و لد سماحة السيد عباس الموسوي رضوان الله عليه في العام1952 في الشياح في الضاحية الجنوبية لبيروت.
التحق في العام 1968 بالدراسة الدينية في معهد الدراسات الاسلامية الذي اسسه الامام الصدر في صور وربطته علاقة خاصة بالامام الصدر.
ارتدى سماحة السيد عباس زي رجال الدين وكان في السادسة عشرة من عمره.
هاجر في العام 1969 الى النجف الاشرف لمتابعة دراساته الدينية في الحوزة العلمية وتربى هناك على يد الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر الذي كان يصفه بانه فلذة كبده.
تزوج في العام 1973 من ابنة عمه سهام الموسوي( الشهيدة ام ياسر).
عاد الى لبنان في العام 1978 بعد ان خطط النظام العراقي لاعتقاله.
اسس حوزة الامام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف في بعلبك وجمع فيها الطلاب والاساتذة الذين ابعدهم النظام العراقي عن حوزة النجف الاشرف.
اسس في العام1979 تجمع علماء المسلمين في البقاع.
اسس بالتعاون مع زوجته الشهيدة ام ياسر حوزة خاصة بالاخوات اطلق عليها اسم حوزة الزهراء عليها السلام.
شارك في تاسيس حزب الله في العام1982 وكان عضوا في اول مجلش شورى للحزب.
اصبح في العام1985 مسؤولا لمنطقة الجنوب في حزب الله وانتقل للاستقرار في مدينة صور في جنوب لبنان.
انتُخب السيد الشهيد في أيار 1991 أميناً عاماً لحزب الله.
استشهد في 16 شباط 1992 بغارة نفذتها طائرات اسرائيلية على موكبه في بلدة تفاحتا احدى قرى جنوب لبنان في طريق عودته من احتفال في ذكرى استشهاد شيخ شهداء المقاومة الشيخ راغب حرب.
اختيار طلب العلم طريقا.
عام 1968 تعرف على سماحة السيد موسى الصدر في بيت أحد الأصدقاء بمنطقة الأوزاعي وكان حديثٌ بينهما مدّ جسور تفاهم وتوادد، ولمس السيد الصدر يومها أنه أمام شخصية مميزة، ورجل لن يكون عادياً في مسيرة شعبه وحياة أمته، فرغب إليه بالالتحاق بالحوزة العلمية التي كان أنشأها في مدينة صور، والتي كانت مسمّاة آنذاك بـ"معهد الدراسات الإسلامية"، فاستجاب السيد عباس لطلب السيد الصدر، ثم تابع دراسته فيها الى ما بعد انتقالها الى المؤسسة في البرج الشمالي، فكان بذلك من الطلبة الذين دشّنوا بناء المؤسسة وكانوا باكورة عطائها..
في السادسة عشرة من عمره، تعمّم" السيد وازداد تعلقاً بحبّ السيد الصدر الذي بادله الحب والتقدير وكما في اللقاء، وكما رغب السيد الصدر إليه أن يلتحق بالحوزة في صور، فقد أشار عليه بعد تخرجه من المؤسسة أن يرتحل الى العراق ليتابع دراسته في كنف الشهيد السيد آية الله العظمى محمد باقر الصدر.. وهكذا كان..
الهجرة الى النجف الأشرف
... شد الشهيد السيد عباس الموسوي رحاله نحو النجف الاشرف النجف الذي يشتاق اليه كل راغب في العلم والمعرفة وما ان حط رحاله هناك حتى انكب على اساتذة الحوزة العلمية في النجف ينهل من معينهم وقد استطاع بعزيمته القوية وصبره الشديد ان ينهل الكثير من علومهم... وما هي الا مدة بسيطة حتى كان السيد الشهيد قد انهى المراحل المطلوبة لبلوغ مرحلة "الخارج" وعندما بلغ هذه المرحلة إنفرد بالدراسة على يدَي خدين روحه ومعقد أمله ومَثَله الأعلى الشهيد السيد آية الله محمد باقر الصدر قدس سره الذي وجد فيه فرادةً في الشخصية وصفاءً في الروح وهمّة كبرى في التحصيل.. وجده شخصاً مميزاً، فاختصه بالتمييز، وقرّبه إليه فاتحاً له كل أبواب علمه ليغرف منه ما يشاء ومتى يشاء، ولم يبخل عليه بالجواب على مسألة حيّرت فكره واستعصت على عقله، لقد فتح له خزائن علمه كما فتح له شغاف قلبه وكم من مرةٍ ردّد: "عبّاس فلذة من كبدي".. وكان السيد جديراً ولائقاً بهذا الاهتمام، هذا الاهتمام الذي أنبت فيه عطاءً غير محدود وتحدياً لكل مسألة شائكة تعترض مسيرته العلمية، فقد أنهى مراحل الدراسة في المقدمات والسطوح خلال فترة زمنية لا تتعدى الخمس سنوات، في حين يحتاج غيره لأكثر من ذلك.
العودة الاولى الى لبنان (1973)
عاد السيد عباس الى لبنان في صيف 1973 م، بعد غياب اربع سنوات سمان قضاها بشكل متواصل في رحاب النجف الأشرف يروي ظمأه من افاضات علمائه ومجتهديه وتحت رعاية الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر.. وفي هذا الصيف اقترن بابنة عمه الشيدة ام ياسر التي انتقلت معه الى العراق ليعيشا معا حياة متواضعة بسيطة .
السيد الشهيد في النجف : طالب وداعية ومبلغ:
إنّ رجلاً مثل السيد الشهيد لا يعرف أن يركن الى دعة وخمول، ولا يرضى بأن يُنـزل راية المسؤولية الإيمانية والجهادية من يده، فإلى جانب اهتماماته بدراسته الحوزوية، كان السيد رضوان الله عليه يولي قسماً كبيراً من اهتماماته ووقته لأمور التبليغ والدعوة الإسلامية، وإقامة الندوات للتدارس بأوضاع الأمة، ولتكون هذه الندوات في الوقت ذاته لقاءات مفيدة مع الطلبة من كافة الأقطار وشتى الأصقاع لحثّهم على أن يكونوا على مستوى عالٍ من المسؤولية وأن يكون هدفهم الوقوف صخراً صلداً وسداً منيعاً في وجه الاستكبار العالمي والغزو الثقافي لتغريب البلاد الإسلامية بناسها ومجتمعاتها، وكي يتجهوا بتفكيرهم وخواطر عقولهم نحو القارة السوداء المسحوقة بسنابك أطماع الغرب السادر في دروب التسلط والهيمنة وامتصاص خيرات الشعوب الفقيرة والمستضعفة..
لقد كان السيد يفكر بأخيه الإنسان من حيث هو إنسان ويحاول بكل جهده وبكل عطاء روحه المتحفزة للإصلاح أن يعمّم رسالة الإسلام: رسالة المساواة والأخوّة الى كل حقول البشرية في أي مكان وصقع من الأرض، وكان يؤمن بأن تعميم هذه الرسالة هو في صميم عمل العالِم، رافضاً عزل السياسة عن الدين.
لقد كان السيد خلال إقامته في العراق نوراً وناراً.. كان متحركاً في كل اتجاهات العطاء.. ولقد تأثّر وعانى كثيراً مع الشعب العراقي الصابر على جور الحكم، لقد عاش مأساة شعب أحبّه وعاش بين أبنائه.
ومما زاد في معاناة السيد الشهيد سماعه الأنباء المؤثرة التي كانت تصله عن المأساة التي كان يعيشها جبل البطولة.. جبل عامل...على يد الكيان الصهيوني وعملائه والمقنّعين بقناعه والسائرين في ركابه: رغبةً منهم ورهبة منه، وطمعاً بمال يبيعون به دماء وأرواح أبناء شعبهم المعذّب والمجرّح..
