بسم الله الرحمن الرحيم
قال الطبري: روى الحسن بن معاذ الرضوي، قال: حدثنا لوط بن يحيى الأزدي، عن عمارة ابن زيد الواقدي، قال: حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين وكان حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر (عليهما السلام)، فقال: جعفر في بعض كلامه: الحمد لله الذي بعث بالحق محمدا نبيا وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده، فالسعيد من اتبعنا والشقي من خالفنا، ومن الناس من يقول: إنه يتولانا وهو يتولى أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم فهو لم يسمع كلام ربنا ولم يعمل به. فأخبر مسيلمة بن عبد الملك أخاه فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة، فأنفذ بريدا إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه فأشخصنا إليه، فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام، ثم أذن لنا في اليوم الرابع فإذا هو قد قعد على سرير الملك وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطين متسلحين وقد نصب البرجاس حذاءه وأشياخ قومه يرمون. فلما دخل أبي وأنا خلفه ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه وجلسنا قليلا، فقال لأبي: يا أبا جعفر لو رميت مع أشياخ قومك الغرض وإنما أراد أن يضحك بأبي ظنا منه أنه يقصر، فلا يصيب الغرض لكبر سنه فيشتفي منه فاعتذر أبي وقال: إني قد كبرت فإن رأيت أن تعفيني فلم يقبل وقال: لا والذي أعزنا بدينه ونبيه، ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك فتناولها منه أبي وتناول منه الكنانة فوضع سهما في كبد القوس فرمى وسط الغرض فأثبته فيه، ثم رمى الثاني فشق فوق السهم الأول إلى نصله، ثم تابع حتى شق تسعة أسهم، فصار بعضها في جوف بعض وهشام يضطرب في مجلسه، فلم يتمالك أن قال: أجدت يا أبا جعفر فأنت أرمى العرب والعجم زعمت أنك قد كبرت كلا، ثم ندم على مقالته وتكنيته له.
وكان من تكبره لا يكني أحدا في خلافته، فأطرق إطراقة يرتئي فيه رأيا وأبي، واقف إزاءه ومواجه له وأنا وراء أبي فلما طال الوقوف غضب أبي وكان إذا نظر السماء نظر غضبان يتبين الغضب في وجهه فلما نظر هشام ذلك من أبي قال: إصعد يا محمد فصعد أبي السرير وصعدت فلما دنا من هشام قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي وأقبل على أبي بوجهه وقال: يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك ولله درك من علمك هذا الرمي وفي كم تعلمته فقال أبي: قد علمت أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي، ثم تركته فلما أراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت إليه، فقال: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت وما ظننت أن أحدا في أهل الأرض يرمي مثل هذا فأين رمي جعفر من رميك؟ فقال: إنا نتوارث الكمال والتمام والدين إذ أنزل الله تعالى على نبيه قوله (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) يعني ورضيت لكم الإسلام دينا، فالأرض ممن يكمل دينه لا تخلو، فكان ذلك علامة هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا. فلما سمع ذلك انقلبت عينه اليمنى فأحولت واحمر وجهه وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ثم أطرق هنيهة ورفع رأسه إلى أبي وقال: ألسنا بني عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟ فقال أبي: ونحن كذلك ولكن الله جل ثناؤه اختصنا بمكنون سره وخالص علمه ما لم يختص أحدا غيرنا. فقال: أليس الله بعث محمدا من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة ومن أين أورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ولما أنتم أنبياء؟
