دليـل الورشـة
تم تقسيم هذه الورشة إلى تمهيد وقسمين رئيسيين يندرج تحت كل قسم أربعة عناوين تعرض وقف التالي:
- أهداف الورشة.
- تمهيد.
القسم الأول: خصوصية تدريس التاريخ.
1. التفاعل الطبيعي
2. السياق التاريخي
3. الحقائق الصعبة والمشاهد الناقصة
4. وهم الصورة الخاصة
القسم الثاني: طريقة التدريس.
1. طريقة التدريس جهد مشترك بين المؤلف والمعلم
2. طريقة التدريس وأوهام المدرِّسين
3. كيف يجري تحديد الطريقة؟
4. من التدريس بالمعلومات إلى التدريس بالمغزى والمعنى.
أهـداف الورشـة
يتوقع في نهاية هذه الورشة:
(الهدف العام)
• أن يتمكن المشارك من إعداد وتنفيذ طريقة ملائمة وكافية في تدريس التاريخ.
(الأهداف العامة)
• أن يتعرف المشارك على بعض مظاهر خصوصية تدريس التاريخ مقارنة بالمواد الأخرى.
• أن يتعرف المشارك على طرق التدريس وعلاقتها بالمحتوى والأهداف الجديدة والعناصر المؤثرة في تحديدها.
• أن يتبنى المشارك مواقف نقدية في نظرته للمواد التاريخية.
تمهيد
في الحديث عن طريق تدريس التاريخ، حاولنا تسليط الضوء على خصوصية المادة، مقارنةً بالمواد المدرسية أو الحوزوية الأخرى، وهذا منهج يوفِّر لنا مجموعة من القواعد التي تسهِّل عملية اختيار الطريقة أو إعدادها. ولقد توقفنا عند أربعة أفكار رئيسة في هذا المجال.
الفكرة الأولى تحت عنوان: "التفاعل الطبيعي"، حيث بيَّنا مستوى التقارب بين مضامين المادة التاريخية، وقابليات الإدراك البشري الطبيعي، وهذا أمرٌ من شأنه تيسير الدخول في تدريس التاريخ أو دراسته. والفكرة الثانية تحت عنوان: "السياق التاريخي"، حيث توقفنا عند خصوصية المادة التاريخية لجهة إرتباطها بالسابق واللاحق، وأنه لا يمكن تدريس المادة، من دون تحديد سياقها أو مسارها. وتحت عنوان "الحقائق الصعبة والمشاهد الناقصة". قاربنا إشكالية التحقيق التاريخي، والنقص الدائم في المصادر، حيث أن مدرِّس التاريخ، بخلاف أي مدرِّس للمواد المدرسية أو الحوزوية الأخرى، لا يقف على ثوابت دائمة، سواء لجهة صحة المادة أم لجهة معناها، وهو ما يقتضي منه الحذر والمحاولة الدائمة في التحقيق والتفسير، من دون أن يعني ذلك الوقوع في مأزق التشكيك أو ضياع المعنى. ويأتي العنوان الرابع كتتمة للثالث "وهم الصورة الخاصة"، حيث من المفترض في مدرِّس التاريخ عدم الركون إلى صورته للماضي، وبالتالي ضرورة إعتبارها موضوعاً قابلاً للتأمل والتجديد على الدوام. لقد حاولنا ربط هذه الأفكار بطرق التدريس، مفترضين أن كل خصوصية لها أثرها في إختيار الطريقة، وهذا أمرٌ سيساعدنا في الدخول إلى المادة الثانية، التي تناولت موضوع طرق التدريس بصورة مباشرة أكثر.
تضمنت المادة الثانية مجموعة من الأفكار رأينا من المناسب تبويبها في أربعة عناوين.
العنوان الأول: "طريقة التدريس جهد مشترك بين المؤلف والمعلم"، حيث لاحظنا اهتماماً بطرق التدريس يصل إلى اعتبارها شرطاً في عملية تأليف المادة، أو واحدة من مضامين التأليف للمادة.
أما العنوان الثاني: فقد توقفنا عند بعض أوهام المدرسين في إختيار الطريقة، لنصل إلى العنوان الثالث بعبارة "كيف يجري تحديد الطريقة"، مؤكدين على ضرورة إرتباط الطريقة بالهدف من التدريس، وليس بمحتوى الدرس فحسب. وأخيراً تطرقنا إلى قضية التدريس تحت عنوان "من التدريس بالمعلومات إلى التدريس بالمغزى والمعنى". وقد ضم هذا العنوان مجموعة من الأفكار والإقتراحات التي من شأنها الانتقال بعملية تدريس التاريخ، من مرحلة "الفهم والإستيعاب"، إلى مرحلة "التحليل والإستنتاج".
إنها محاولة أوَّلية لتجميع الأفكار الخاصة بتدريس التاريخ، تحتاج إلى جهود في التوسيع والتوضيح، وربما إعادة التبويب والتنظيم، لكنها قادرة على إدخال المستهدَفين في الأجواء الفعلية لتدريس هذه المادة.
في أي حال يمكن الإنطلاق من هذه المادة لتطبيق دروس فعلية من قبل بعض المستهدفين حسب ما يسمح به الوقت، حيث يجري التحضير للمادة، ومن ثم تمثيل عملية التعليم- التعلُّم ميدانياً للخروج برؤية عملية واضحة.
