بسم الله الرحمن الرحيم
أركان الشعيرة الحسينية
إنّ الروايات المتواترة عن أهل البيت عليهم السلام ذكرت بأنّ الشعيرة الحسينية يجب أن تتقوّم بأركان ثلاثة:
الركن الأوّل: تَضمّن معنى الحزن والمصاب والتفجّع.
الركن الثاني: الحماس والعاطفة الجيّاشة.
والركن الثالث: المباديء والقيم النبيلة التي رسمها الحسين عليه السلام في نهضته.
والكلام في هذه المقالة عن الركن الثالث..
يجب أن تدل الشعيرة الحسينية على أهداف وقيم الثورة الحسينية
فإنّ ضرورة كون الشعيرة الحسينية دالة على المعاني والفضائل والقيم النبيلة والأهداف الإصلاحية والتي كانت منعطفاً مهمّاً في التاريخ الإسلامي، حيث إنّ أهل البيت عليهم السلام، هم العِدل الثاني الذين أُمرنا بالتمسك بهم، فلابد أن تكون أقوالهم وأفعالهم وسيرتهم حجة، ومن ثَمّ فإنّ الشعيرة الحسينية لابد أن تكون دالة على الأهداف والفضائل والقيم النبيلة التي قام من أجلها الحسين عليه السلام، وصحّح مسيرة الأُمة.
يجب تطبيق مواقف وأهداف الإمام الحسين عليه السلام على الواقع
ويجب أن تجعل الشعيرة الحسينية، من منطلقات الإمام الحسين عليه السلام وأهدافه، محوراً وقطباً ومنهلا تنتهل منه الحلول لقضايانا الراهنة، وإذا كان استعراض القضايا الراهنة بعيداً عن فكر كربلاء وعطاء الحسين عليه السلام، فإنّ الشعيرة الحسينية لا تُؤدّي غرضها كما ينبغي، وكذلك استعراض السيرة الحسينية بعيداً عن ربطها بالقضايا الراهنة المعاصرة يقف عائقاً أمام تحقيق غرض الشعيرة الحسينية، ولا يمكن للشعيرة الحسينية أن تُؤدّي غرضها، إلاّ إذا قمنا بتحليل مواقف الإمام الحسين عليه السلام، وكلماته وتطبيقها على الواقع، وحينئذ نكون قد تمسّكنا بالإمام الحسين عليه السلام الذي هو مصباح الهدى وسفينة النجاة.
هل البكاء ظاهرة سلبية؟
ومن المعروف أنّ البكاء من الأُمور المؤكّدة التي حثّ عليها أهل البيت عليهم السلام 1، بل هو من أبرز الشعائر الحسينية.
ومن القضايا المثارة حول شعائر الحسين عليه السلام، هي قضية البكاء والجزع، التي تثير اعتراضات من قبل غير المسلمين أو غير الشيعة من المذاهب الإسلامية، وهذه الاعتراضات اعتراضات غير مدروسة، لأنّ البكاء ظاهرة نفسية تستحق البحث والدراسة في حقول علم النفس.
فهل أنّ البكاء ظاهرة سلبية بما تحمله من حالة الانكسار والضعف وعدم الشجاعة في مواجهة الواقع ـ كما يقولون؟
البكاء علاج لأمراض الروح والنفس
والدراسات الغربية تؤكّد أنّ الكثير من العُقَد والأمراض النفسية والإجرام والاضطرابات الروحية، إنّما تحصل نتيجة غياب وفقدان البكاء، وأنّ في البكاء علاج لهذه الأمراض الروحية والنفسية، وقد عمل بعض الأطباء الغربيين على تهيئة أجواء البكاء لبعض المرضى، أو كما يصطلحون عليه بالبكاء الاصطناعي في مقابل البكاء الطبيعي; لأنّ في البكاء علاج نفسي.
الإسلام والقرآن الكريم يثني على البكّائين
فمسألة البكاء يجب أن تخضع لدراسة، ولا ينبغي أن يحكم عليها بالسلبية، خصوصاً أنّ الإسلام قد حثّ على البكاء من خشية الله والتوبة من الذنوب والرجوع إلى الله.
ونلاحظ أنّ القرآن الكريم قد أثنى على القسيسين والرهبان، لأنّ أعينهم تفيض من الدمع قال تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ* وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾2.
البكاء يُقرّب الإنسان إلى الفضائل، ويرقق القلب
الكبر والعجب والتعجرف والاستعلاء والعصبية أمراض، وتعتبر ظاهرة البكاء علاج لهذه الأمراض، ويستطيع البكاء أن يقتلع الكثير من جذور الصفات المذمومة في النفس.
