447هـ - الموافق 29 كانون الأول 2025م

أمير المؤمنين (عليه السلام) سيف العدل في درب التوحيد

عنوانُ صحيفةِ المؤمنِكلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء القائمين على مؤتمر إحياء ذكرى آية الله السيّد محمّد هادي الميلانيرسالة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) إلى الاجتماع السنويّ لاتّحاد المنتديات الطلّابيّة الإسلاميّة في أوروبّاالإمام عليّ (عليه السلام) نموذجكممراقباتمراقباتالمسؤولون هم المطالَبون بالزهد أوّلاًكلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مع القائمين على مؤتمر تكريم شهداء محافظة ألبرزثلاثٌ لِرضوانِ الله ِعزَّ وجلَّ
من نحن

 
 

 

التصنيفات

العدد 1701 08 رجب 1447هـ - الموافق 29 كانون الأول 2025م

أمير المؤمنين (عليه السلام) سيف العدل في درب التوحيد

تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق

إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وشهيد الأمّة الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، ومراجعنا وقادتنا العِظام، والأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك، بذكرى الولادة المباركة والميمونة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ (عليه السلام)، في الثالث عشر من شهر رجب الأصبّ، سائلين المولى أن يجعلنا من المتمسّكين بولايته والثابتين على نهجه وموّدته.

الحمد لله الذي جعل القيَم ميزاناً، وجعل الصالحين شواهد عليها. الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليُخرج الناس من عبادة الأصنام إلى عبادة الله الواحد. الحمد لله الذي جعل التوحيد أصلاً، والعدل فرعاً لازماً له. وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

أيّها المؤمنون،
نقف اليوم عند ذكرى عظيمة، لا بوصفها حادثة نادرة في التاريخ فحسب، بل لأنّها تحمل دلالةً تتجاوز الزمان والمكان؛ ذكرى ولادة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، الرجل الذي كان مشروعاً إلهيّاً إيمانيّاً قِيَميّاً متكاملاً، يبدأ من التوحيد ولا ينتهي بالعدل.

لقد اعتاد كثيرون أن يقفوا عند ولادته (عليه السلام) في الكعبة بوصفها كرامة، ويكفيها شرفاً، ولكنّ الخطر كلّ الخطر في أن تتحوّل هذه الكرامة إلى حكاية تُروى، وتُفصل عن معناها، وتُجرَّد من رسالتها؛ فالقيمة الحقيقيّة في هذه الولادة ليست في الجدران التي وُلد بينها، بل في المنهج الذي خرج منها.

لقد وُلد أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكعبة، في بيت الله، رمز التوحيد الخالص، ولذلك دلالته العميقة؛ فالكعبة المكرَّمة هي عنوان «لا إله إلّا الله»، عنوان نفي كلّ أشكال الشرك.

وحين يُولَد أمير المؤمنين (عليه السلام) في قلب هذا الرمز، فإنّ الرسالة واضحة: هذا الإنسان سيحمل التوحيد من حيّز العقيدة إلى واقع الحياة، ومن الإيمان القلبيّ إلى العدالة السلوكيّة؛ فالكعبة رمز «لا إله إلّا الله»، وعليّ (عليه السلام) تجلٍّ عمليّ لهذه الكلمة في السلوك والموقف، وقد عبّر عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله المشهور: «ما رأيتُ شيئاً إلّا ورأيتُ الله قبله»[1]، وإنّ هذا المعنى ينسجم تماماً مع قوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾[2].

ومن كان منهج حياته قائماً على استشعار حضور الله تعالى في كلّ شيء، لا يمكن أن يظلم، ولا أن يخون، ولا أن يبرّر الباطل؛ لأنّه يعلم أنّ الله شاهد قبل الناس.

أيّها المؤمنون،
إنّ للولادة في بيت الله دلالةً رمزيّةً عميقةً على مسارٍ وجوديّ كامل؛ فمَن يولَد في موضعٍ لم يُجعل إلّا للعبادة، لا يمكن أن تكون حياته لاحقاً قابلةً للانفصال عن الله، ولا أن تُفهم أفعاله خارج إطار العبوديّة والمسؤوليّة الإلهيّة؛ ومن هنا نفهم سرّ وحدة أمير المؤمنين (عليه السلام) الداخليّة، تلك الوحدة التي لم تعرف انفصاماً بين العبادة والعمل، ولا ازدواجيّةً بين المحراب والحكم، ولا تعارضاً بين التقوى والسياسة.