فقال أبي: من قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) فالذي أبداه فهو للناس كافة والذي لم يحرك به لسانه أمر الله تعالى أن يخصنا به دون غيرنا فلذلك كان يناجي به أخاه عليا دون أصحابه وأنزل الله تعالى قرآنا، فقال: (و تعيها أذن واعية) فقال له رسول الله: بين أصحابه سألت الله أن يجعلها أذنك يا على ولذلك قال علي بالكوفة: علمني رسول الله ألف باب من العلم، ينفتح من كل باب ألف باب، خصه رسول الله من مكنون علمه ما خصه الله به فصار إلينا وتوارثناه من دون قومنا. فقال له هشام: إن عليا كان يدعي علم الغيب والله لم يطلع على غيبه أحدا، فكيف ادعى ذلك ومن أين. فقال أبي: إن الله أنزل على نبيه كتابا بين فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) وفي قوله تعالى: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) وفي قوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وفي قوله (وما من غائبة في السماء و الأرض إلا في كتاب مبين) وأوحى إلى نبيه أن لا يبقى في غيبه وسره ومكنون علمه شيئا إلا ناجاه به وأمر أن يؤلف القرآن من بعده ويتولى غسله وتحنيطه وتكفينه من دون قومه، وقال لأهله وأصحابه حرام أن تنظروا إلى عورتي غير أخي علي فهو مني وأنا منه له ما لي وعليه ما علي وهو قاضي ديني ومنجز وعدي. وقال لأصحابه: علي يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي، ولذلك قال لأصحابه: أقضاكم علي. وقال عمر بن الخطاب: لو لا علي لهلك عمر أفيشهد له عمر ويجحد غيره. فأطرق هشام ثم رفع رأسه وقال: سل حاجتك فقال: خلفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي فقال: قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم فلا تقم أكثر من يومك فاعتنقه أبي وودعه وفعلت فعله، ونهض ونهضت وخرجنا إلى بابه فإذا على بابه ميدان وفيه أناس قعود في آخره فسأله عنهم أبي فقال الحجاب هؤلاء القسيسون والرهبان وهذا عالم لهم يقعد لهم في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فيفتيهم. فلف أبي رأسه بفاضل رداءه وفعلت فعله وأقبل حتى قعد عندهم وقعدت وراء أبي فرفع الخبر إلى هشام فأمر بعض غلمانه أن يحضره وينظر ما يصنع فأتى ومعه عدد من المسلمين فأحاطوا بنا وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بعصابة صفراء فتوسطنا وقام إليه جميع الحاضرين مسلمين فتوسط صدر المجلس قعد فيه وأحاطوا به وأبي وأنا بينهم فأدار نظره فيهم فقال لأبي: أمنا أم من هذه الأمة المرحومة؟ فقال أبي: بل من هذه الأمة المرحومة فقال: أمن علمائها أم من جهالها؟
فقال أبي: لست من جهالها فاضطرب وقال: أسألك؟ فقال عليه السلام: سل. قال: من أين ادعيتم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون وما الدليل، وهل من شاهد لا يجهل. قال أبي: الدليل الذي لا ينكر مشاهدة الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث... فاضطرب اضطرابا شديدا وقال: كلا زعمت أنك لست من علمائها؟ فقال أبي: قلت لست من جهالها. قال: فأسألك عن مسألة أخرى قال: سل قال: من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبدا غضة طرية وما الدليل من المشاهدات؟ قال: إن الفرات غض طري موجود غير معدوم لا ينقطع... فاضطرب اضطرابا شديدا وقال: كلا زعمت أنك لست من علمائها؟ فقال أبي قلت لست من جهالها. فقال أسألك عن مسألة أخرى قال: سل، قال: أسألك عن ساعة من ساعات الدنيا ليست من الليل ولا من النهار قال أبي: هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يهدأ فيها المبتلى ويرقد فيها الساهر ويفيق فيها المغمى عليه جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين وفي الآخرة للعاملين - لها -، وجعلها دليلا واضحا وحجة بالغة على الجاحدين والتاركين، فصاح صيحة ثم قال: بقيت مسألة واحدة لأسألنك عنها ولا تهتدي إلى الجواب عنها أبدا..