كان يدرك ان لا سبيل لحل مشاكل الناس في اي مكان في العالم الا بالإسلام المحمدي الأصيل الإسلام الذي تحضر فيه الى جانب الصلاة فريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والى جانب الصوم فريضة الجهاد.... ويمثل فيه علماء الدين قادة حقيقيون ووورثة للأنبياء ومكملين لمهامهم.
لقد كان الشهيد الموسوي تلميذاً بارّاً وفّياً لمقولة الإمام الخميني العظيم قدس سره بضرورة إحياء الإسلام، وأنّ هذه المهمة تقع على عاتق علماء الدين في أماكن تواجدهم. وفي هذه الاجواء وفي هذا الطريق وهو يحمل هذه الروح تلاقة روحه بالشيخ الشهيد الشيخ راغب حرب.
في العراق.. كان لقاء بينه وبين شيخ الشهداء راغب حرب.. فتواصلت روحاهما، وتعانق فكراهما، ونشأت بين الشهيدين صلة هي العنوان الأول في كتاب شهادتيهما..
في تلك الفترة الحرجة والمرحلة العصيبة من تاريخ العتبات المقدسة في النجف الأشرف، ووصولاً الى الوضع المأساوي الذي كان يعيشه جنوب لبنان، لعب السيد دوراً هاماً، إذ كان صلة وصل وثيقة بين الشهيد السيد محمد باقر الصدر وبين سماحة الامام السيد موسى الصدر، إذ كان يأتي الى لبنان كل عام بعد عاشوراء (في شهر محرم)، لكي يُطلع الأخير على أوضاع العلماء في النجف، وعلى معاناة الشعب العراقي الرازح تحت نير بطش الحاكم وظلمه، ولقد طالت يد الحكم وبطشه السيد عباس شخصياً، إذا تعرض للمراقبة المستمرة والملاحقة عام 1978 من قبَل طاغية العراق صدام حسين، وتكررت المداهمات لمنـزله، وتعددت المضايقات له، مما دفعه وبأمر شخصي من السيد الشهيد محمد باقر الصدر الى مغادرة العراق، فتركه سراً في يوم من أيام عاشوراء حاملاً رسالة الى السيد موسى الصدر، في يوم أعطى فيه طاغية العراق أوامره بإبادة مسيرة عاشورائية من خلال قصفها بمدافع الطائرات، وبعد مغادرة السيد دهمت السلطات الجائرة منـزله لاعتقاله وإعدامه، لكن إرادة الله سبحانه واكبته حتى وصوله الى لبنان ليكمل دوره الرسالي والجهادي الذي أراده الله له..
ودّع السيد العراق، بعد ان زرع تسع سنوات من عمره في مناحي وأرجاء حوزته يرشف من مناهل علمها وعطائها، لتلحق به بعد مدة قصيرة زوجته الشهيدة ام ياسر.
السيد عباس في لبنان عالم عامل:
عاد السيد الى لبنان... عاد السيد حاملاً الرسالة التي نذر نفسه لها،عاد مشبعة نفسه بالعزيمة على إحياء ركائز الدين والتصدّي للطاغوت والاستكبار ونشر الإسلام وقيمه العادلة ومفاهيمه الراقية. فكان أول عمل قام به جمع الاخوة العلماء والطلبة المبعدين من النجف الاشرف في حوزة متواضعة، وهي حوزة الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، حتى يتابعوا تحصيلهم ولا تفوتهم فرصة متابعة الدراسة والاستفادة، وشهدت مدينة بعلبك بواكير العطاءات العلمية والجهادية لهذه الحوزة(بدعم بعض العلماء الكبار)، والى هذه الحوزة يعود الفضل الأساسي في انتشار الوعي الإسلامي والحركي في مناطق مختلفة من لبنان، وكان السيد عباس الأب الموجّه والراعي الساهر والقائد الأمين لمسيرة هذه الحوزة والسهر على حاجات طلابها ورعاية أمورهم، واستطاع أن يخرّج منها علماء ومجاهدين أبراراً..
و هذه الحوزة هي التي استقبلت رسل الثورة الاسلامية في ايران الذين رفدوها بروحية عالية كانت تكمل تلك الروح التي نفخها فيها السيد الشهيد فتكاملت الروحين لتصيغا معا الروح الاسلامية الاصيلة والثورية في الشباب اللبناني فيصبح شبابا مؤمنا ومضحيا ومقاوما وليسطر بعد مدة ملاحم عز في تاريخ هذه الامة لم تنقضى صفحاتها بعد.
في نيسان من العام 1980، اغتيل السيد محمد باقر الصدر على يد النظام العراقي، وكانت آخر رسائل الشهيد اخر وصاياه الى السيد بصفته وكيلاً له في لبنان..
لقد قوّى استشهاد السيد الصدر عزيمة السيد عباس، فلعب دوراً هاماً في استنهاض همم الخائفين، وكان يشجعهم ويوصيهم بطرح حالة الخوف مردداً أمامهم كلمات السيد الشهيد الصدر:
"إنّ البعث العراقي سوّر الشعب العراقي بجدارٍ من الخوف، ولكني سأخرق هذا الجدار بدمائي.."..
رغم ذلك، لم ينقطع تواصل السيد عباس مع الشعب العراقي وعلمائه، فقد استمر بذلك طريق بعض العلماء الذين كانوا يأتون بين فترة وأخرى من العراق الى لبنان..
حوزة السيدة الزهراء هليها السلام
كان السيد الشهيد يرى ان للمراة دور لا يقل عن دور الرجال وانها شريكته في الحياة وعليها تقى مسؤليات جسام كما تقع على الرجل مسؤوليات ايضا وان على المرأة ان تتسلح بالعلم والمعرفة الحقيقية وشعران عليه مسؤولية توفير سبل العلم والمعرفة لهذه الشريحة الإسلامية من المجتمع فكان تأسيس حوزة الزهراء عليها السلام بادارة الشهيدة ام ياسر واشراف مباشر من السيد عباس المعهد الذي اخذ دورا فعالا في انهاض المرأة المسلمة في لبنان وربى كوادر النهضة النسائية الاسلامية....
تجمع العلماء المسلمين في البقاع:
امن الشهيد السيد عباس الموسوي بالوحدة الاسلامية ايمانا راسخا وكان يراها سبيلا اساسيا للنهوض بالامة وطريقا للتغلب على اعداء الامة واستعادة امجادها وكان مؤمنا ان الوحدة تبدأ بوحدة علماء الامة فسعى الى ايجاد الاطر والمؤسسات التي يمكن ان ترعى الوحدة وتنشرمفاهيمها وتعززها وترسخها في المجتمع فكان انشاءه لتجمع العلماء المسلمين عام 1979 في البقاع ليكون أول تجمع علمائي في لبنان.
السيد عباس الموسوي والثورة الاسلامية في ايران
وأتى العام 1979.. موسم الخير الإلهي.. وانفرجت شفتا السماء عن بسمةٍ لوجودٍ طافت في أجوائه الكآبة، انفرجت عن نهلةٍ لأرضٍ شقّقها الظمأ، وكان لكلمة الحق أن تدوّي في أسماع العالم.. وكان لراية الإسلام أن ترفرف عالية بأيدٍ مباركة لم يثنها عن جهادها ترهيب وترغيب..
وكان زمن الإمام الخميني المقدّس زمن ثورة وحياة لأمة، وصار دليلاً للمستضعفين في العالم....
إنه زمن الإمام المقدّس، ذلك المارد الذي انطلق ليهزّ عرش الطاغوت بالاعتماد على القوة الإلهية وأعلن شعاره المدوي: " لا شرقية لا غربية جمهورية اسلامية".
لقد كان ذلك حُلماً صعب التحقق، وقد جسّده الإمام الخميني قدس سره واقعاً اعترف به العدو قبل الصديق، وكان السيد عباس في طليعة السائرين ضمن القافلة الخمينية، وقد حرص عليها بجفن الروح وهدب القلب الخافق حباً لنهجها وشخص قائدها..
