بسم الله الرحمن الرحيم
حوار دار بين الإمام عليه السلام والمأمون:
عن أبي الصلت الهروي قال:إنّ المأمون قال للرضا علي بن موسى(عليه السلام) يا بن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعَك وعبادتك وأراك أحقّ بالخلافة مني، فقال الرضا(عليه السلام) بالعبودية لله عزَّ وجلَّ افتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم, وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله تعالى.
فقال له المأمون: أني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك!
فقال له الرضا(عليه السلام):إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك ,وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك».حاول الإمام (عليه السلام) إلى هنا توضيح الحق وإدانة المأمون بعبارات قصيرة. لعل المأمون كان يظن أن الإمام(عليه السلام) سيرفض الحكومة من اللحظة الأولى مما يمكّنه من الادّعاء بأنّ الامام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) يعترف بعدم وجود حق له في الحكومة، لا بل أراد إظهار أنّ الإمام لا يرى أيّ مسؤولية أو وظيفة له على مستوى الحكومة، وهذا يعني أن المأمون سيتمكن من توجيه ضربة للإمامة والقيادة بهذا النحو. أما جواب الإمام فكان قاطعاً وجليا: ما علاقة حكومتي بك؟ أنت يجب أن تمارس وظيفتك وتحدد موقفك، هل الحكومة حق لك أو أنها ليست كذلك؟
هنا يؤكد الإمام على نقطة هامة وهي أن الحكومة حقّ ولكنها ليست كسائر الحقوق التي مكَّن للإنسان التغاضي عنها عند القدرة على الاستيفاء. بل مسألة الحكومة على الناس تدور بين الحرمة والوجوب أي إما أن تكون مسؤولية يجب القيام بها أو أنها لا علاقة للشخص بها وهي ليست مجعولة له حيث يكون التدخل فيها حرام.
وإذا كان الله تعالى قد جعل الحكومة لك فكيف يمكنك الامتناع عنها وإن لم يجعلها لك فلما تتدخل فيها؟ في هذه الأثناء يخرج المأمون عن كذبه، ويظهر واقعية ذاته ويقول: يا بن رسول الله لا بدّ لك من قبول هذا الأمر. فقال الإمام الرضا(عليه السلام): لست أفعل ذلك طايعاً أبداً. فما زال يجهد به أياماً حتى يئس من قبوله له فإن لم تقبل الخلافة ولم تحب مبايعتي لك فكن وليّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي.
فقال الرضا(عليه السلام): والله لقد حدثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين(عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسمّ مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض وأُدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد.
فبكى المأمون ثم قال له: يا بن رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن الذي يقتلك أو يقدر على الاساءة لك وأنا حي. قال الرضا(عليه السلام): أَمَا أنّي لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت.
فقال المأمون: يا بن رسول الله(صلى الله عليه وآله) إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك ودفع هذا الأمر عنك ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا.فقال الرضا(عليه السلام): والله ما كذبت منذ خلقني ربي تعالى وما زهدت في الدنيا للدنيا وإني لأعلم ما تريد.
قال المأمون: وما أريد. قال: الأمان على الصدق.قال: لك الأمان.قال: تريد بذلك أن يقول الناس أنّ علي بن موسى الرضا(عليه السلام) لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه ألا تروْن كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة.
من الواضح أن الإمام (عليه السلام) قد أشار إلى أهم عامل أدى إلى إفشاء ما كان يضمره المأمون ألا وهو تشويه صورة الإمام في أذهان الناس. لقد عمل المعصومون (عليه السلام) لإثبات أن الحكومة والرئاسة والخلافة ليست هدايا تقدم للإنسان بل هي وظائف ومسؤوليات ثقيلة لا يقوم بها إلا المعصومون (عليهم السلام). الحكومة من وجهة نظر الأئمة (عليهم السلام) تستلزم علماً فائضاً وعدالة واسعة وانصافاً مطلقاً وابتعاداً عن الدنيا، وهي أمور لا يمكن وجودها إلا في الأئمة (عليهم السلام) أما الأشخاص الآخرون فيمكنهم وبالاستفادة من هؤلاء الأشخاص الوصول إلى المراتب العالية التي لا تحصل إلا من خلال وجود فيض هؤلاء الأشخاص وبالتالي يمكنهم القيام بهذه المسؤولية الهامة بمقدار ما وصلهم من فيض. ولو فهم الناس وأصحاب الإمام أن جميع تلك الأمور هي مجرد أوهام وعلموا أنّ الأئمة (عليهم السلام) يسعون للوصول إلى تلك الخلافة، فهذا يستدعي القضاء على كل ما عاناه الرسول (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) والأصحاب المنتجبين من آلام وصعاب.
ليس الإمام (عليه السلام) ذاك الشخص الذي يُخدع بمكر المأمون، بل ردّ الإمام جميع خدع المأمون وانتهى الأمر بانكشافه وانكشاف خططه ومؤامراته، لذلك غضب المأمون وقال: إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه وقد آمنت سطوتي فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك فإن فعلت وإلا ضربت عنقك. فقال الرضا(عليه السلام): قد نهاني الله عزَّ وجلَّ أن ألقي بيدي إلى التهلكة فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك وأنا أقبل ذلك على أن لا أولي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سنة وأكون في الأمر مشيراً. فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهة منه (عليه السلام) لذلك. لاحظوا أن الإمام(عليه السلام) تمكن وبتدبير إلهي من الاستفادة من هذه الفرصة بما يخدم الأهداف الإلهية، فتمكن من كشف مؤامرات المأمون حتى في الأماكن المخفية والغائبة من الآخرين فانتهت كل الأمور بما فيه ضرر المأمون.
* مهدي طائب - بتصرّف