قال أبي: فسل إنك حانث في قولك. فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما مائة وخمسين سنة والآخر خمسين سنة في الدنيا. فقال أبي: ذلك عزير وعزرة ولدا في يوم واحد ولما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاما مر عزير على حماره بقرية في أنطاكية وهي خاوية على عروشها قال: (أنى يحى هذه الله بعد موتها) وكان الله قد اصطفاه وهداه، فلما قال ذلك، غضب الله عليه وأماته مائة عام، ثم بعثه على طعامه وحماره وشرابه وعاد إلى داره وأخوه عزرة لا يعرفه فاستضافه وبعث إلى أولاده وأحفاده وقد شاخوا وعزير شاب في سن خمس وعشرين وهو يذكر عزرة بنفسه فيقول له ما رأيت شابا أعلم بعزير منك فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض. فقال عزير لأخيه أنا عزير سخط الله تعالى علي بقول قلته فأماتني مائة سنة، ثم بعثني ليزدادوا بذلك يقينا، إن الله على كل شيء قدير، وهذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده لي كما كان بقدرته فأعاشه الله بينهم تمام الخمسين وقبضه الله وأخاه في يوم واحد. فنهض عند ذلك عالم النصارى وقاموا معه فقال: جئتموني بأعلم مني فأقعدتموه بينكم ليفضحني ويعلم المسلمون بأن لهم من يحيط بعلومنا وعنده ما لا نحيط به فلا والله لا كلمتكم ولا قعدت لكم إن عشت سنة. فتفرقوا وأبي قاعد مكانه، ورفع ذلك الرجل الخبر إلى هشام فإذا رسوله بالجائزة والأمر بانصرافنا إلى المدينة من وقتنا، فلا نبقى لأن أهل الشام ماجوا وهاجوا فيما جرى بين أبي وعالم النصارى. فركبنا دوابنا منصرفين وقد سبقنا بريد هشام إلى عامل مدين في طريقنا إلى المدينة يذكر له أن ابن أبي تراب الساحر محمد بن على وابنه جعفر الكذابين - بل هو الكذاب لعنه الله - فيما يظهران من الإسلام قد وردا علي، فلما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان وتقربا إليهم بالنصرانية فكرهت النكال بهما لقرابتهما فإذا مر بانصرافهما عليكم، فليناد في الناس برئت الذمة ممن بايعهما وشاراهما وصافحهما وسلم عليهما ورأى أمير المؤمنين قتلهما ودوابهما وغلمانهما لارتدادهما والسلام. فلما ورد البريد إلى مدين وشارفناها بعده قدم أبي غلمانه ليشتروا لدوابنا علفا ولنا طعاما فلما قربوا من المدينة أغلق أهلها الباب في وجوههم وشتموهم وذكروا بالشتم عليا وقالوا لهم لا نزول لكم عندنا ولا بيع ولا شراء فأنتم كفار مشركون. فوقف غلماننا إلى الباب حتى انتهينا إليهم فكلمهم أبي ولين لهم القول، قال: اتقوا الله فلسنا كما بلغكم فأجابوه بمثل ما أجابوا الغلمان. فقال لهم أبي: هبونا كما قلتم فافتحوا الباب وبايعونا كما تبايعون اليهود والنصارى والمجوس.
فقالوا: أنتم أشر منهم لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم لا تؤدون. فقال لهم أبي: إفتحوا الباب وخذوا منا الجزية كما تأخذونها منهم. فقالوا: لا نفتح ولا كرامة حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعا وتموت دوابكم تحتكم. فوعظهم أبي فازدادوا عتوا فثنى أبي رجله عن سرجه وقال لي مكانك يا جعفر لا تبرح فصعد الجبل المطل على مدينة مدين وهم ينظرون ما يصنع فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة ووضع إصبعيه في أذنيه ونادى (و إلى مدين أخاهم شعيبا) إلى قوله (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) نحن والله بقية الله في أرضه فأمر الله تعالى ريحا سوداء مظلمة فهبت واحتملت صوته فألقته في أسماع الرجال والنساء والصبيان والإماء فما بقي أحد من أهل مدين إلا صعد السطح من الفزع وفيمن صعد شيخ كبير السن، فلما نظر الجبل صرخ بأعلى صوته اتقوا الله يا أهل مدين فإنه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب حين دعا على قومه فإن لم تفتحوا له الباب نزل بكم العذاب وقد أعذر من أنذر. ففتحوا لنا الباب وأنزلونا وكتب العامل بجميع ذلك إلى هشام فارتحلنا من مدين إلى المدينة في اليوم الثاني. وكتب هشام إلى عامله بأن يأخذوا الشيخ ويدفنوه في حفيرة ففعلوا وحملوه وكتب أيضا إلى عامله بالمدينة أن يحتالوا في سم أبي بطعام أو شراب ومضى هشام ولم يتهيأ له.