لقد تحقق حلم السيد في قيام دولة الإسلام، وشاهد أمنية عمره تتجسد واقعاً، فكان السيد الشهيد من المجاهدين الأوائل الذين انضووا تحت لواء الثورة الإسلامية وفي طليعة تلاميذ ثورة الإمام، وكان من الداعمين لها بكل كيانه فكراً ولساناً وعملاً، ومن أشد المدافعين عنها والمتمسكين بنهجها ونهج قائدها وبخط ولاية الفقيه.. كان السيد الشهيد قد اذاب نفسه منذ زمن في الإمام الخميني المقدس، وسار على خطى أستاذه الشهيد السيد محمد باقر الصدر الذي دعا الناس لأن يذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام..
كان السيد يرى في شخصية الإمام المقدس ملامح من علي والحسن والحسين عليهم السلام، وكان يرى في الجمهورية الإسلامية أفق الأمة، الأفق العزيز للإسلام ومنارة دربه نحو المستقبل الذي لا استكبار فيه ولا استضعاف، والذي يستنير بقبس الرسالة الإسلامية الذي أشعله الإمام الخميني بوقود روحه الخالدة وتعاليمه السامية..
من هنا، كان السيد الشهيد ينفخ الثورة في نفوس الشباب، ويعلّمهم الوفاء للإمام ونهجه وثورته العظيمة..
و اسعد لحظات حياته كانت تلك التي تشرف هو واخوته بلقاء الإمام الخميني قدس سره في إيران الإسلام، حيث تزودوا بتوجيهاته المباركة، واستلهموا منه كيفية التعاطي مع مستقبل وأساليب العمل الجهادي في لبنان، وتلقوا منه تكليفهم الشرعي..
بعدها، عاد السيد الى لبنان وقد ازداد عزيمة وصلابة، عاد صوتاً صارخاً يبث الروح الإيمانية في نفوس الناس، وينمّي الوعي السياسي والجهادي لدى نخبة مخلصة، وينفخ في صدور الشباب روح الثورة والتحدي والاستعداد للتصدي والمواجهة، وكان كل همّه أن يعلّمهم كيف يكونوا تلاميذ أوفياء، وجنوداً حقيقيين في قافلة الجهاد.. قافلة الإمام الخميني قدس سره..
لقد كان عِشق الموسوي الشهيد للثورة الإسلامية يفوق كل عشق وهوى، لقد عشِقها عِشق الروح المنجذبة الى هواها.. عِشق الضمير النقي للمثل العليا.. عِشق العابد للصلاة والتهجّد.. وذاب روحياً في شخصية قائدها المقدس، حيث كان يرى في تلك الشخصية امتداداً لولاية الأئمة الأطهار عليهم السلام، وتجسيداً لحلم ضائع منذ تاريخ طويل ضارب في ذاكرة الألم الشيعي العتيق. لقد رأى السيد عباس في الرؤية الفقهية السياسية للإمام الخميني (رؤية ولاية الفقيه العامة) شرطاً ضرورياً لنهضة المسلمين ولإعطاء القيادة الشرعية كل أبعادها المرجعية من فقهية وسياسية واجتماعية بطريقة تعمّق وحدة الأمة عن طريق وحدة قيادتها، لذا مثّلت ولاية الفقيه إطاراً مرجعياً للسيد الشهيد في فكره وسلوكه، واستحوذت عليه بشكل كامل، فتعبّد في محرابها، وأخلص لها إخلاصه لآل البيت الأطهار عليهم السلام، وتجلّى ذلك بوضوح في ولائه المطلق للإمام الخميني المقدس، وفيما بعد لخليفة الإمام ولي أمر المسلمين السيد الخامنئي دام ظله..
لقد كان أهنأ أوقات السيد الشهيد عندما يزوره رسل الإمام الخميني قدس سره من حرس ثوري وغيرهم ليضعوا أرواحهم في خدمة المستضعفين ومحاربة العدو الاسرائيلي
لقد كان السيد جندياً في جيش الإسلام الذي وضع نواته إمام الأمة، وتلميذاً قدوةً لثورته وتعاليمه، وشهيداً قضى وهو يعلي مداميك الثورة الإسلامية وفي سبيل قيام دولة الإسلام..
السيد عباس والمقاومة الاسلامية
اجتاحت اسرائيل مجددا لبنان بشكل واسع في حزيران من العام 1982 ووصلت قواتها الى بيروت واحتلت ثاني عاصمة عربية وقد حاولت ايجاد نظام موال لها في لبنان وباشرة محادثاتها لمعاهدة سلام مع الحكومة اللبنانية بعد ان استطاعت ان تنهي الوجود العسكري لمنظمة التحرير الفلسطينية وان تفرض عليها سحب مقاتليها من لبنان الى تونس....
مع رحيل الفصائيل الفلسطينية من لبنان وسيطرة القوات الاسرائيلية على اجزاء واسعة من لبنان تغيرة المعادلات في الساحة اللبنانية والمنطقة كان لا بد من تصعيد العمل الجهادي ضد العدو كابسط رد ممكن على عدوانه واستمراره في احتلال الاراضي اللبنانية فكانت المقاومة هي الرد الناجع في هذه الظروف العصيبة من تاريخ الامة وُلد حزب الله-لبنان، بتوجيه من الإمام الخميني المقدس وعلى هدي أفكاره ورؤيته وخطه، وكانت ولادة مباركة , وكان السيد عباس من أبرز المؤسسين، وحصل ذلك في ظل المعاناة الكبيرة التي سبّبها الاجتياح الصهيوني للبنان وانتشار القوات المتعددة الجنسيات في مرحلة لاحقة..
انطلق السيد واخوته يقومون بالخطوات العملية للمواجهة والمقاومة فانطلقوا الى المعسكرات ليتجهزوا لقتال اسرائيل وليلبوا نداء الامام بوجوب الاستعداد لقتالها ورغم كل الدورات والتدريبات التي أجراها سابقاً، فقد التحق السيد الشهيد بأول دورة تدريبية في البقاع، فكان قدوة للآخرين، وكان العالِم المتدرب على أيدي طلابه، ليعطي بذلك درساً في القيادة المثالية، وليدلّ على روحية صافية عالية، مما أثّر بشكل كبير على نفوس كل الاخوة المجاهدين.. وهكذا ومنذ ان اجتاحت اسرائيل لبنان في العام 1982 وجد السيد نفسه منغمساً في العمل الجهادي وو ما يحتاج من تعبئة ومتابعة واصبح وقته الذي كان قد خصصه بقسمه الاكبر لشؤون الحوزة اصبح الان مكرسا بكل ساعاته ودقائقه وثوانيه للاهتمام بأمور حزب الله مع إخوته المؤسسين من علماء وكوادر، ولذلك كلّف بعض ذوي الكفاءة والخبرة للتدريس نيابةً عنه، إذا انه كان في حركة دائمة ومتنقلة بين مناطق لبنان.. جنوباً وبقاعاً وضاحيةً.. يرفع لواء الإسلام وتعاليم الثورة: دون مبالاة لا بنفسه ولا ببيته وأطفاله.. مرتحلاً في سبيل الحق ومهاجراً في سبيل الله..
السيد والجنوب
للجنوب حكاية مميزة مع السيد الشهيد، حكاية خطّها قلم الجهاد، بحبر من عرقٍ ودم، حكاية الجسد الذي إذا اشتكى عضو منه تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحماية..
كانت معاناة الجنوب جرحاً في قلب السيد، وكان لأرض أبي ذر الغفّاري مكانة مميزة في نفس الموسوي، لذا توجّه اليه قبيل الاجتياح الصهيوني، وتنقّل بين قراه الوادعة، للتبشير بولاية الفقيه.. ولاية الإمام الخميني، والدعوة الى إزالة الغدة السرطانية إسرائيل من خاصرة الوطن الكبير..