لم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) يرى السلطة مجالاً لتحقيق الذات أو توسيع النفوذ، بل كان يتعامل معها بوصفها امتداداً للتكليف الإلهيّ. فالعبادة عنده لم تكن طقساً منقطعاً عن الواقع، كما أنّ السياسة لم تكن ممارسةً منفصلةً عن القيَم؛ ولهذا لم يُقارب (عليه السلام) الحكم بمنطق الغلبة، بل بمنطق الأمانة، وقد عبّر (عليه السلام) عن هذه الحقيقة بوضوحٍ حين قال: «واللَّهِ، مَا كَانَتْ لِي فِي الْخِلَافَةِ رَغْبَةٌ، ولَا فِي الْوِلَايَةِ إِرْبَةٌ، ولَكِنَّكُمْ دَعَوْتُمُونِي إِلَيْهَا، وحَمَلْتُمُونِي عَلَيْهَا»[3].

هذه الكلمة لا تنفي المشروعيّة، بل تنفي النزعة الشخصيّة؛ فهو لم يطلب السلطة، لكنّه لم يتهرّب منها حين صارت واجباً؛ لأنّه يرى نفسه معنيّاً بنداء الأمانة الذي تحدّث عنه القرآن الكريم: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[4].

فالحكم في وعي أمير المؤمنين (عليه السلام) ليس امتيازاً، بل هو عبءٌ ثقيل، ولا يُقاس بمدى ما يمنحه من قوّة، بل بمدى ما يفرضه من عدل ومساءلة أمام الله. وبناءً عليه، لا يكون العدل خياراً إداريّاً أو توجّهاً سياسيّاً قابلاً للتبديل، بل ضرورةً عقديّة نابعة من التوحيد نفسه. والقرآن حين يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾[5]، فإنّه لا يقدّم خطاباً وعظيّاً مجرّداً، بل يؤسّس لقاعدة قيام المجتمع، ويحدّد المعيار الذي تُقاس به شرعيّة السلطة وأخلاقيّة القرار.

وفي هذا السياق، يصبح العدل عند الإمام عليٍّ (عليه السلام) ترجمةً عمليّة للإيمان، وليس مجرّد شعارٍ سياسيّ؛ ولهذا يقول (عليه السلام): «الْعَدْلُ يَضَعُ الأُمُورَ مَوَاضِعَهَا»[6]، فهو ميزان الوجود الاجتماعيّ، وضمانة عدم تحوّل القوّة إلى ظلم.

بل إنّ حساسته (عليه السلام) تجاه العدل بلغت حدّاً يرى فيه الألم الشخصيّ أهون من أيّ انحرافٍ أخلاقيّ في ممارسة السلطة؛ ولذلك قال (عليه السلام): «واللَّه، لأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الأَغْلَالِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّه ورَسُولَه يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ»[7].

هذه ليست مبالغةً بلاغيّة، بل هي تعبيرٌ عن وعيٍ عميق بأنّ قيمة الإنسان عند الله لا تُقاس بما يملك من سلطان، بل بما يصونه من عدل. وهنا تتجلّى فرادة تجربة أمير المؤمنين (عليه السلام): حكمٌ نابع من العبادة، وسياسةٌ منضبطة بالتوحيد، وسلطةٌ تخضع للحقّ.

عباد الله،
هنا نبلغ جوهر القضيّة وميزانها الدقيق في الفرق بين تعظيم الأشخاص وتعظيم القيَم؛ فتعظيم الأشخاص -إذا انفصل عن القيَم- قد يتحوّل إلى حالةٍ عاطفيّة عصبيّة، نكتفي فيها بالإعجاب والتمجيد، من دون أن تُلزِمنا بتغييرٍ في الموقف أو السلوك؛ أمّا تعظيم القيَم، فهو مسارٌ شاقّ، يضعنا أمام امتحان الضمير، ويُلزمنا بأن نقف مع الحقّ، حتّى حين يتعارض مع مصالحنا أو انتماءاتنا أو مزاجنا العامّ.

وقد وضع أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه القاعدة بوضوحٍ لا يقبل التأويل حين قال: «اعرف الحقَّ تعرف أهلَه»[8]؛ فالحقّ هو الأصل، والأشخاص يُعرَفون به، وليس العكس. والقيَم هي الميزان، وليست الأسماء أو العناوين، ومن دون هذا الميزان، تنقلب المواقف، ويُبرَّر الظلم، ويُلبَس الباطل لَبوس القداسة.

أيّها المؤمنون،
إذا خرجنا من صفحات التاريخ إلى واقعنا الراهن، فإنّ هذه الرسالة تبلغ ذروة إلحاحها. فلبنان اليوم يعيش تحت وطأة اعتداءاتٍ يوميّة من الكيان الغاصب على أرضه وسيادته، فيما يُواجَه هذا العدوان بارتباكٍ في القرار، وتُقدَّم تنازلات من دون مقابل، فيضيع الحقّ مرّةً بالصمت، ومرّةً بالتبرير، ومرّةً تحت عنوان الواقعيّة السياسيّة.