موسوعة شهادة المعصومين (ع)
قال الطبري: روى الحسن بن معاذ الرضوي، قال: حدثنا لوط بن يحيى الأزدي، عن عمارة ابن زيد الواقدي، قال: حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين وكان حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر، وابنه جعفر (عليهما السلام)، فقال: جعفر في بعض كلامه: الحمد لله الذي بعث بالحق محمدا نبيا وأكرمنا به، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده، فالسعيد من اتبعنا والشقي من خالفنا، ومن الناس من يقول: إنه يتولانا وهو يتولى أعداءنا ومن يليهم من جلسائهم وأصحابهم فهو لم يسمع كلام ربنا ولم يعمل به. فأخبر مسيلمة بن عبد الملك أخاه فلم يعرض لنا حتى انصرف إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة، فأنفذ بريدا إلى عامل المدينة بإشخاص أبي وإشخاصي معه فأشخصنا إليه، فلما وردنا دمشق حجبنا ثلاثة أيام، ثم أذن لنا في اليوم الرابع فإذا هو قد قعد على سرير الملك وجنده وخاصته وقوف على أرجلهم سماطين متسلحين وقد نصب البرجاس حذاءه وأشياخ قومه يرمون. فلما دخل أبي وأنا خلفه ما زال يستدنينا منه حتى حاذيناه وجلسنا قليلا، فقال لأبي: يا أبا جعفر لو رميت مع أشياخ قومك الغرض وإنما أراد أن يضحك بأبي ظنا منه أنه يقصر، فلا يصيب الغرض لكبر سنه فيشتفي منه فاعتذر أبي وقال: إني قد كبرت فإن رأيت أن تعفيني فلم يقبل وقال: لا والذي أعزنا بدينه ونبيه، ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك فتناولها منه أبي وتناول منه الكنانة فوضع سهما في كبد القوس فرمى وسط الغرض فأثبته فيه، ثم رمى الثاني فشق فوق السهم الأول إلى نصله، ثم تابع حتى شق تسعة أسهم، فصار بعضها في جوف بعض وهشام يضطرب في مجلسه، فلم يتمالك أن قال: أجدت يا أبا جعفر فأنت أرمى العرب والعجم زعمت أنك قد كبرت كلا، ثم ندم على مقالته وتكنيته له.
وكان من تكبره لا يكني أحدا في خلافته، فأطرق إطراقة يرتئي فيه رأيا وأبي، واقف إزاءه ومواجه له وأنا وراء أبي فلما طال الوقوف غضب أبي وكان إذا نظر السماء نظر غضبان يتبين الغضب في وجهه فلما نظر هشام ذلك من أبي قال: إصعد يا محمد فصعد أبي السرير وصعدت فلما دنا من هشام قام إليه واعتنقه وأقعده عن يمينه ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي وأقبل على أبي بوجهه وقال: يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك ولله درك من علمك هذا الرمي وفي كم تعلمته فقال أبي: قد علمت أهل المدينة يتعاطونه فتعاطيته أيام حداثتي، ثم تركته فلما أراد أمير المؤمنين مني ذلك عدت إليه، فقال: ما رأيت مثل هذا الرمي قط مذ عقلت وما ظننت أن أحدا في أهل الأرض يرمي مثل هذا فأين رمي جعفر من رميك؟ فقال: إنا نتوارث الكمال والتمام والدين إذ أنزل الله تعالى على نبيه قوله (اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) يعني ورضيت لكم الإسلام دينا، فالأرض ممن يكمل دينه لا تخلو، فكان ذلك علامة هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا. فلما سمع ذلك انقلبت عينه اليمنى فأحولت واحمر وجهه وكان ذلك علامة غضبه إذا غضب ثم أطرق هنيهة ورفع رأسه إلى أبي وقال: ألسنا بني عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟ فقال أبي: ونحن كذلك ولكن الله جل ثناؤه اختصنا بمكنون سره وخالص علمه ما لم يختص أحدا غيرنا. فقال: أليس الله بعث محمدا من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة ومن أين أورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ولما أنتم أنبياء؟