و عندما تم الاجتياح الاسرائيلي غادر السيد منـزله في بعلبك متوجهاً نحو بيروت ومنها الى الجنوب، حيث التقى في جبشيت بإمامها الشيخ راغب حرب، ونقل اليه التكليف الشرعي بأمر من إمام الأمة قدس سره، ذلك التكليف الذي يأمر بمقاتلة إسرائيل في كل مكان وبكل الإمكانات والوسائل، وقد تلقى شيخ الشهداء ذلك التكليف بنفسٍ مخلصة مجاهدة، وعمل بمضمونه صارخاً بملء صوته: "الموقف سلاح.. المصافحة اعتراف"، ولم يهن، ولم يطأطئ الرأس أمام جبّار مزيَّف، واستمر كذلك حتى رحل مع قافلة الأبرار الذين باعوا أنفسهم ليشتروا الجنة.. وكان استشهاده (في 16-2-1984) دمعةً في قلب السيد، وحسرة في كبده، لكن الموسوي كان يؤمن بحزم بأنه في قافلة الشهادة ذاتها (وإن تأخر الرحيل)، وكان متقيناً بأنّ دماء المجاهدين ستتحول عواصفاً صاعقة على العدو..
توجّه السيد الشهيد الى الجنوب عام 1985 بعد تسلمه مسؤولية شورى الجنوب في حزب الله، وسكن في مدينة صور، وتحديداً بحي الرمل، وذلك في بيت متواضع ببنائه وأثاثه، في بيتٍ لا يختلف عن أي بيت من بيوت اخوته المستضعفين، وكان يقضي وقته مع المجاهدين الذين شرّعوا صدورهم للقتل باذلين في سبيل الله زهرات أعمارهم، وصار هؤلاء الاخوة مع الزمن أهل السيد وعياله، فاختلط بحياتهم.. بهمومهم.. أعطاهم عقله وروحه وعزم جسده النابض بالحق، كيف لا؟ والمقاومة هي عمر السيد.. لا همّ له سواها.. ولكم تمنّى عليه اخوته بأن لا يذهب معهم في المهمات الصعبة؟ وكم رجوه وقبّلوا لحيته الطاهرة أن يُحجم عن جموحه النبيل؟ لكنه قدس سره كان يذهب بصمت ويعود بصمت.. دون تبجح ومبالغة.. فيقضي معهم ساهراً.. مرافقاً في الشعاب والوعور.. وفي الجبال والوديان.. دون أن يؤثّر ذلك على واجبه الذي أوجبه على نفسه بخدمة المستضعفين، فقد فتح صدره لأبناء الجنوب بقلبٍ كبير وروح مصغية الى شكواهم، وكثيراً ما كان يردد أمامهم عبارته الشهيرة "بخدمتكم"..
في العام 1987، اضطر السيد لترك أرض الجنوب، لكن الجنوب بقي يعيش في قلبه، كيف لا؟، وهو الذي أحبّ أرضه، وعاش هموم أهله، وطالب برفع الحرمان عنهم..
السيد وانتفاضة فلسطين
إختزن قلب السيد هموم الأمة، وكان أكثرها ثقلاً همّ فلسطين.. فعاش الموسوي جراحات شعبها ومعاناة أهلها، وعذابات القدس ومسجد الصخرة وأزقّة الطهارة التي درج عليها الرسل والأنبياء عليهم السلام، ولطالما أكّد قدس سره في مجالسه على وجوب تنفيذ فتوى الإمام المقدس بإزالة إسرائيل من الوجود..
ويوم دعا الإمام الخميني قدس سره الى إحياء يوم القدس العالمي، كان السيد عباس في طليعة المسيرة بلباسه العسكري، وقد شدّ جبينه الطاهر بعصبة الجهاد، وكُتب عليها: أدركنا يا مهدي..
وعندما سعى أعداء الإسلام لتفريق الشمل بين أبناء الجنوب والشعب الفلسطيني، حاول السيد بكل عزمه وإخلاصه للملمة الوضع المتأزم، وردّ سماحته سبب الفتنة الى إسرائيل وعملائها، وظلّ يعمل دون كلل لوأد الفتنة وإعادة اللحمة بين أبناء الصف الواحد..
وكان السيد عباس لا يرى خلاصا للفلسطينين وللمنطقة الا بالجهاد والمقاومة وكان يقول ان:" الانتفاضة طبعا بمعناها الواسع انطلاقا من رمية الحجر وانتهاءا بالبندقية. الانتفاضة بهذا المعنى هي الخيار الوحيد لشعوب العالم الاسلامي والعربي. وهي الخيار الوحيد بالحد الادنى للشعوب التي تقع في اطار المشروع الاسرائيلي من النيل الى الفرات. هذا الخيار الوحيد والحتمي ادركه شعبنا في فلسطين. ولذلك امتلكت الانتفاضة القدرة على الاستمرار كل هذه الفترة الطويلة من الزمن لانها ادركت هذا الخيار. اذ البديل لهذا الخيار هو اقتلاع انساننا في فلسطين من ارضه. وعندما يخير المرء بين خيار الجهاد والمواجهة والانتفاضة وبين خيار الاقتلاع من الارض لن يختار الى خيار الجهاد والمواجهة."
السيد الشهيد أميناً عاماً
تتويجاً لمسيرته.. انتُخب السيد الشهيد في أيار 1991 أميناً عاماً لحزب الله، وقد اعتبر سماحته هذا الاختيار تكليفاً وليس تشريفاً، وتخوّف قدس سره أن يشغله ذلك عن معايشة هموم المقاومين، وعندما كانت الجموع تزحف للتهنئة، كان يقول لهم: "عزّوني ولا تهنّئوني، فأنا أطمح لأن أكون دائماً بين المقاومين ومع المجاهدين"..
وبالرغم من قصر المدة التي قضاها أميناً عامً (لا تتجاوز التسعة أشهر)، والتي انتهت بشهادته العظيمة، فقد تمكّن السيد من إنجاز الكثير من الأمور وعلى مختلف الصعد الاجتماعية والوطنية والسياسية والثقافية والإعلامية. وكان قدس سره يعمل ليل نهار لأجل إعلاء كلمة الله، وقد مثّل (بطروحاته الموضوعية الواضحة وأسلوبه الواعي البعيد عن التشنج والمبالغة) وجهاً أجتماعياً وإنسانياً بارزاً كانت الحالة القائمة آنذاك بأمسّ الحاجة اليه، واستطاع أن يستقطب وجوهاً سياسية ووطنية واجتماعية كثيرة من رسمية وغيرها، وأن تسعى اليه شخصيات حزبية وسياسية لبنانية وفلسطينية، وأن تقصده وفود شعبية وعلمائية وعشائرية وفاعليات اجتماعية واقتصادية.. وكان السيد خلال تلك الفترة من توليه الأمانة العامة لحزب الله دائم التنقل بين المناطق: من الضاحية الجنوبية الى بيروت والجنوب والبقاع والشمال، حيث تجوّل في الأحياء والأزقة المستضعفة واستمع الى شكاوى ساكنيها مردداً أمامهم عبارته المأثورة: "أنا بخدمتكم.. ولكن لي عندكم وصية حفظ المقاومة".
وخلال قيامه بمهمة الأمين العام، شارك السيد بمؤتمرات ومهرجانات ولقاءات سياسية واجتماعية وثقافية عدة، وكانت كلمته الأخيرة خطاب الوداع في جبشيت قبل ساعات من استشهاده (في ذكرى استشهاد الشيخ راغب حرب: في 16-2-1992).