القسم الاول: خصوصية تدريس التاريخ
1- التفاعل الطبيعي
2- السياق التاريخي
3- الحقائق الصعبة والمشاهد الناقصة
4- وهم الصورة الخاصة
1- التفاعل الطبيعي خصوصية تدريس التاريخ
لا شك بأن لكل مادة خصوصية ما في التدريس، ويمكن القول بأن شروط التفاعل مع المادة التاريخية، أو تعلُّمها، ليست صعبة، أو نوعية، على الدوام. فالبعد التاريخي في وعي الإنسان بعدٌ طبيعي إلى حد بعيد، فالأُمّيون، كما المتعلمين، كلٌّ في مساحته وطريقته، يملكون أساسيات التفكير التاريخي، ويحتفظون بذاكرة تحددها حاجاتهم ووضعياتهم في المجتمع. بهذا المعنى يمكن إعتبار الناس مؤهلين، طبيعياً، للتفاعل مع المادة التاريخية. ولا يواجه مدرِّس التاريخ أية صعوبات بنيوية، كما هو الحال لدى مدرِّس المواد العلمية أو اللغوية، وحتى بعض العلوم الدينية والإجتماعية.
فإذا كان أمر إعداد الطريقة، أو إختيارها، في المواد الأخرى، مرتبطاً إلى حد بعيد بشروط إنخراط المتعلمين بأجوائها واستيعاب رموزها ومعادلاتها، وهي ليست يسيرة دائماً، فإن الأمر مع التاريخ لا يبدو كذلك، ما يوحي بأن عملية إعداد الطريقة أو اختيارها في التاريخ يتصل بهموم وأهداف تعلَُّميه تتجاوز قضية الإنخراط الأولي، أو الإستيعاب، إلى ما هو أرقى وأعلى في سلّم العمليات الذهنية.
من هنا فالأهداف العامة لتدريس التاريخ لا يمكن أن تغرق في مجالات تقوية الذاكرة وتنشيطها، ولا حتى في تأمين إستيعاب صحيح للمادة التاريخية، بل في تمكين المتعلمين من تصوُّر الأحداث التاريخية في بيئتها العامة، وبالتالي إعادة روايتها بما يؤدي إلى تقديمها بصورة أوضح وأوسع وأدق وأعمق.
وإذا كانت العبرة إحدى الغايات الكبرى لدراسة التاريخ، أو تدريسه، فإن شرط ذلك يكمن في تمثُّل المادة التاريخية في الخيال الذهني، تمهيداً لدخولها في المنظومة الإدراكية، وبالتالي في أعمق مستويات الوعي الإنساني.
لذلك لا يمكن إعتبار التخطيط للدرس بمثابة مقدمات لأهداف تنحصر باستيعاب المعلومات التاريخية، فهذا أمرٌ لا يحتاج إلى جهد وعناء، بل إن متون الكتب تتكفَّل بذلك، إذا ما تم إعدادها بصورة واضحة وشيِّقة.
إذن الخصوصية في مادة التاريخ تبدأ من سهولة التفاعل مع المادة، ومن دون شروط مسبقة، ما يعني أن تحديد طريقة التدريس لا تحمل عبء الإنخراط الأوَّلي للمتعلمين في المادة، لكن تحقيق الأهداف يشترط مهارات ذهنية متوسطة وما فوق، وهنا يكمن الدور المطلوب من الطريقة.
2- السياق التاريخي
إذا كانت دراسة التاريخ هي دراسة حركة الإنسان في الزمن، أو ضبط تطوُّر حياة الإنسان عبر الزمن، فإن تعليمه يجب أن يصدر عن هذا التعريف أيضاً. وقضية التطوُّر لا يمكن إثباتها، إلا من خلال تحديد الوضعية السابقة واللاحقة، وبذلك ينشأ ما يُسمَّى السياق التاريخي.فلا دراسة للتاريخ من دون سياق، وبالتالي لا تعليم للتاريخ من دون هذا السياق. في المواد العلمية واللغوية يمكن تحديد أهداف تعليمية معزولة عن سياقها الزمني، فليس من الضروري على سبيل المثال، وإن كان مفيداً، التعرُّف على كل المحاولات السابقة لمعالجة المعضلة الرياضية، أو الفيزيائية، أو حتى اللغوية، قبل ظهور القواعد الجديدة لها، ويكفي أن أفهم القاعدة، ثم أنصرف للتوغل في حيثياتها وشروطها، بهذا الشكل أتعامل مع معادلة إحتساب المساحة في الرياضيات، أو قياس الجاذبية في الفيزياء، أو تحديد الاشتقاق اللغوي في اللغة. لكن في تعليم التاريخ لا يمكن دراسة أو تعلُّم أحداث معركة بدر، من دون التوقف عند الوضعية السابقة للطرفين، ثم الوضعية اللاحقة. من هنا فإن أصعب ما يواجهه المتعلمون هو تعرُّضهم لكم من الأحداث والمعلومات التاريخية، من دون القدرة على تحديد سياقها العام أو الخاص، أو اكتشاف الروابط فيما بينها.
هناك أحداث يمكن تحديد سياقها بسهولة، وهناك أحداث تحتاج إلى جهد، وبعض الأحداث لا يزال سياقها مجهولاً، والسياق في النهاية مرتبط بالحصول على المعلومات، التي قد لا تتوافر على الدوام، أو بالقدر الكافي.
