من وصيّته لإبنه الحسن بن عليّ عليه السلام كتبها إليه بحاضرين منصرفاً من صفّين: "أحيّ قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوّه باليقين، ونوره بالحكمة، وذللـّه بذكر الموت، وقرّره بالفناء، وبصّره فجائع الدنيا، وحذّره صولة الدهر وفحش تقلّب الليالي والأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين".
الهدف:
الإطلالة على بعض المفاهيم الروحيّة التي يتضمّنها إحياء القلوب وكيفيّة السبيل إلى ذلك ومن خلال ما تضمّنته وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الحسن عليه السلام.
مقدمة
إن غاية التشريع التي تعتبر باطن العبادات وأهم أسرارها هي تصفية الذات وتنقيتها وإيصال الإنسان إلى كونه صاحب قلب سليم عامر بالتقوى، هذا القلب الذي أكّد القرآن الكريم أنّه وحده الذي ينفع الإنسان وينجيه يوم الحساب الأكبر.
يبيّن أمير المؤمنين عليه السلام السبيل إلى عمارة القلب وإحيائه من خلال عدّة أمور
1- الموعظة: يقول عليه السلام: "أحيّ قلبك بالموعظة"، والموعظة هي التدبّر في الأمور والتفكّر في عواقبها واستخلاص العبر منها وقراءة الأحداث بعين البصيرة، فقد ورد عن الإمام الصادق: "التفكر حياة قلب البصير"1.
2- الزهد: يقول عليه السلام: "وأمته بالزهادة"، أي أمت فيه الجشع والطمع والركون إلى زخارف الدنيا ومشتهياتها، فليس أنفع لإحياء القلب من تزهيده متاع الدنيا وتعلّقه بالرازق الأوّل والسبب الأوّل الذي إن توثّقت صلتك به فإنّك استغنيت عن الدنيا وما فيها. والزهد كما ورد تعريفه عن الإمام الصادق عليه السلام: "ليس الزهد في الدنيا بإضاعة المال أو تحريم الحلال، بل الزهد في الدنيا أن لا تكون بما في يدك أوثق منك بما عند الله عزّ وجلّ"2.
3- اليقين: يقول عليه السلام: "وقوّه باليقين"، واليقين يتحقق بصلابة الإيمان التي لا يشوبها شكّ أو خوف أو ريب سواء في الأمور المعرفيّة أو العمليّة، وعليه فهو من أعلى المراتب في سلّم الإيمان بالله، ولذلك ورد عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: "ما قسّم شيء بين الناس أقلّ من اليقين"3.
4- الحكمة: يقول عليه السلام: "ونوّره بالحكمة"، أي نور العلم والمعرفة فقد ورد في وصيّة لقمان لابنه: "يا بنيّ جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإنّ الله يحي القلوب بنور الحكمة كما يحي الأرض الميّتة بوابل المطر"4.
5- ذكر الموت والفناء: يقول عليه السلام: "وذللّـه بذكر الموت وقرّره بالفناء"، فذكر الموت ضمان عدم الإنزلاق في متاهات الضلالة والرذيلة، فعن رسول الله صلى الله علية واله وسلم: "إنّ القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد"، قيل: فما جلاؤها؟ قال صلى الله علية واله وسلم: "قرآءة القرآن وكثرة ذكر الموت"5. وينبغي التأكيد على أنّ الدنيا دار فناء وزوال وأنّه كما قال تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَام ﴾6.
6- التدبّر في أحوال الدنيا: يقول عليه السلام: "وبصّره فجائع الدنيا"، ويحذّر أمير المؤمنين عليه السلام من الدنيا في نفس هذه الوصيّة فيقول: "وإيّاك أن تغترّ بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها، وتكالبهم عليها، فقد نبأك الله عنها، ونعت لك نفسها، وتكشّفت لك عن مساويها، فإنّما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية، يهرّ ببعضها بعضا، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها".
7- تغيّر الأحوال: يقول عليه السلام: "وحذّره صولة الدهر وفحش تقلّب الليالي والأيام"، وأنّ الدنيا لا تبقى على حالها بل تتبدّل أحوال الناس وتتقلّب بين الصحّة والمرض والقوّة والضعف والغنى والفقر والضلالة والهدى، وعلى المرء أن يبقى يقظاً ثابتاً على الهدى على أيّ حال.
8- الإستفادة من تجارب الماضين: يقول عليه السلام: "واعرض عليه أخبار الماضين، وذكّره بما أصاب من كان قبلك من الأوّلين". فإنّ التأمل في سير الأمم والشعوب السابقة ومآل دولهم وملكهم وما جرى عليهم من محن وويلات وكيف جرت سنن التاريخ فيهم من أشدّ العبر التي تحي قلب الإنسان، قال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾7
* خير الزاد في شهر الله، المركز الإسلامي للتبليغ، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، تموز 2010م.
1- الكافي، ج1، ص28.
2- الكافي، ج5، ص71.
3- الكافي، ج2، ص51.
4- نهج السعادة، ج7، ص251.
5- شجرة طوبى، ص442.
6- الرحمن: 26 27.
7- يوسف:109.