وخلال الأشهر التسعة لتوليه الأمانة العامة، إنشغل السيد بهموم المستضعفين، ومنها الكارثة التي نتجت عن العاصفة الثلجية، فتخرّب الزرع والضرع، ومات الكثيرون من جرّاء تقصير الدولة اللبنانية تجاه المناطق المحرومة، كذلك تأثر سماحته كثيراً بانهيار مبنى في وادي أبو جميل، وكان ذلك نتيجة استهتار ولا مبالاة المسؤولين، وقد انسكبت دموعه المباركة عندما رأى تلك المأساة، وأثّر ذلك على صحته، ولكنه مع ذلك أصرّ على إحياء ذكرى صديق روحه ورفيق غربته الشيخ راغب حرب في قريته جبشيت، وكان يوم 16 شباط 1992 يوماً مشهوداً خالداً.. شهيدٌ يؤبن شهيداً.. شهيدٌ يلقي خطاباً في ذكرى شهيد.. مجاهدٌ يكتب آخر سطر في كتاب جهاده.. يؤبّن نفسه من خلال تأبينه لشيخ الشهداء.. يطلق من صدره أوجاع الأمة، ويلقي خطبة جامعة تتضمن وصيته.. وبعد الخطبة تجوّل السيد في أرجاء جبشيت، فزار عوائل شهدائها وأسراها، وبعض عائلاتها المستضعفة، ثم توجّه عائداً الى الضاحية الصابرة مع رفيقة عمره وطفلهما، وكانت عين الغدر ترصد خطوات الشهيد، ثم كانت نهاية جسد وولادة روح في شعب بأكمله.. إنها دماء كربلاء تتجدد لتصنع نصراً، أمّا النفس المطمئنة فترجع الى ربها.
سيد المقاومين والمقاومة..
كانت المقاومة غاية الغايات عند السيد الشهيد الملتفح بردة الإيمان والمنضوي حرفاً سماوياً تحت راية الجهاد.. كان السيد يعتبر المقاومة هي عنوان التحرير للأرض، وانّ عيون المقاومين الأبرار السارين تحت ستار الليل وفي وعور الشعاب هي التي ستنير ليل هذه الأمة التي تكالب عليها الأعداء لطمس وجودها وجعلها ملحقاً لهم.. وكان السيد يردد بفم القلب: المقاومة هي عنوان شرفنا وكرمتنا وثروتنا، وبالتالي هي حصننا الأساس في مواجهة الاختراقات الخارجية..
أدرك السيد بصفاء روحه ونقاء نفسه أن لا خلاص لهذا الشعب من العتمة المسيطرة على وجوده إلا من خلال المقاومة لمواجهة الأعداء المتربصين بغده والقابعين على رئتيه، والهدف هو إزالة إسرائيل من الوجود، وعليه فإنّ القتال يجب ان يستمر حتى تحقق ذلك الهدف..
كان السيد قدس سره يعتبر أنّ المقاومة حركة جهادية إيمانية، وأنّ التخلي عنها هو من التخلي عن إيماننا، وأنّ المقاومة ليست فكرة سياسية وحالة طارئة، بل هي تكليف شرعي لا تتأثر بأي حال من الأحوال، وهي ليست في خدمة أي عمل سياسي، بل بالعكس، فالعمل السياسي يجب ان يكون في خدمة المقاومة، ومسألة المقاومة غير قابلة للمساومة، ولا يتصور أحد أن المقاومة ستتوقف وتتخلى عن دورها طالما هناك دم يجري في عروقنا..
كان السيد الشهيد يعتبر أنّ المقاومة ينبغي ان تكون في الصدارة على مستوى الطرح، وانه لا يمكن لأحد أن يوقفها طالما إسرائيل موجودة على أرضنا، وانّ كل من يتخلى عن المقاومة هو عميل، وانّ أكبر جريمة تُرتكب بحق المقاومة هي محاولة تحجيمها عبر وسائل الإعلام والإشاعات والدعايات..
لقد أحبّ الشهيد الموسوي المقاومة والمقاومين، ورعاهم بقلبه وحنانه، وكان عندما يجالس شباب المقاومة الإسلامية يكبر فيهم اندفاعهم نحو التكليف الشرعي وتحملهم المسوؤلية بكل جرأة بين يدي الله بهدف تحرير أولى القبلتين، وكان قدس سره يعتز بالتفاف الناس حول المقاومة التي هي بجهادها التعبير العملي عن شخصية الإنسان في جبل عامل.. "وعندما تكون كذلك: كيف يمكن فصلها عن الناس؟ وكيف يمكن الفصل بين الذات والهوية؟"..
"إنّ الأمة كلها مسؤولة أمام الله عز وجل عن الحفاظ على هذه المقاومة، لا سيما وانها ليست لطائفة وجهة دون أخرى، بل هي ملك الأمة، لذا يجب على الأمة كلها ان تتحرك للمحافظة على المقاومة وضمان مستقبلها".
"إنّ كل المؤامرات التي تحاك ضد الأمة تنتهي عند إنجازات المقاومة الإسلامية التي هزّت إسرائيل وجعلت أبناء الأرض المحتلة يشعرون بأنّ الذين يتحركون في جنوب لبنان أقوياء رغم تواضع سلاحهم المادي وأنهم يمكن أن يكونوا مثلهم"..
إنها كلمات في المقاومة، لكن السيد لم يكتف بالكلمات، بل أعطى المقاومة كل فكره وعمره، وسار في قافلتها، ورحل ملتحقاً بشهدائها.
الشهيد السيد عباس وقضايا المسلمين في العالم:
القلب الكبير كاتساع المدى.. كان فيه لكل همّ إسلامي صدى.. اتسع لكل أنّةٍ موجوعة.. ولكل آهةٍ زفرها شعب يتقلب على لظى الاستكبار.. ومن الفرادة التي تمتع بها السيد رضوان الله عليه أنه حمل في كيانه نهر أحزان.. وشلال أسى.. يهدر كلما أصيب الجسم الإسلامي بخلل وأصابته نائبة.. فهو الى جانب هموم وطنه وشعبه الكثيرة، تشعبت اهتماماته في كل مناحي الوطن الإسلامي.. وحيثما كان جرح يرعف تراه يهرع الى بلسمته بماء القلب الطاهر.. بدمعة العين السكوب..
لقد عاش مأساة شعب فلسطين مذ كان يافعاً.. بل وشارك عملياً في محاولة إزاحة كابوس الاحتلال وعلى الأقل إقلاق راحته، وآخى بين جرح أهل الجنوب وجرح أهل الداخل الفلسطيني.. وعاش أيامهم.. عاش انتفاضتهم بكل كيانه.. بكل مشاعره المرهفة.. بكل إحساسه بوحدة الإنسان ووحدة المصير بين الشعبين الأخوين..
ولقد تجاوز قدس سره باهتماماته شؤون وشجون شعوب المنطقة الى شؤون وشجون كل الشعوب الإسلامية والمستضعفة في كل صقع وبلد من جنوب أفريقيا وحتى الشرق الأقصى..
رسمت أحداث الجزائر غيوم حسرة وكآبة في اعماق قلبه الكبير، كما أنه لم ينس هموم مسلمي آسيا الوسطى، ومآسي وعذابات مسلمي كشمير المجاهدة..
كانت قضايا المسلمين خبز صباحه.. ووسادة ليله.. ليس بالقول فقط.. بل إنّ السيد كان يُقرن تعاطفه القلبي واللساني بالفعل والجهاد.. بوجوده في كل خندق إسلامي متقدم، كان قدس سره جندياً من جنود الإسلام في إيران خلال الحرب التي فُرضت عليها، وكان من المجاهدين الذين عاشوا عمليات الفجر قبل ان يُطلب منه العودة الى لبنان الذي يواجه مشاكل وتحديات تتطلب أن يكون السيد فيه اكثر مما يتطلبه وجوده في إيران الإسلام..
ولقد شارك رضوان الله عليه بمؤتمرات إسلامية كثيرة في دمشق وطهران وإسلام آباد وألمانيا، أقام علاقات مع القادة الثوريين الذين نشأت بينه وبينهم جسور احترام وتقدير، ومن هؤلاء العلامة الشهيد عارف الحسني (زعيم الشيعة في باكستان) والذي زار لبنان في نيسان 1988 حيث رافقه السيد في جولة على عدد من القرى الصامدة والعديد من ثغور المرابطة ومحاور القتال ضد العدو الصهيوني، ثم استقبل فيما بعد وقبيل استشهاده أحد أبرز علماء أفريقيا، وكان حديث طويل حول وضع مسلمي أفريقيا وضرورة تحريك كل الحوافز المكبوتة في مستضعفي الأمة لتنهض وتأخذ مكانها تحت شمس الوجود..