والسياق يختبر صدقية الحدث كما يسهم في فهمه، فالأحداث التي لا يمكن تحديد سياق لها مع توافر المعلومات الخاصة، أو المرتبطة بها، يمكن وصفها بأحداث خارج السياق العام، كما يمكن التشكيك بوقوعها فعلاً، من هنا فإن السياق يصبح مصدراً للترجيح أو الاستبعاد، كما للقبول أو الرفض.
في كثير من الأحيان يجري التعاطي مع بعض الأحداث بشيء من المبالغة، أو الاستخفاف، وقد يعود ذلك إلى خلفية فكرية، أو تاريخية غير دقيقة، العنصر الحاسم في مثل هذا الموقف هو السياق التاريخي، ولكن إذا كانت المعلومات المتوافرة محدودة جداً، أو غير كافية، فإن ضبط السياق يغدو أمراً صعباً، وبالتالي فإن الساحة تخلو لغير السياق، كما هو الحال في عمليات التنظير التاريخي التي تكتفي بالمنطق العقلي، كمرجعية رئيسة فيه.
إذن لا أحداث من دون سياق في تعليم التاريخ، إلا إذا كان الهدف من التعليم ضبط السياق وتحديده، فهذا أمرٌ لا يخرج عن القاعدة. ولا نعني بالسياق عملية السرد فحسب، وإن كان التعبير عنه يأخذ منحىً سردياً، ذلك أن السرد قد يتعرَّض إلى تفاصيل مرتبطة فعلاً بالحدث، ولكنها على هامشه، ولا تصلح كمادة لضبط قضية التطوُّر التي أشرنا إليها في البداية. وهناك أحداث عديدة في التاريخ تجري في المكان والزمان نفسيهما للحدث الذي نقوم بدراسته، ولكن لا تنطوي على دلالات سياقية إذا جاز التعبير.
خلاصة ما يمكن أن نصل إليه في هذا المجال، وفي ما يخص تعليم التاريخ تحديداً، هو أن مادة التاريخ تفقد معناها ووجودها، كلما توغلنا في ثنايا الحدث على حساب سياقه العام والخاص، فالتاريخ ليس نصاً لغوياً ينبغي التأمل في بلاغته او صوره الخيالية، وليس معادلة رياضية يتعين علينا تطبيقها، كما ليس نظرية علمية ينبغي علينا اختبارها، إنها معلومات عن الماضي، تتطلب بحثاً عن عناصر التطوُّر فيها من زاوية حركة الإنسان في الزمن، ولا يتم ذلك إلا عبر تحديد السياق العام، الشغل الشاغل، والمنطلق الدائم، في تعلَُّم التاريخ أو دراسته.
3- الحقائق الصعبة والمشاهد الناقصة
ومن الأمور التي يتعيَّن الاهتمام بها في تدريس التاريخ، غياب أجزاء من المشهد التاريخي في المصادر التاريخية، أو على الأقل عدم وضوحها، فلا يمكن للطريقة التي تعتمد العرض الواضح للمعلومات، في مثل هذه الحال، أن تقدِّم المادة كحقائق مكتملة، أو كمعلومات نهائية. وفي الوقت نفسه لا بد من مرجّحات تبرّر الاعتماد على هذه المعلومة دون تلك، أو هذا التاريخ دون ذاك. من هنا فالمطلوب الإبقاء على مسافة ما، مهما كانت قصيرة، كي يبقى المجال مفتوحاً للسؤال والتحقيق. وهذا الكلام إذا كان مبرّراً في مجال صحة المواد، فإنه يغدو ضرورياً في مجال فهم المواد وتفسيرها أو تنسيقها.
إنها عملية صعبة بلا شك، وقد تخفِّف الكثير من فرص التعبئة والتفاعل، وهذه هي الخصوصية التي تتَّسم بها عملية فهم التاريخ أو تدريسه. فإعادة الخبر إلى ناقله، على سبيل المثال، من دون التبني الكامل له، وتقديم مرجِّحات تسهم في إعتماده على النحو الإجمالي، كل ذلك شكل من أشكال الإبقاء على مسافة. كذلك فإن مناقشة التفسيرات السائدة، وإختيار واحدٍ منها، لكونه أقرب إلى منطق التاريخ والواقع، لا يعني بالضرورة نهاية الكلام، أو التفكير، بل نوع من التقدُّم على الطريق الذي سيبقى مفتوحاً أمام الباحثين في الحاضر، كما كانوا في الماضي، وسيكونون في المستقبل.
إن مادة التاريخ هي من أكثر المواد، إِن لم نقل أكثرها على الإطلاق، عرضة للتعديل وإعادة النظر. وبالرغم من كل الجهود العلمية لتطوير صدقية النتائج التي تتوصل إليها الدراسات والأبحاث التاريخية، لا يزال الحذر سيد الموقف، كما لا يزال الاحتياط طريق النجاة.
