بسم الله الرحمن الرحيم
هو الإمام السادس من أئمة أهل البيت عليهم السلام، اسمه جعفر، وكنيته أبو عبد اللّه، لقبه الصادق، أبوه الإمام الباقر وأُمّه أُمّ فروة. ولد في السابع عشر من ربيع الأوّل عام 83 في المدينة، ورحل في 65 من عمره عام 148 هجرية، ودفن في المقبرة المعروفة بالبقيع بجانب أبيه العظيم.
الخلفاء المعاصرون للإمام:
بلغ الإمام الصادق عليه السلام الإمامة عام 114 هجرية، وتزامنت أمامته مع نهايات الحكم الأموي الذي انتهى عام 132 وبدايات الحكم العباسي الذي بدأ من ذلك التاريخ..
وعاصر الإمام الصادق من الخلفاء الأمويين:
1- هشام بن عبد الملك (105- 125هـ)
2- الوليد بن يزيد بن عبد الملك (125- 126هـ)
3- يزيد بن الوليد بن عبد الملك (126هـ)
4- إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك (70 يوماً من عام 126هـ)
5- مروان بن محمد المعروف بمروان الحمار (126- 132هـ)
ومن الخلفاء العباسيين:
1- عبد اللّه بن محمد المعروف بالسفّاح (132- 136هـ)
2- أبو جعفر المعروف بالمنصور الدوانيقي (136- 158هـ)
عظمة الإمام العلمية:
هناك أدلّة كثيرة على عظمة الإمام الصادق - عليه السَّلام - العلمية، وهو أمر متفق عليه من قبل علماء الشيعة والسنّة، فالفقهاء والعلماء الكبار يتواضعون أمام عظمته العلمية ويمدحون تفوقّه العلمي. فأبو حنيفة إمام المذهب الحنفي الشهير كان يقول: ما رأيت أعلم من جعفر بن محمد1.
ويقول أيضاً: لما أقدمه (جعفر بن محمد) المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة انّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من مسائلك الشداد فهيّأت له أربعين مسألة، ثمّ بعث إليّ أبو جعفر وهو بالحيرة فأتيته، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه، فلمّا بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر مالم يدخلني لأبي جعفر المنصور، فسلّمت عليه، فأومأ إليّ فجلست.
ثمّ التفت إليه فقال: يا أبا عبد اللّه هذا أبو حنيفة. قال - عليه السَّلام -: نعم أعرفه. ثمّ التفت إليّ فقال: يا أبا حنيفة ألق على أبي عبد اللّه من مسائلك. فجعلت أُلقي عليه فيجيبني، فيقول أنتم تقولون كذا وأهل المدينة يقولون كذا ونحن نقول كذا، فربما تابعنا وربما تابعهم وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيت على الأربعين مسألة فما أخل منها بشيء.
ثمّ قال أبو حنيفة وبعد ما بلغ إلى هذا الوضع: أليس انّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس2.
وقال مالك إمام المذهب المالكي: اختلفت إلى جعفر بن محمد زماناً، فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إمّا مصلياً، وإمّا صائماً، وإمّا يقرأ القرآن، وما رأيته قط يحدّث عن رسول اللّه إلاّعلى طهارة3. ولا يتكلم بما لا يعنيه، وكان من العلماء العبّاد والزهّاد الذين يخشون اللّه، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً4.
وكتب الشيخ المفيد: ونقل الناس عنه - الصادق - عليه السَّلام - - من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته ما نقل عنه من العلوم5.
وابن حجر الهيثمي: جعفر الصادق نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمّة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريج ومالك والسفيانيين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السجستاني6.
ويقول أبو بحر الجاحظ أحد علماء القرن الثالث: جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، ويقال انّ أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب7.
وفي معرض حديثه عن المدارس الفلسفية في عهد الحكم الأموي يكتب السيد أمير علي: ولم تتّخذ الآراء الدينية اتجاهاً فلسفياً إلاّ عند الفاطميين، ذلك انّ انتشار العلم في ذلك الحين اطلق روح البحث والاستقصاء، وأصبحت المناقشات الفلسفية عامة في كلّ مجتمع من المجتمعات، والجدير بالذكر انّ زعامة تلك الحركة الفكرية إنّما وجدت في تلك المدرسة التي ازدهرت في المدينة، والتي أسّسها حفيد علي بن أبي طالب المسمّى جعفر والملقّب بالصادق، وكان رجلاً بحّاثة ومفكراً كبيراً، جيّد الإلمام بعلوم ذلك العصر، ويعتبر أوّل من أسّس المدارس الفلسفية الرئيسية في الإسلام.