كان السيد يعتبر أنّ مسيرة الإسلام هي قافلة من الفقراء والمعذبين يمشون حفاة عراة ولكنهم يرفعون آفاقاً جديدة للحياة يَرهبها الطاغوت ويخافها المستكبرون..
لم تقتصر اهتمامات السيد على شؤون المستضعفين في لبنان والمقاومة ضد العدو في الجنوب، ولم تتوقف عند حدود انتفاضة الشعب الفلسطيني في الداخل، بل تجاوز ذلك ساعياً الى إيجاد وحدة بقيادة العلماء المسلمين في العالم، وتشمل القوى التي تؤمن بقتال الاستكبار..
وهكذا، فإنه قدس سره لم يتأخر أبداً عن تحمّل هموم شعوب وبلاد أخرى كالجزائر وباكستان وأفغانستان وكشمير، وأيضاً الجمهوريات المسلمة التي رزحت تحت حكم شيوعي لم يجلب اليها سوى الفقر والذل..
باكستان
ولقد لبّى السيد الشهيد دعوة وجهتها اليه "حركة تنفيذ الفقه الجعفري" في باكستان ليمثّل حزب الله في مؤتمر كشمير الدولي (في إسلام أباد) (في 21-3-1990)، وكان سماحته على رأس الوفد وكله إصرار على الذهاب، رغم أن بعض الجهات الأمنية نصحته بعدم التوجه الى باكستان، لكنه توجّه واعتبر ذلك تكليفاً شرعياً له.. وتوجه السيد الى هناك، حيث أقيم له استقبال حافل وأحيط باهتمام ملفت من قبل جميع المؤتمرين، وألقى السيد كلمة تناول فيها أهم قضايا الإسلام والمسلمين، وأشار الى أنّ على الشعوب المسلمة في كل مكان أن تقرر مصيرها وان يكون قرارها حراً وغير خاضع لأي ضغط ومساومة وابتزاز..
زيارة السيد الى باكستان كانت مفاجأة إن لم نقل صفعة للاستكبار العالمي: لناحية أن يمتد حزب الله باهتماماته الإسلامية الى تلك البلاد، وعلى الرغم من المخاطر التي كانت تحيط بالزيارة، إلا أن السيد كان يعرف مسؤوليته بعمق أمام الله، ويدرك أنّ الصراع مع الاستكبار طويل ومرير، ولقد تبع نهح الأئمة الأطهار عليهم السلام بإكمال المسيرة، وإن كان يعرف أنّ ثمنها الدم..
كشمير
بعد مشاركته في مؤتمر كشمير الدولي في باكستان قام السيد الشهيد بزيارة الى كشمير بدعوة من رئيسها سردار عبد الحي قيوم، فتفقد مخيمات المهاجرين في مظفر آباد، حيث اطلع على أوضاعهم وحثّهم على السير في دروب الله ومتابعة الجهاد: "لأن لا أحد يحرر لكم أرضكم سوى البندقية والدم.. ونحن بإذن الله معكم حتى آخر أنفاسنا"..
ولقد كان لقاء السيد بمجاهدي كشمير لقاء الثائر بالثائر، ففتحوا له صدورهم وبثّوه آلامهم، وعانقوا روحه، وعانق أرواحهم، قائلاً لهم كلمته المحببة التي طبعت شخصيته بطابع التواضع: "نحن بخدمتكم.. نحن لكم.. وقد جئنا للوقوف بجانبكم وتأيي دثورتكم ومؤازرتكم في وجه الطامع المحتل"..
إنه الهمّ الإسلامي الشامل يجعل السيد يقول نفس الكلمات ويقف نفس الموقف في كل الأماكن.. في لبنان.. في أهل ثورة الداخل.. في باكستان.. وفي كشمير..
ولقد وجّه رضوان الله عليه قبيل مغادرته كشمير رسالة إذاعية الى الثوار تعهد فيها بنصرة قضيتهم التي هي قضية كل الإسلام، وتمنى عليهم أن يكونوا احراراً في ماوقعهم.. خلفاء الله على أرضه بالعزة.. لأن العزة هي الأساس في شخصية الإنسان المسلم.. وختم رسالته بالقول: "طالما كنتم مع الله فأنتم أقوياء.. وطالما اعتمدتم عليه فلن يكون لكم سوى النصر.. بإذن الله"..
افغانستان
انتقل السيد الشهيد بعد كشمير، الى أفغانستان، حيث قام بزيارة لها في تلك الفترة التي كانت المقاومة لا تزال قائمة للاحتلال السوفياتي وهناك التقى بزعماء المقاومة وقادة فصائلها المجاهدة، ودعاهم الى توحيد صفوفهم ليحققوا اهدافهم مردداً: "إنني أرى أنّ زيارتي الى باكستان مبتورة إن لم ألتق إخواني المجاهدين والمرابطين في أفغانستان ضد الاستكبار السوفياتي"..
وكان السيد قد عبر الى أفغانستان بالطريق التي يسلكها المجاهدون، وصلّى شكراً لله حين داس أرضها المجاهدة. والى جانب لقائه بالمجاهدين، زار السيد هناك قبور الشهداء وبعض معسكرات المجاهدين، حيث بثّ في نفوسهم روح الجهاد والرحيل الى الله عز وجل عن طريق الحق وفي سبيله..
ولقد غادر رضوان الله عليه أفغانستان وقلبه مع ثوارها ودمعه على أيتامها وثكلاها..
السيد عباس في بعده الاخلاقي
هذا الصلب كصخرةٍ كتبت سِفر الأيام الخالية.. هذا الجاثم بعباءة الإيمان على درب الحق.. هذ السيف الساقط ندى.. هذا العنق اللاحق بالمدى.. أيّ سرٍ فيه؟.. أيّ انبهار رائع يجذبك الى نهار عينيه.. الى صحو عينيه المزهرتين كعيد.. المزغردتين بمحبة.. الكاشفتين عن عمق أعماقه وما في هذا العميق من طيبة وحنان وصلابة إيمان.. أيّ قلب بريء مترع بالحنان يملأ شغاف هذا الصدر النابض بالمحبة.. الخافق بالرحمة.. وأيّ كبر في هذا المارد بجهاده يجعله ينحني على يد شيخ أوينثني أمام طفل ليقبّل وجنته ويداعب رأسه.. ويمسح دمعة كرجت على خدّيه.. وأيّ دافع كان يحثّه على ترك رقاد الليل ليجول على عوائل عضّت نهاراتها ولياليها أنياب الفقر والحاجة يحمل إليها ما يقيم أودها ويسد رمقها.. ويتفقد أيتاماً تركهم معيلهم الى دنيا الحق ولم يبق لهم إلا الله ونفوس آمنت بالبرّ طريقاً الى مرضاته.. لقد كان رحمه الله جواب النداء اللاهف، وسكينةً للقلب الواجف.. أحبّ المساكين.. وعطف على الفقراء.. وعاش معهم.. عاش همومهم وأحزانهم وشقاءهم وحرمانهم.. كان شريكهم في الجرح وكان جفنهم في الدمع.. وكان صوتهم الصارخ المطالب بعدل الحاكم؟.. كان يرتاح لمعايشة أولئك الذين يشتاقون الى كسرة خبز ويمضون يومهم سعياً وراءها نظيفة شريفة.. وكان يسعى بكل أمانة لرفع الحرمان والشظف عنهم..
كان يعيش هاجس عوائل الشهداء.. يفكّر.. ويبحث.. ماذا عسانا نقدّم لأبناء أولئك الذين قدّموا أنفسهم وأرواحهم لله.. وكان يذهب إليهم في بيوتهم.. يتفقدهم.. أباً حنوناً.. وقلباً كبيراً.. ودمعاً سخياً يكتب سطور نبله على وجنتيه الطاهرتين..