هذا الشكل من أشكال تدريس التاريخ ليس سياسة تعليمية فحسب، بل هو هدف أيضاً. فالمطلوب ليس الإكتفاء بممارسة المعلم لهذه المقاربات، بل لا بد أن تكون إحدى أهم أهداف تدريس التاريخ على الدوام. فإكتساب التلميذ لمهارات التحقيق والترجيح، والاستبعاد والتشكيك، والاختيار والانتقاء، والتعليل والتدليل، وغير ذلك مطلوب لذاته أيضاً، أي أننا معنيون بإكساب التلامذة القدرة على مقاربة المواد التاريخية المعروضة أمامهم بالنقد والتفكير النقدي، قبل اعتمادها أو البناء عليها. قد يختلف مستوى الإكتساب تبعاً لمستوى المتعلمين وأعمارهم، لكنه حاضر بمستويات وأشكال متفاوتة على الدوام وعند الجميع.
فإذن من شروط تحديد الطريقة ملازمتها لهذه الخصوصية، وهنا يمكن القول بأن طرق النقاش والاستقراء والاستنتاج هي طرق فاعلة في تعليم التاريخ. ولا بد هنا من التمييز بين المتعلمين الذين يتعلمون التاريخ على نحوٍ عابر، ومن دون أهداف نوعية، وبين أولئك الذين يدخلون، بنوعٍ من الاختصاص، في عالم هذه المادة.
4- وهم الصورة الخاصة
ومن الأوهام التي يقع بها الكثير من مدرِّسي التاريخ، إعتبارهم أن الصورة التي يرسمونها للماضي، هي صورة حقيقية وكاملة ونهائية، وهذا الأمر كما يقع فيه الكثير من الباحثين، فهو مورد شبهة أيضاً، وبشكل أوسع وأكبر، عند مدرِّسي هذه المادة. وفي أي حال فإن معلمي التاريخ إنما يتابعون، في غالب الأحيان، ما بدأه الباحثون في هذا الاتجاه.
ونقصد بالصورة، أو المشهد التاريخي، هو مجموع الأحداث المتصلة في زمان ومكان محدِّد، فيأتي الباحث أو المدرِّس لرسم مشهدٍ واحدٍ لها، اعتماداً على ما بينها من روابط وعلاقات، وهذا العمل شبيه بما يفعله معد السيناريو، أو المخرج في أفلام التلفزيون، أو السينما، فيكفي في هذا المجال، مثلاً، التحقيق بصحة مجموعة من الأخبار الواردة عن الخليفة هارون الرشيد، للتوليف بينها، ومن ثم تقديهما في مشهد تاريخي حي، يتضمن كل الحيثيات التي أشارت إليها الأخبار، تصريحاً أو إيحاءً، مع بلاغةٍ هنا، وخيالٍ هناك، لسد النقص الذي ينشأ عادة في مثل هذه الأعمال.
لسنا ضد مبدأ تقديم الصوَر التاريخية للأحداث، فهذا أمرٌ يسهم في بلورة الواقع التاريخي، بل هو شرط من شروط البحث التاريخي، لأن هذه العملية تتم في الذهن في كل الأحوال، قبل أن تظهر في الخارج، ومن المستحيل أن نكتب التاريخ أو نبحث فيه، فضلاً عن أن نعلِّمه، من دون صور ذهنية عن الأحداث، أو التوليف بينها. لكن الوهم الذي ينبغي الالتفات إليه هو أن هذا المشهد، مهما بدا واقعياً وجذاباً، لا يمكن أن يكون نهائياً وكاملاً. وهذه الصورة مهما كانت دقيقة، ومُحقَّقة في أخبارها الرئيسة أو التفاصيل، ستبقى محاولة خاصة، أو مقاربة محدودة، فالتاريخ عندما يعبر لا يمكن إستعادته كما هو تماماً. والأحداث بعد وقوعها تصبح أسيرة الأذهان في طريقة فهمها، ومن الخيال الظن بأن القدرة على التصوير الإنساني للتاريخ كالقدرة على التصوير الالكتروني للوقائع.
لا نريد مما تقدَّم عرقلة إنسياب المدرِّس في عرضه، أو التثقيل عليه، لكن ما نود قوله أن يتجنب المدرسون الركون إلى تصويرٍ واحد، كصورة نهائية، وإذا كانوا مضطرين لتقديم تصوير واحد، فعلى الأقل أن لا يعتبروه وحيداً فريداً، لا نظير له ولا عديل. فالمطلوب، إذن، الاستعداد لقبول عروض أخرى، وليس عرض آخر فقط، وأكثر من ذلك، المطلوب السعي لتطوير العرض الشخصي، وعدم الوقوف عنده، ليس من باب اللغة والخيال فحسب، بل من باب التحقيق والدقة، فضلاً عن الواقعية والتزام السياق العام أيضاً.
ستبقى لدينا أخبارنا الثابتة، ولن نتخلى كلياً عن ما حقَّقناه في بعض الأحيان، لكننا مضطرون لمقاربات جديدة على الدوام. ونحن نعلم أن الوهم باق، ولكننا نطمح في أن نخفِّف من حدَّته، أو نقلل من خطورته، وعلى الأقل أن نؤمن بوجوده. هذه واحدة من أخطر خصوصيات تعليم التاريخ وكتابته، كما هي واحدة من أكثر أوهامه شيوعاً وتأثيراً.
القسم الثاني: طريقة التدريس
1. طريقة التدريس جهد مشترك بين المؤلف والمعلم
2. طريقة التدريس وأوهام المدرِّسين
3. كيف يجري تحديد الطريقة؟
4. من التدريس بالمعلومات إلى التدريس بالمغزى والمعنى.