ولم يكن يحضر محاضراته أُولئك الذين أسّسوا فيما بعد المذاهب الفقهية فحسب، بل كان يحضرها الفلاسفة وطلاب الفلسفة من الأنحاء القصية. وكان الإمام «الحسن البصري» مؤسس المدرسة الفلسفية في مدينة البصرة، و «واصل بن عطاء» مؤسس مذهب المعتزلة، من تلاميذه الذين نهلوا من معين علمه الفياض..8
وكتب ابن خلّكان المؤرّخ الشهير: أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللّه عنهم أجمعين، أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية، وكان من سادات آل البيت، ولقّب بالصادق لصدقه، وفضله أشهر من أن يذكر، وكان أبو موسى جابر بن حيان الطوسي تلميذاً عنده، وصنّف جابر كتاباً في ألف ورقة يتضمّن رسائل الإمام جعفر الصادق وهي خمسمائة رسالة9.
الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية في عصر الإمام:
كان عصر الإمام الصادق من بين الأئمّة عصراً فريداً والظروف الاجتماعية والثقافية التي عاشها الإمام لم يعشها أي واحد منهم، ذلك انّ تلك الفترة كانت من الناحية السياسية فترة تزلزل الحكم الأموي واشتداد شوكة العباسيين، وكان الطرفان في صراع مستمر إذ بدأ الصراع الإعلامي والنضال السياسي للعباسيين منذ عهد هشام بن عبد الملك، ودخل عام 129 نطاق الكفاح المسلح، وفي النهاية انتصر العباسيون عام 132 هجرية.
ولأنّ الأمويين كانوا في هذه الفترة منشغلين بالمشاكل السياسية الكثيرة لم تسنح لهم الفرصة لمضايقة الإمام الصادق وشيعته كما حدث في حياة الإمام السجاد عليه السلام كما أنّ العباسيين ولأنّهم كانوا يرفعون شعار الدفاع عن أهل البيت والثأر لهم قبل استلامهم مقاليد الحكم لم تكن هناك مضايقة من جانبهم أيضاً، ومن هنا كانت هذه الفترة فترة هدوء وحرية نسبية للإمام الصادق وشيعته، فكانت فرصة مناسبة جداً لتفعيل نشاطهم العلمي والثقافي.
الظروف الثقافية الخاصة:
ومن الناحية الفكرية والثقافية كان عصر الإمام الصادق عصر النشاط الفكري والثقافي، وقد حدثت في ذلك العصر حركة علمية منقطعة النظير في المجتمع الإسلامي، ونشأت العلوم المتعددة; سواء العلوم الإسلامية، مثل علوم قراءة القرآن والتفسير والحديث والفقه والكلامو; أو العلوم الإنسانية العامة، مثل علوم الطب والفلسفة والنجوم والرياضيات و...، لدرجة انّه كلّ من كان له بضاعة فكرية وعلمية كان يعرضها على سوق العلم والمعرفة، وعليه حدث تعطّش علمي غريب كان على الإمام أن يجيب عليه ويستجيب له.
ويمكن حصر الأسباب التي أوجبت حدوث هذه الحركة العلمية في الأُمور التالية:
أ- حرية الفكر والعقيدة في الإسلام، ولم يكن العباسيون بلا تأثير في هذه الحرية الفكرية قطعاً، غير انّ لهذه الحرية جذور في تعاليم الإسلام بحيث لو كان العباسيون يريدون الوقوف أمامها لما كان بمقدورهم ذلك.
ب- كانت البيئة الإسلامية آنذاك بيئة دينية تماماً، وكانت الدوافع الدينية هي التي تحرك الناس. كما أنّ لتشجيع نبي الإسلام على طلب العلم، وحثّ القرآن على التعليم والتعلّم وتأكيده على ذلك وعلى التفكير والتعقّل، الدور الأساسي في تنشيط وتفعيل هذه الحركة العلمية.