كذلك كانت حاله بالنسبة لعائلات أسرى المقاومة، يزور أهاليهم.. يتفقد أحوالهم.. يسأل عن حاجاتهم.. ويسألهم الصبر الجميل.. وأنه لا بد من نهاية لهذا الليل الطويل.. وأنّ الفجر آت على ضوء تضحيات أبنائهم.. لم تلهه المسؤولية.. مسؤولية المنصب.. عن مسؤولية الضمير.. فهو أبداً يرعف إيماناً وينـزف تواضعاً، وكم مرة بكى لدمعة ثكلى وشكوى يُتم.. وكم من مرة رآه الناس بين "جماعته" الفقراء والمستضعفين.. يحادث هذا ويسائل ذاك..ويمدّ حواراً إنسانياً.. وحديثاً قلبياً مع بائعي الخضار على عرباتهم يسألهم عن أحوالهم ويشاركهم في مشاكل حياتهم..
لم يعش الموسوي في برجٍ عاجيّ بعيداً عن الناس وعن سماع أنّات قلوبهم وزفرات صدورهم، بل عاش بينهم وفيهم: يُفرحه ما يُفرحهم، ويُضنيه ما يُضنيهم.. عاش فرداً فقيراً بين أناس فقراء.. وأحبّهم وأدخلهم حنايا قلبه الخافق بحبّ الفقراء والمستضعفين. وكان احترامه للآخرين جليّاً يظهر في كل تصرفاته.. يظهر في حدبه عليهم.. وفي إصغائه لشكواهم.. في مؤاخاته لحالهم البائسة.. في محاولته التقليل (قدر الإمكان) من بأسائهم وتعاستهم.. وإزاحة الكوابيس عن صدورهم..
لقد استقى السيد تواضعه من معين أهل البيت عليهم السلام.. بيت جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. فكان خير خلف لخير سلف.. ومثّل بمسلكيته الحياتية نهجهم واخلاقهم وامتداد النبوّة الكريمة في تصرفاتهم..
السيد عباس والشهادة:
أيّ حلمٍ بالشهادة.. حُلم هذا الراكع في محراب الشهادة يعدّ أيامه.. يعدّ لياليه.. تلك الليالي التي كان يحييها بالصلوات اولدعاء ان يكرمه الله بالشهادة.. أن يجعله حرفاً من حروفها.. نبراساً.. قبساً مضيئاً في حلكة الأيام الغاصة بالعذابات.. الطافحة بالوجد.. بالشوق الى نهارات تشرق فيها الشمس وتغمر حقول القرى.. فيزهر الجو بالأرج العابق بالطمانينة والحرية.. ويتلاشى صوت البوم.. نعيقه الزاعق على روابي القرى وتلالها.. رصاصاً وفحيح قنابل مجرمة..
وكان السيد الشهيد يعرف ويدرك أنّ ذلك اليوم الذي يشرق فيه السلام على هذه الأرض المعذّبة ليس بعيداً.. وانّ كل شهيد يسقط في سبيل هذه الأمة.. وهذا الغد يكتب بدمائه جزئاً من كتاب الحرية.. وإنّ كل نقطة دم تنزف من جراح شهيد تطهّر الأرض.. بل وتعمّم حالة الطهارة والتحرير على كل الأمة.. وخصوصاً في أمة الإسلام العظيمة التي نفضت عنها هذه الأيام ثوب الذل عبر قيام اإلإمام الخميني قدس سره وعبرعشرات الألوف من شهداء الإسلام في إيران وأفغانستان وفلسطين ولبنان وفي كثير من شعوب العالم الإسلامي كله..
نبيلٌ هذا الفداء، وعميقٌ هذا الصوت المتهدج.. الممتزج بالدمع كلما طرق السيد باب الحديث عن الشهداء..
إنه يعتبر أننا كامة إسلامية أحق من غيرنا بوقفات تأمل واستشراق أمام دماء الشهداء، وأن نقف بإجلال أمام بطولاتهم.. أن تدفأ نفوسنا بجمر دمائهم الفائرة من جراحهم، وأن نتخذ تضحياتهم مثلاً يحتذى وسيرة تقتدى.. وأن يبقوا في ذاكرتنا.. في ذاكرة الأمة كلها.. تستمد من بطولاتهم قبس المثابرة على السير دوماً وأبداً في دروب الكرامة.. والكرامة لا تأتي.. لا تكون إلا مجبولة بدماء الأبرار..
إنّ الفارق بين أمة ارتضت وحل الذل تمرّغ فيه كيانها وكرامتها وبين أمة سارت في معارج النصر وخطّت سيرتها في جبين السحاب، هو فارق معنوي.. فارق بمعنى الفهم العميق للحياة: بين أن تبني الحياة على وقع تشظي الأجساد الطاهرة.. وبين أن تسير مرحاً وبشكل أفقي ليس له أي سبر لصدر الأرض..
لقد تطلع رضوان الله عليه دائماً نحو مآثر الشهداء ومنائر جهادهم، واعتبر إرادة المرء هي الأساس لتحديد مسار حياته، فالأمة التي تطلب الشهادة هي لا بد منتصرة وعزيزة.. وها هي أمتنا تعبّر عن إرادتها في إيران ولبنان وفلسطين بمستوى عالٍ ولتقول للمستكبرين: ناطحوا صخرة استضعافنا وستخسرون قرونكم بإذن الله.. وسنبقى..
لقد ملأ حلم الشهادة فكر الشهيد، وسكن في نفسه، فصارت هاجسه، وصار الشهداء رفاق خواطره.. يذكرهم كلما أصبح وأمسى.. ويدعو لهم بالسكنى في فسيح الجنان، بل ويغبطهم أحياناً لأنهم سبقوه الى هذه الكرامة التي رغبها وسعى اليها دوماً، وقد اعتبر قدس سره شهداء ميدون و"الخزان" و"الحقبان" نجوماً شعّت في ليلنا الدامس فأنارته ورفعت فجراً من العزة والكرامة يعيش شعبنا ببركتهما دقائق وساعات وجوده..
السادس عشر من شباط من كل عام.. تاريخ يختصر التاريخ.. ومحطة تختزل الأيام السمان والعجاف في آن... انه يتجدد فيه انبعاث عطر الشهادة في كل عام.
وللتاريخ ذكرى. وللمحطة قطار ومسافات.. وما بين 16 شباط 1984 و16 شباط 1992 مسافة ما بين استشهاد الشيخ راغب حرب (شيخ شهداء المقاومة الإسلامية) واستشهاد أمين عام حزب الله السيد عباس الموسوي (سيد شهداء المقاومة الإسلامية)..
لكن صباح الأحد 16 شباط 1992 كان مختلفاً هذا العام، فالمقاومة الإسلامية التي روى غرسها الشيخ الشهداء قد أينعت وأصبحت شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين والله يضاعف لمن يشاء.. وحزب الله انتخب أمينه العام للمرة الثانية وأصبح أكبر من الأيام وأقوى مما كان، فالسنوات الثمان كنّ سماناً، والذين أرادوا أن يطفئوا بأفواههم نور الله انطفأ نور بصيرتهم ليتم الله نوره ولو كره الكافرون..
وهكذا، حمل السيد الموسوي "الأمانة" ليقود المقاومة في مرحلة السلم الأهلي (كما قادها في مرحلة الحرب) باتجاه الاحتلال الجاثم على تراب الجنوب على مسافة كيلومترات من جبشيت..
ومع ذلك، أصرّ حزب الله على ان يكون احتفال الذكرى الثامنة لاستشهاد الشيخ راغب في قلب جبشيت، وذلك على مسافة أمتار من مرقد شيخ الشهداء، وأصرّ الأمين العام على حضور الاحتفال، كيف لا؟ وهو الذي اعتاد على الحضور في عمليات المقاومة، فهل يمكن لمن عاش مع المجاهدين في قلب مواقع الاحتلال ألا يحضر الى قلب جبشيت حيث قلب المقاومة وشيخ شهدائها؟..