1– طريقة التدريس جهد مشترك بين المؤلف والمعلم
وطريقة التدريس لم تعد جهداً فردياً يقوم به المعلم، قبل موعد الدرس الجديد، بل غدت في صميم عمل المؤلِّف للمادة، وشرط من شروط إكتمالها، وبالتالي صدورها ونشرها. فالمؤلفون اليوم معنيون، ليس في صياغة المضمون المطلوب للمادة فحسب، بل بطريقة تعلُّمها، وإكتساب أهدافها من قبل المتعلمين، وهذا الأمر لا يتم بعد الإنتهاء من التأليف، كما يرى البعض، بل قبل المباشرة به، وفي أثنائه أيضاً. فالمؤلف عندما يرسم أهداف المادة ومكوِّناتها وطريقة عرضها وتبويبها، وإعداد تمارينها وبطاقاتها، معنيٌّ، في الوقت نفسه، بالتفكير بالطريقة التي يمكن اعتمادها من قبل المعلم لتعلُّمها واكتسابها، حتى إذا ما باشر بالتأليف والإعداد، دخلت طريقة التعلُّم في النسيج العام، وباتت المادة مجهزة بخيارات عديدة ترتبط بطرق التعلُّم التي يمكن أن يعتمدها المعلم.
إن الاهتمام بمنهج تحقيق أهداف المادة لا يقل أهمية عن الإهتمام بالمادة نفسها، والأمران مترابطان أكثر مما كان يتصوَّر السابقون، من هنا درج المؤلفون المجدِّدون، ودور النشر المتقدمة، على إعداد دليل منهجي للمادة العلمية يشكل مرجعاً غنياً للمعلم في إعداد خطته اليومية، فضلاً عن الأسبوعية أو الشهرية وغير ذلك، ولم يعد المعلم أمام عملية تخطيط تبدأ من الصفر، فالأهداف محدَّدة ومتعدِّدة، وبإمكانه أن يختار منها ما يتناسب مع مدرسته وتلاميذه، وفي أصعب الأحوال تساعده على صياغة أهداف جديدة من خلال نمطيتها المجسِّدة لشروط الأهداف الصحيحة، وكذلك نسق الخطوات أو الطريقة المطلوبة، حيث يشحن المعلم تفكيره بنماذج تطبيقية عديدة ودقيقة، قبل أن ينتقي واحدة منها، أو يتجاوزها، مستفيداً من مضمونها ومنهجها. أما إختبار تحقق الهدف فهو جاهزٌ ولا ينتظر سوى إِنتقاء المعلم وتوقيعه. ولا يعني ذلك، بالتأكيد، إعفاء المعلم من عملية التفكير بالطريقة أو الخطة، أو حرمانه من التفاعل الشخصي مع مكوِّناتها وصياغاتها، وإنما تزويده بخيارات تدفع بعملية التفاعل هذه إلى أبعد مدى يرتئيه.
قد يكون ما تقدَّم ملائماً أكثر للمواد ذات الأهداف أو المضامين المعقَّدة بعض الشيء، ولكن لا يعني ذلك غياب الفائدة الملحوظة والجوهرية عن كل المواد، بما فيها مادة التاريخ، ذلك أن تحقيق الأهداف النوعية في تعلُّم التاريخ يستوجب عمليات ذهنية متوسطة أو عليا، وهذا لن يتأتَّى إلا عبر طرق تدريس فعَّالة ومحفِّزة.
2- طريقة التدريس وأوهام المدرسين
ومن الأوهام التي يقع بها أكثر المدرسين، إختيار الطرق التي شاهدوها عندما كانوا متعلمين، قد تأثروا بها، ولا يزالون يحتفظون بإنطباعات طيبة عنها، وهذا الأمر قد يأتي عن وعي وقصد، كما قد يأتي، وهذه هي أغلب الحالات، بصورة تلقائية، وبنوعٍ من التماهي العفوي بالمعلم، أو غيره.
وسر الوهم هنا، أن ما يبدو لنا مؤثراً، قد لا يبدو لغيرنا، بل إن ما يبدو لنا مؤثراً، قد لا يكون من زاوية تعليمية فعلية، فنغم الصوت، واللكنة في المفردات، وطريقة تحريك اليدين والرأس، أو تدوين الملاحظات على اللوح، أو حتى توجيه الأسئلة والتعليق عليها، كلها أشكال قد لا تضمن موقفاً تعليمياً فعلياً، ولكنها تحمل مؤثرات نفسية خاصة عند بعض المتعلمين. من هنا فإن تقليد المعلم الشخصي ينبغي أن لا يشكل خياراً راجحاً على الدوام، بل إن حكاية التقليد في الأساس حكاية تنطوي على محاذير عديدة، ترتبط بالجمود والتكرار، وبالتالي الإبتعاد عن الحيوية النفسية والذهنية المطلوبة في التدريس.
فالمدرِّسون المحترفون، أو المبدعون، يستفيدون من تجارب المعلمين التي مرت أمامهم، ولا يقفون عندها، بل يتجاوزونها بحكم تطلُّعهم إلى الأمام، ونزعتهم إلى الأصالة في تفكيرهم وسلوكهم.