إنّها أزمة ميزان قبل أن تكون أزمة ظرف أو إمكانات. أزمة في تقدير الأولويّات، وفي تحمّل المسؤوليّة، وفي موقع القيَم من القرار العامّ. فحين يغيب العدل عن مواقع الحكم، تتآكل الثقة، وحين تُفصل القيَم عن إدارة الشأن العامّ، يختلّ معيار الصواب، وتُشوَّش البوصلة بين ما يحفظ السيادة وما يبدّدها.

لبنان لا يحتاج إلى شعاراتٍ تُرفع في المناسبات، ولا إلى قداسةٍ لفظيّة تُعطى للأشخاص، بل يحتاج إلى حكمةٍ صادقة في مواقع القرار، وإلى وضوحٍ أخلاقيّ يميّز بين التفريط بالحقّ وبين حمايته، وبين منطق الدفاع المشروع ومنطق التنازل المجّانيّ.

من هنا، فإنّ الحديث عن القيَم ليس خطاباً نظريّاً، بل هو معيار المسؤوليّة الوطنيّة، وقد لخّص الإمام الصادق (عليه السلام) هذا المنهج العمليّ بقوله: «كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم»[9]؛ أي بمواقفكم حين يُعتدى على الوطن، وبأمانتكم في القرار، وبثباتكم حين تتعرّض السيادة للاختبار.

وفي زمننا هذا، رأينا مصاديق حيّة لهذا النهج القِيَميّ، وفي طليعتهم شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، الذي لم يقدّم نفسه يوماً بوصفه رمزاً يُطالَب الناس بتعظيمه، بل بوصفه حاملاً لقضيّة، ومتحمّلاً لمسؤوليّة، ومدافعاً عن حقّ. مضى على نهج جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) في فهم القيادة تكليفاً لا امتيازاً، وفي الانحياز الواضح إلى المظلومين والمستضعفين، حتّى ختم مسيرته بالشهادة دفاعاً عن القيَم لا عن المصالح.

وقد عبّر (رضوان الله عليه) عن هذا الفهم القِيَميّ بوضوح، في أكثر من خطاب، حين أكّد أنّ الموقف ليس طلباً للسلطة، ولا بحثاً عن مكسب، بل تحمّلٌ للتكليف، وقال: «ما نقوم به في لبنان... استجابة صادقة للمسؤوليّة الإنسانيّة ‏والأخلاقيّة والإيمانيّة والدينيّة الملقاة على عاتق كل واحد منّا، هو استجابة لهذه المسؤوليّة‎»[10].

وهكذا نفهم أنّ القيَم لا تموت بموت أصحابها، بل تزداد حضوراً حين تُروى بالتضحية، وأنّ مدرسة أمير المؤمنين (عليه السلام) لم تبقَ حبيسة الكتب والخطب، بل امتدّت في الرجال الذين جعلوا الحقّ ميزانهم، وثبتوا عليه، ودفعوا ثمنه صبراً وثباتاً وفداءً.

عباد الله،
إنّ الاحتفال الحقيقيّ بولادة أمير المؤمنين (عليه السلام) يكون في الصدق معه؛ بأن نرفض الظلم، وأن نثبت على الحقّ، وأن نُعيد للعدل مكانته في بيوتنا وأعمالنا وبلدنا.

نسأل الله تعالى في هذه الذكرى المباركة، أن يرزقنا وعي التوحيد، وشجاعة العدل، وبصيرة القيَم، وأن يجعلنا من السائرين على نهج أمير المؤمنين (عليه السلام)، قولاً وعملاً، والحمد لله ربّ العالمين.


[1] المازندرانيّ، شرح أصول الكافي، ج3، ص83.
[2] سورة الحديد، الآية 4.
[3] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص322، الخطبة 205.
[4] سورة الأحزاب، الآية 72.
[5] سورة النحل، الآية 90.
[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص553، الحكمة 437.
[7] المصدر نفسه، ص346، الخطبة 224.
[8] الفتّال النيسابوريّ، روضة الواعظين، ص31.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص78.
[10] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 13/02/2024م.

29-12-2025 | 14-30 د | 27 قراءة


 
صفحة البحــــث
سجـــــــل الزوار
القائمة البريـدية
خدمــــــــة RSS

 
 
شبكة المنبر :: المركز الإسلامي للتبليغ - لبنان Developed by Hadeel.net