ولم يكن الأمين العام وحده في هذه الأجواء، بل كانت جماهير المقاومة تستعد للذكرى المعلن عنها، وحينما حلّ الموعد، تقاطرت وفود الى جبشيت من كل حدب وصوب ملبيةً النداء، فجاؤوا من الجنوب وبيروت والبقاع متحدين إرهاب العدو وتهديداته في الأرض والسماء، وكان آخرها الكمين الليلي الإرهابي على طريق جبشيت-عدشيت، والذي كان يهدف لخطف قياديين من حزب الله، لكن المشيئة الإلهية كانت بالمرصاد، فأحبطت محاولة العدو وباءت القرصنة بالفشل..
لكن الأجواء الأمنية صبيحة ذلك اليوم لم تكن طبيعية، وعادية كما في الأيام الأخرى، فقد قامت قوات الاحتلال بقصف عدد من القرى الجنوبية والمخيمات الفلسطينية، وزاد الوضع خطورة تحليق طيران العدو الحربي والاستطلاعي طيلة الليل وصبيحة النهار في أجواء الجنوب، مما أوحى للمراقبين أنّ شيئاً ما سيحدث..
صحيح أنّ قرى الجنوب اعتادت على مواجهة اعتداءات العدو بشكل يومي، لكن العدوان الصهيوني عشية ذلك اليوم بلغ ذروته..
وصحيح أنّ طائرات العدو يعرفها أبناء الجنوب ويتشاءمون منها، لكنهم لم يعتادوا على رؤيتها ليلاً والسهر والنوم والاستيقاظ على صوتها بشكل مستمر..
وعندما انتهى أحمد (إبن الشيخ راغب) من كلمته، وقف السيد الموسوي وصافحه مهنئاً، ثم سأله: "هل تريد شيئاً من والدك؟" فنظر أحمد الى السيد عباس وابتسم..
أما السيد الشهيد فكانت كلمته بمثابة "الوصية الأساس" التي حددها بـ"حفظ المقاومة الإسلامية"..
وقال سماحته: "سيعلم العالم أننا كما كنّا السبّاقين الى مقاومة الاحتلال، سنكون السبّاقين الى مقاومة الإهمال والحرمان والاستضعاف، إننا نعلن هذا الموقف بوجه الدولة اللبنانية، ونقول لها بصراحة: إذا لم تتحملي مسؤولياتك تجاه المناطق المستضعفة، وخصوصاً تجاه هذا الجبل جبل عامل، فسنحملها نحن من خلال هذه الجماهير، لأن هذا العصر هو عصر الشعوب، وليس عصر الدول، وإننا بالشعب الذي أسقط 17 أيار وأخرج إسرائيل ذليلة من لبنان سنحمل مسؤولياتنا وسنحمل راية الجهاد والمواجهة حتى تسقط هذه الدولة، وليكن ما يكون، لأن كرامتنا فوق كل كرامة وعزتنا فوق كل عزة"..
السيد عباس شهيدا:
إنتهى الاحتفال، وطائرات الاستطلاع لا تزال في الأجواء، ولكن الحضور بدل أن يتفرقوا (كما جرت العادة بعد كل احتفال: خصوصاً في هكذا أجواء) تحلّقوا حول الأمين العام، وتزاحموا على مصافحته ورؤيته عن قرب (على الأقل)، فهو الذي عوّدهم على ان يكون واحداً منهم وبينهم، وهو الوحيد الذي يستطيعون بثّه شكواهم ليستمع اليها، وفي طليعتها تراجع الزراعة وصعوبة تصريف المنتوجات، وعدم شراء الدولة لمحاصيل التبغ الذي يعتاشون منه، وإذا اشترته فبأسعار زهيدة تزيد من خسارتهم..
كانت كل هذه الأمور عناوين أحاديث الناس مع أمين عام حزب الله، من حسينية جبشيت الى جنة الشهداء فيها، حيث زار معهم الشهداء وشيخهم، وقرأ الفاتحة معهم ماسحاً الغبار عن قبر الشيخ الشهيد بيده اليمنى ليمسح بها جبهته الشريفة..
ومن هناك الى منـزل شيخ الشهداء، كعادته في كل مرة يزور فيها "جبشيت" وأية قرية أخرى، لا يخرج منها إلا بعد ان يزور شهدائها وعوائلهم، هكذا كان يوم زار "كفرا" قبل أن يصبح أميناً عاماً لحزب الله، وهكذا كان في ذلك اليوم بعد أن أصبح أميناً عاماً..
ومن منـزل شيخ الشهداء (حيث تناول السيد الشهيد طعام الغداء مع أسرة الشيخ)، انتقل قدس سره الى بلدة الشرقية حيث منـزل أهل الشهيد أحمد شعيب، فبلدة كوثرية السياد التي ما أن خرج الموكب منها ليشرف على بلدة تفاحتا حتى كانت ثلاث طائرات استطلاع للعدو تتبع الموكب وتلاحقه..
وينتبه أحد المجاهدين المرافقين للسيد لخطورة الوضع، فينبّهه للأمر، لكن الجواب يأتي مطمئناً من نفس مطمئنة: "أتخافون الموت؟.. من يريد الموت لا يهمه إذا كان الموت قريباً منه وبعيداً عنه".. ويقطع الكلام دويّ انفجار هائل: مروحية "كوبرا" تحمل صواريخ حرارية حارقة تطلق صاروخاً غادراً يصيب سيارة السيد من الخلف، فيما قامت مروحية أخرى بالانقضاض على الموكب، وفي لحظة كانت سيارة (من نوع رانج روفر) تحاول حماية سيارة السيد، انتشر المجاهدون المرافقون في مواضع قتالية، فقاوموا الطائرات بما لديهم، وأصيب بعضهم، لكن مهمة الطائرات الأخرى كانت ملاحقتهم وعدم السماح لأي شخص وسيارة بالاقتراب من الموكب، وعندما حاولت سيارة مدنية (صودف مرورها في المكان) الاقتراب، انقضت عليها طائرات أخرى، فتركها ركابها قبل لحظات من تدميرها، وتبين أنّ طيران العدو كان ينصب أكثر من كمين قرصنة في الجو، بحيث لو فشل الكمين الأول يقوم الكمين الآخر بالانقضاض، وذلك لتدمير أي سيارة تفلت من الكمين لاحتمال ان يكون السيد الشهيد فيها..
وهكذا، استمر العدوان قرابة العشر دقائق، اتجهت بعدها المروحيتان المكلفتان بالعدوان الى أجواء الشريط المحتل، وفي هذه الأثناء كانت سيارة مدنية تسارع الى المكان لبتنقل ما تيسر لها من مصابين وتتجه شمالاً نحو الزهراني، لكن إحدى المروحيات كانت تكمن لها وتنقض عليها بصاروخ دمرها وقتل سائقها المدني والجريح المصاب، ولم تغادر المروحيات سماء المنطقة إلا بعد أن تأكدت من تدمير الموكب بشكل كامل وعدم نقل أحد منه، ومع ذلك سارع أهالي المنطقة الى المكان ونقلوا بسياراتهم الشهداء والمصابين الى المستشفيات وسط حزام من الدخان الكثيف الذي غطى سماء المنطقة حتى المساء..
لقد ارتفع السيد عباس الموسوي شهيدا هو ورفيقة جهاده زوجته ام ياسر وولدهما الشهيد حسين... ارتشف السيد كأس الشهادة بشغف وكان من قبل يطمح الى تلك اللحظات التي يلاقي فيها ربه مضرجا بدمه متناثرا فيها اشلاء كما كان يدعو يكرر الدعاء دائما ان تكون شهادته بطريقة غير عادية... وقد نال شهادة غير عادية... لقد اختاره الله تعالى شهيدا من بين كل افراد الموكب ليرحل مع رفيقين فقط زوجته وابنه الصغير. ونال الكرامة التي كان يحتاجها ليكتمل معها صورة القائد الشهيد وانضم الى قافلة الشهداء المقدسة سلسلة عظماء هذه الامة ومختصر تاريخها كما كان يصفهم باستمرار" شهداؤنا عظماؤنا شهداءنا تاريخنا شهداؤنا هم قراننا الناطق شهداؤنا كل امجادنا.