وكما يمكن أن يستغرق المدرس بغيره، فقد يستغرق أيضاً في ذاته، فيبدو له أن لا حاجة لاعتماد طرق تدريس جاهزة، وأنَّ تجربته الذاتية هي المصدر الوحيد في تشكيل طريقته، وتحديد خطواته التعليمية، ويكفيه أنه قد لاحظ التأثر على مجموعة من المتعلمين، أو وصلت إلى مسامعه مواقف مؤيدة لطريقته وأسلوبه. ولمَّا كان الإنسان حريصاً على ما يعزِّز هويته، فإن إصراره على طريقته، قد يكون نوعاً من الإصرار على هويته وفروقه الخاصة. وعلى الذين لم ينخرطوا في طريقته بعد، إكتشاف السبل للإلتحاق بها، أو على الأقل الإفادة من المجموعة المتأثرة.
وبالرغم من تسليمنا بالطابع الشخصي لكل طريقة معتمدة من أي مدرِّس، إلا أن مضمون هذه الطريقة لا ينبغي أن يكون شخصياً على الدوام، وهذا لا يعني أن يكون المضمون مخالفاً، أو متعارضاً مع السمات الشخصية، بل لا بد أن يكون مطبوعاً بطابعها، ولكن من دون أن يعني ذلك أنه صادراً عنها بشكل كامل.
3- كيف يجري تحديد الطريقة؟
يمكن القول من البداية أن الهدف من تعلُّم المادة التاريخية، يسهم إلى حد بعيد في إختيار الطريقة.
فإذا كان من قبيل المعارف فإن طرق العرض الواضح للمعلومات، والمحاضرة، الفهم الذاتي للمادة، وتقصِّي المعلومات، يمكن أن تكون خيارات لها الأولويِّة في هذا المجال. أما إذا كانت من قبيل المواقف فإن طرق النقاش، والإستقراء، والإستنتاج، تشكل خيارات ملائمة. وفي ما يتعلََّق بالمهارات، فإن الطرق ذات البعد التطبيقي، تمثيل الأدوار، إعداد الأبحاث، رسم الخرائط والجداول هي أكثر الطرق ملائمة لهذا النوع من الأهداف.
وهذا الكلام لا يتعارض مع المقولة السائدة بأن محتوى الدرس هو الذي يحدِّد الطريقة، ذلك أن تحديد الهدف إنما يتأتَّى من الإحاطة بمحتوى الدرس وإستيعابه. نعم نحن عندما نختار الإنطلاق من الهدف رأساً، وليس من المحتوى، إنما نفسح في المجال أمام المعلم للإرتقاء بالمحتوى، وبالتالي السعي فيه باتجاه يتجاوز الترجمة المعرفية، نحو عمليات ذهنية أعلى تتصل بالحاضر وقضاياه، من دون أن تتخلى عن العيش في ظروف الماضي، وتفاصيله الخاصة.
فإذا كان الدرس، على سبيل المثال، يرتبط بالحضارة اليونانية، فمن غير المناسب أن يكون الهدف معرفي خاص بالمعلومات المتوافرة عن هذه الحضارة فحسب، بل لا بد أن يتجاوز، من دون أن يخرج، نحو تأثير بعض جوانب هذه الحضارة على التاريخ، القديم، والوسيط، والحديث، وحتى المعاصر. فلا يمكن الحديث عن أرسطو أو أفلاطون أو أبقراط أو جالينوس، أو غير هؤلاء من أعلام الحضارة اليونانية، من دون الإشارة إلى آثارهم في الفكر الإنساني التي كان لها الدور الكبير في دخولهم التاريخ، ثم تحوُّلهم إلى مادة تاريخية للتعلُّم لاحقاً.
والأمر نفسه مع ثورة الإمام الحسين عليه السلام، حيث لا يمكن تقديم المعطيات حولها، من دون الإهتمام بآثارها أو تداعياتها في تاريخ المعارضة الإسلامية، بل إن حدث الثورة (حتى من الزاوية العلمية التاريخية)، لا يمكن أن يختتم بإستشهاد الثائرين، بل لا بد من إلحاق النتائج بأسبابها، والتداعيات بمصادرها، وإلا وقعنا في محذور الفصل والبتر، والاقتطاع غير المبرَّر، وهذا الأمر قد لا تلحظه المناهج، أو لا تتَّسع له الدروس، لكن الهدف الذي يضعه المعلم يتسع حتماً، بل إن أهم ميزة للأهداف تكمن في تطلعاتها وطموحاتها، التي لا تخرج عن شروط الواقع وإمكانياته، وبهذا تكون الطريقة خياراً مليئاً بالطاقة، بفعل الحرارة الصادرة عن الهدف.
مما تقدَّم نخلص إلى القول بأن الطريقة تأتي بعد تحديد الهدف، وليس فقط بعد استيعاب المحتوى، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهي كفيلة، بحكم طبيعتها وطاقة خطواتها، بتحقيقه نظرياً وفعلياً. وعندما نقول الطريقة، لا نعني نوعاً واحداً، أو طريقة واحدة من الطرق المعتبرة، ذلك أنه قلَّما يكتفي المعلم بخطوات تنتمي إلى طريقة واحدة، والدمج بين الطرق، من دون الإخلال بالمنهج العام، خيار حكيم في عمليات التخطيط للدروس أو تنفيذها.