ت- كان للقوميات والأُمم التي دخلت الإسلام خلفية فكرية وعلمية، وكان لبعضها مثل العنصر الفارسي - الذي كان له خلفية حضارية أكثر ازدهاراً - والمصري والسوري حضارات عريقة في تلك الفترة، فراحت هذه الأُمم وبدافع فهم تعاليم الإسلام بشكل معمّق تبحث وتتفحص وتتبادل الآراء فيما بينها.
ث- التساهل الديني أو التعايش السلمي مع غير المسلمين خاصة التعايش مع أهل الكتاب فقد تحمّل وقبل المسلمون أهل الكتاب ولم يروا في ذلك مخالفة لعقيدتهم الدينية، وكان لأهل الكتاب في تلك الفترة علماء وخبراء وكان المسلمون يواجهونهم مواجهة علمية، وكان هذا بدوره يؤدي إلى الجدل والبحث والمناظرة10.
صراع الفِرَق والطوائف الدينية:
كان عصر الإمام عليه السَّلام عصر تلاقح وتضارب الأفكار، وظهور الفرق والطوائف والتيارات المختلفة، وانبثقت شبهات وإشكاليات متعدّدة جرّاء تضارب عقائد المسلمين مع عقائد أهل الكتاب وفلاسفة اليونان أيضاً. وقد ظهرت تيارات وفرق، مثل المعتزلة، الجبرية، المرجئة، الغلاة11، الزنادقة، المشبّهة، المتصوّفة، المجسمة، والتناسخية وغيرها في ذلك العصر، وكانت كلّ فرقة تروّج أفكارها وعقائدها، وفضلاً عن ذلك كان الخلاف يدبّ في العلم الواحد من العلوم الإسلامية بين علماء ذلك العلم فعلى سبيل المثال كانت تحدث مناقشات حادة في علوم القراءة والتفسير والحديث والفقه والكلام12، وكان كلّ واحد يدافع عن رأيه بشكل ما ويصوب عقيدته.
الجامعة الجعفرية الكبرى:
ونظراً لتوفر الفرصة السياسية المناسبة وحاجة المجتمع الماسّة واستعداد الأرضية الاجتماعية، واصل الإمام الصادق جهوده في النهضة العلمية والثقافية التي ابتدأها أبوه الإمام محمد الباقر وأسّس مدرسة وجامعة علمية كبيرة علّم وربى فيها تلامذة كباراً وبارزين; أمثال هشام بن الحكم، محمد بن مسلم، أبان ابن تغلب، هشام بن سالم، مؤمن الطاق، المفضل بن عمر، و جابر بن حيان و... في مختلف المجالات العقلية و النقلية، و قد ناهز عدد تلامذته الأربعة آلاف طالب كما قالوا.
وكان كلّ واحد من هؤلاء الطلاب شخصية علمية كبيرة متألّقة، وقد قدّموا خدمات كبيرة، وكان لبعض منهم مؤلفات علمية وتلامذة كثيرون، فمثلاً كان لهشام بن الحكم واحد وثلاثون كتاباً، وألّف جابر بن حيان أكثر من مائتي كتاب في مواضيع علمية مختلفة لا سيما العلوم العقلية والطبيعية والكيمياوية وقد اشتهر لذلك بأبي علم الكيمياء وقد ترجمت كتبه في القرون الوسطى إلى لغات أُوروبية عديدة، وقد أطرى مؤرّخو العلوم جميعهم عليه.
* مهدي البيشوائي - بتصرّف
1- تذكرة الحفاظ:1/166.
2- بحار الأنوار:47/217; الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ والمذاهب الأربعة:4/335.
3- تهذيب التهذيب:1/88.
4- الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ و المذاهب الأربعة:1/53.
5- الإرشاد، ص 270.
6- الصواعق المحرقة، ص 201.
7- الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ والمذاهب الأربعة:1/55 نقلاً عن رسائل الجاحظ.
8- مختصر تاريخ العرب ص 193.
9- وفيات الأعيان:1/327.
10- سيرى در سيره أئمه أطهار، الشهيد المطهري، ص 142ـ 160.
11- الإمام الصادق ـ عليه السَّلام ـ والمذاهب الأربعة:2/113ـ 126.
12- ويراد بعلم الكلام هو علم أُصول الدين، فقد كان هذا العلم مشهوراً ومن أكثر العلوم شعبية في ذلك العصر وكان كبار المتكلّمين يبحثون في مختلف الجوانب العقائدية.