ولا يقترب الإنسان ـ في أغلب الأحيان ـ من البكاء إلاّ إذا اقترب إلى الفضائل والقيم النبيلة والمباديء الإنسانية العالية، وتكون نتيجة هذا البكاء هو تخلّص الإنسان من الرذائل، وابتعاده عن الأفراد والجماعات التي تمارس هذه الرذائل الروحية، ويقرّب البكاء الإنسان إلى الفضائل ويجعله يحبّ، ويقترب إلى أهل الفضائل والمحسنين والصالحين.
الحكمة الإلهية لخلق حالة البكاء عند الإنسان
ولو تساءلنا، لِمَ خلق الله حالة البكاء، وجعلها مرتبطة بالإنسان؟ الجواب هو: أنّ البكاء تصحيح، وطب نفسي سريع جداً للأمراض المتجذّرة، والتي ربما تكون أمراضاً نفسية سرطانية خطيرة تهدّد مستقبل الإنسان والمجتمع، ومن ناحية أُخرى فإنّ البكاء يبني الفضائل والمحاسن في نفس الإنسان بشكل سريع أيضاً، فعلى سبيل المثال: الخشوع لله، وهو من أفضل الكمالات التي يحصل عليها الإنسان، ورقّة القلب والصفاء النفسي له علاقة وثيقة بالبكاء، ويختصر البكاء الطريق إلى الله ويقرب إليه.
الآثار الإيجابية للبكاء
ولا نجد في المصادر الإسلامية من القرآن3 وأحاديث أهل البيت عليهم السلام 4 بل حتّى روايات أهل السنّة المذكورة في صحاحهم 5; إلاّ الثناء والمدح للبكاء والتنويه بآثاره الإيجابية، لأنّ البكاء يقف مقابل الرعونة والخشونة والقساوة، والمجتمع الدولي يعاني اليوم من الإرهاب والقساوة والعنف والفرعنة والأنانية.
ويصلح البكاء إذا ما نجحنا في تفعيله في النفس أن يذهب القساوة والعنف والإرهاب من نفس الإنسان، فمن الخطأ الاستخفاف والاستهزاء بالبكاء، لأنّ البكاء من أفضل العبادات، والإنسان يكون في أقرب الحالات إلى الله تعالى إذا كان في حالة الانكسار والتضرّع والضعف.
الحسين قتيل العَبرة
والبكاء يصاحب هذه الحالات النفسية العالية، ومن هنا كانت روايات أهل البيت عليهم السلام تعبّر عن الحسين عليه السلام أنّه "قتيل العَبرة"6، والعَبرة هي الدمعة والبكاء المرتبط بالفضائل، والنبي صلى الله عليه وآله يقول: "إنّما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق"7، إذاً العَبرة الحسينية تصبّ في مصبّ بناء مكارم الأخلاق وتتناغم مع أهداف الرسالة المحمّدية.
لا بدّ من التفاعل مع القضية، لكي نستطيع تفعيل دور البكاء
وبعض الروايات تشير إلى أنّ من أسرار استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، هو بكاء المؤمنين عليه 8، باعتبار أنّ البكاء له دور كبير في البناء الاجتماعي وتحصينه من الآفات وحثّه على المكرمات.
ولا يمكن للبكاء أن يفعل مفعوله في النفس، إلاّ إذا عرف الإنسان آثاره الإيجابية، وسعى إليه وتفاعل مع القضية التي بكى من أجلها، وبكى باعتبار البكاء باباً من أبواب الفضيلة والكمال الإنساني، ومن المعروف أنّ الله قريب من الخاشعة قلوبهم وبعيد عن القاسية قلوبهم.
آية الله الشيخ محمد سند- بتصرف
1-جامع أحاديث الشيعة 15: 429، باب أنّه يستحب البكاء لما أصاب أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وخصوصاً الحسين عليه السلام.
2-المائدة: 82 ـ 83.
3-الاسراء: 109. مريم (19): 58.
4 - وسائل الشيعة 7: 74، باب استحباب الدعاء مع حصول البكاء.
5 - صحيح مسلم 2: 530، الحديث 923، كتاب الجنائز (11).
6 - وسائل الشيعة 14: 422، الحديث: 19506.
7 - جامع أحاديث الشيعة 17: 519، الحديث 24267، باب مكارم الأخلاق.
8-بحار الأنوار 44: 279، الحديث 5 و6، باب ثواب البكاء على مصيبته، ومصائب سائر الائمة عليهم السلام.