4- من التدريس بالمعلومات إلى التدريس بالمغزى والمعنى.
ساد الإعتقاد لدى بعض المعلمين والتربويين، بأن الطريقة المثلى في تدريس مادة التاريخ، هي الطريقة التي تضمن إستيعاباً سريعاً، وإستذكاراً دقيقاً وقوياً. وكانت تطلُّعات المدرسين تتجه دائماً نحو تمكّن المتعلمين من حفظ أدق التفاصيل، وبالتالي إستعادتها على الوجه الكامل والشامل. وكانت الطريقة في مثل هذه الأحوال تتوسَّل الخطوات التي تيسِّر هذا الهدف، منها العرض الشيِّق للأحداث، والتكرار المقصود للأرقام والأسماء، ثم الاختبار الشفوي المتعدِّد خلال الحصة، فضلاً عن تدوين المعلومات والأفكار على اللوح، أو عرضها بواسطة التقنيات الضوئية، أو الجداريات الملوَّنة، وقد تمكنت فعلاً هذه الخطوات من ضمان نسبة عالية من الإستيعاب السريع، أو التخزين الدقيق، ولم تعجز هذه الخطوات عن إحداث تفاعل ما بين المتعلم والمادة لم يتجاوز، في أحسن حالاته، الخيال العاطفي.
ما نطمح إلى اعتباره في هذا المقام هو تجاوز، ولا أقول ترك، الوضع السابق إلى أوضاع جديدة، يكون الحفظ والإستيعاب واحداً من الأهداف، وليس كلها. لسنا معنيون بحفظ المادة كما كان يحفظها الأسلاف، وإذا كانت لهم مبرِّراتهم الموضوعية، فقد انتهت هذه المبرِّرات في عصرنا وبالنسبة لنا. فتقنيات الحفظ الموجودة رفعت التكليف عن الجميع، ولكننا معنيون بمستويات جديدة من التعامل مع المادة، تضمن إختراقات جديدة في إكتشاف المعاني والدلالات للنصوص والروايات المتوافرة، وبالقدر الذي تسمح فيه إمكانات المتعلمين وثقافتهم. فالتعاطي على سبيل المثال مع قرار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في موضوع أسرى معركة بدر، لا ينحصر بأسمائهم وأعدادهم، أو المصير الذي آلت إليه أمورهم، فضلاً عن الطريقة التي اعتمدها صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك، بل لا بد من التوقف عند كل نقطة من نقاط هذه القضية لنكتشف الخلفية التي كانت وراء كل خطوة فيها، ولا يمكن على سبيل المثال النظر إلى الشرط الذي وضعه الرسول للأسرى بوجوب تعليم المسلمين القراءة، مقابل الإفراج عنهم، بعيداً عن الرؤية الشاملة للرسول في تطوير إستعدادات أصحابه، أو المسلمين عموماً.
فالأبعاد والخلفيات أصبحت جزءً رئيساً في مقاربة المادة التاريخية، من دون أن يعني ذلك خلطاً بين المادة التاريخية الرئيسية من جهة، وما يتصل بها، أو يدور في فلكها من جهة أخرى، وهذه الطريقة في تدريس التاريخ تضمن الأهداف التقليدية (الإستيعاب السريع والحفظ)، كما تحقق الأهداف الجديدة، وهو ما يمكن وصفه بطريقة التدريس بالمغزى أو المعنى، وهذا أعلى نوع من الإستيعاب، فضلاً عن الحفظ. ذلك أن ذاكرة المغزى والمعنى أقوى وأعمق أنواع الذاكرة، بل هي سر الذاكرة، حتى وإن بدا محجوباً هنا، أو محدوداً هناك.
وبهذا الاتجاه يغدو الحديث عن التحليل والإستنتاج- في طرق تدريس التاريخ، حديثاً جوهرياً وثابتاً، فالمتعلمون معنيِّون بالتحليل والإستنتاج، في كل مادة تاريخية تعرض عليهم، كلٌّ على قدر إمكاناته وساحته. لذلك لا يمكن الإكتفاء بطريقة العرض الواضح للمعلومات في تدريس التاريخ، مهما بدت مؤثرة أو جذابة ومشوِّقة، كما لا يمكن الإكتفاء بالمحاضرة، أو الفهم الذاتي، لأنهما لا تضمنان شرط التحليل والإستنتاج، أقله من جهة المتعلم. أما تحليل المعلم فهو من قبيل النتائج الجاهزة التي قد لا تسهم في تعميق الإستيعاب عند المتعلمين.
5- التدريس بالمصادر والوثائق
كان تدريس التاريخ في بداياته الأولى يعتمد على النصوص والمخطوطات التي كتبها المؤرخون المعاصرون للأحداث، ولم يتعدَّ إسهام المدرِّس حدود التعليق أو التفسير، وبشكل هامشي لا يؤثر على استقلالية المتن الأساسي. وكانت عملية الإملاء، أي نقل المعلومات كما وردت في كتاب صاحبها أو على لسانه، هي الاسم المتداول لعملية التدريس.
لكن مع تطور التقنيات الطباعية وكثافة المادة التاريخية المطلوبة، اتجه القيِّمون على المناهج نحو عمليات ضبط واختصار ثم إعادة الصياغة للمواد التاريخية، حيث يتم حذف الكثير من العناصر التي وُصِفت بالزائدة، أو غير الضرورية للمتعلمين. من ذلك على سبيل المثال أسماء الأشخاص الذين تناقلوا المادة، بالإضافة إلى الكثير من المفردات التي كانت رائجة في فترة النقل، فضلاً عن التفاصيل التي تم استبعادها بحجة تجنُّب الإطالة أو الاقتصار على جوهر الأحداث. وبعبارة أخرى لقد جرى تقديم المادة التاريخية كوجبات سريعة سهلة التناول وعالية الدسم، مع مشوِّقات منوعة لجذب اهتمام المتعلمين وتحفيزهم على التعلُّم.
لسنا ضد مبدأ التصرُّف بالمادة التاريخية لمصلحة تيسير عمليات التعلُّم، ومن غير الواقعية الاكتفاء بنسبة محدودة جداً من هذه المادة تحت عنوان تعلُّم المادة كما وردت، لكن ما حدث كان خروجاً كلياً عن أجواء المادة الأصلية وكل حيثياتها الغنية والبليغة. لقد بدت المادة بعد التأليف الجديد ( أو التصنيع) غير متصلة أو مرتبطة بمعجمها ومعجنها الأول، ولا شك بأن ذلك تم على حساب الكثير من المعاني .
لقد بدت الأحداث بشكلها الجديد قريبة من عصر المتعلم، على الرغم من أن الزمن الذي يفصله عنها يعد بمئات السنين، ما تطرحه هذه الورقة هو الإبقاء على صلة بمناخ الأحداث وحيثياتها الفعلية، كي يتسنى للمتعلم القدرة على ضبط خصائص المراحل التاريخية وتطوراتها المتوالية.
إننا بحاجة لتدريس المتعلمين بعض المواد كما وصلت إلينا، من دون أي حذف أو تعديل. وإذا كانت لنا تبريراتنا في عدم القدرة على تدريس كل المواد بهذه الطريقة، فليس لنا مبرر في الامتناع عن تدريس بعضها أو جزء منها على الأقل. وان كثيراً من المراسلات والمواقف والاتفاقيات، وحتى المعارك الفاصلة في التاريخ، يمكن تدريسها بالشكل التي وردت فيه بأقلام المؤرخين الأوائل.
والضرورة تقضي بأن لا تكون ثمة فجوة كبيرة بين المادة التي تقدَّم للمتعلمين، وتلك الموجودة في المصادر والوثائق، كي لا يشعر المتعلم بصعوبة العودة إلى هذه المصادر والوثائق عند الحاجة. إننا ملزمون بتوفير كل المقدمات التي تمكّن المتعلمين من التألف مع المصادر والوثائق، ولن يتم ذلك إلا بإدخالها في صميم خطواتنا في التعليم والتدريس.
لن نتراجع عن جهودنا السابقة في تقديم المواد التاريخية في أفضل صورة، وعلى أحدث التقنيات الطباعية، ولكن ينبغي علينا أن لا نتابع ذلك على حساب تعميق علاقة المتعلمين بالأصول التاريخية، أما هذه المرة سنسعى في خدمة هذه العلاقة نشوءً وتطويراً واستمراراً.
إننا معنيون بالخبرة النوعية التي يمكن ان يكتسبها المتعلمون من خلال تداولهم أسماء المؤرخين وعناوين المصادر والوثائق، كي يتسنى لهم، فيما بعد، بناء ما يمكن تسميته بيبلوغرافيا ذاتية للموضوعات التاريخية التي تعرَّفوا عليها.
فإذا كنا في صدد الحديث عن صُلح الحديبية على سبيل المثال، فلا مانع لدينا من استحضار عدة مصادر وعرضها كما هي، وبكل حيثياتها، على التقنيات الضوئية، أو نسخها وتوزيعها على المتعلمين، بغية قراءاتها وبالتالي الإجابة على مجموعة من الأسئلة تتعلق بفهمها ومقارنتها ونقدها، وبالتالي الاستنتاجات حولها. وبدل أن نقدم للمتعلمين صياغات جديدة لمعانيِ بنودها(صلح الحديبية)، يمكن الاعتماد على مجموعات المتعلمين في إعداد هذه الصياغات، بل يمكن الأخذ بالبنود كما وردت بعد فصلها وترتيبها على أيديهم، وبهذه الطريقة يتم إثراء خيال المتعلمين بكل الحيثيات التي رافقت عملية الصلح هذه، حتى ولو لم تكن على ارتباط مباشر بمضمون الصلح، لكنها تسمح بفهم الأحداث ضمن إطارها الطبيعي، وكلما كانت الحيثيات أكثر والتفاصيل أدق كلما كان المتعلمون أقدر على التحليل والاستنتاج، ذلك أن عمليات التفكير العليا في الأحداث إنما تتم وفقاً لحجم المادة المتاحة للتفكير، سواء كانت على علاقة واضحة بالأحداث أم لا. وكما يحتاج المخرج التلفزيوني إلى عناصر الديكور للمشَاهِد التي يعرضها كي تكتمل الصورة الخيالية في ذهن المشاهدين، كذلك فان المتعلمين بحاجة إلى كل ما يكمل صورة الحدث في خيالهم، كي يتحسسوا تفاعلاته، وبالتالي تطوراته.