فقال أبي: من قوله تعالى: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) فالذي أبداه فهو للناس كافة والذي لم يحرك به لسانه أمر الله تعالى أن يخصنا به دون غيرنا فلذلك كان يناجي به أخاه عليا دون أصحابه وأنزل الله تعالى قرآنا، فقال: (و تعيها أذن واعية) فقال له رسول الله: بين أصحابه سألت الله أن يجعلها أذنك يا على ولذلك قال علي بالكوفة: علمني رسول الله ألف باب من العلم، ينفتح من كل باب ألف باب، خصه رسول الله من مكنون علمه ما خصه الله به فصار إلينا وتوارثناه من دون قومنا. فقال له هشام: إن عليا كان يدعي علم الغيب والله لم يطلع على غيبه أحدا، فكيف ادعى ذلك ومن أين. فقال أبي: إن الله أنزل على نبيه كتابا بين فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) وفي قوله تعالى: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) وفي قوله (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وفي قوله (وما من غائبة في السماء و الأرض إلا في كتاب مبين) وأوحى إلى نبيه أن لا يبقى في غيبه وسره ومكنون علمه شيئا إلا ناجاه به وأمر أن يؤلف القرآن من بعده ويتولى غسله وتحنيطه وتكفينه من دون قومه، وقال لأهله وأصحابه حرام أن تنظروا إلى عورتي غير أخي علي فهو مني وأنا منه له ما لي وعليه ما علي وهو قاضي ديني ومنجز وعدي. وقال لأصحابه: علي يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي، ولذلك قال لأصحابه: أقضاكم علي. وقال عمر بن الخطاب: لو لا علي لهلك عمر أفيشهد له عمر ويجحد غيره. فأطرق هشام ثم رفع رأسه وقال: سل حاجتك فقال: خلفت أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي فقال: قد آمن الله وحشتهم برجوعك إليهم فلا تقم أكثر من يومك فاعتنقه أبي وودعه وفعلت فعله، ونهض ونهضت وخرجنا إلى بابه فإذا على بابه ميدان وفيه أناس قعود في آخره فسأله عنهم أبي فقال الحجاب هؤلاء القسيسون والرهبان وهذا عالم لهم يقعد لهم في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فيفتيهم. فلف أبي رأسه بفاضل رداءه وفعلت فعله وأقبل حتى قعد عندهم وقعدت وراء أبي فرفع الخبر إلى هشام فأمر بعض غلمانه أن يحضره وينظر ما يصنع فأتى ومعه عدد من المسلمين فأحاطوا بنا وأقبل عالم النصارى وقد شد حاجبيه بعصابة صفراء فتوسطنا وقام إليه جميع الحاضرين مسلمين فتوسط صدر المجلس قعد فيه وأحاطوا به وأبي وأنا بينهم فأدار نظره فيهم فقال لأبي: أمنا أم من هذه الأمة المرحومة؟ فقال أبي: بل من هذه الأمة المرحومة فقال: أمن علمائها أم من جهالها؟
فقال أبي: لست من جهالها فاضطرب وقال: أسألك؟ فقال عليه السلام: سل. قال: من أين ادعيتم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون وما الدليل، وهل من شاهد لا يجهل. قال أبي: الدليل الذي لا ينكر مشاهدة الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث... فاضطرب اضطرابا شديدا وقال: كلا زعمت أنك لست من علمائها؟ فقال أبي: قلت لست من جهالها. قال: فأسألك عن مسألة أخرى قال: سل قال: من أين ادعيتم أن فاكهة الجنة أبدا غضة طرية وما الدليل من المشاهدات؟ قال: إن الفرات غض طري موجود غير معدوم لا ينقطع... فاضطرب اضطرابا شديدا وقال: كلا زعمت أنك لست من علمائها؟ فقال أبي قلت لست من جهالها. فقال أسألك عن مسألة أخرى قال: سل، قال: أسألك عن ساعة من ساعات الدنيا ليست من الليل ولا من النهار قال أبي: هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يهدأ فيها المبتلى ويرقد فيها الساهر ويفيق فيها المغمى عليه جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين وفي الآخرة للعاملين - لها -، وجعلها دليلا واضحا وحجة بالغة على الجاحدين والتاركين، فصاح صيحة ثم قال: بقيت مسألة واحدة لأسألنك عنها ولا تهتدي إلى الجواب عنها أبدا..
قال أبي: فسل إنك حانث في قولك. فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما مائة وخمسين سنة والآخر خمسين سنة في الدنيا. فقال أبي: ذلك عزير وعزرة ولدا في يوم واحد ولما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين عاما مر عزير على حماره بقرية في أنطاكية وهي خاوية على عروشها قال: (أنى يحى هذه الله بعد موتها) وكان الله قد اصطفاه وهداه، فلما قال ذلك، غضب الله عليه وأماته مائة عام، ثم بعثه على طعامه وحماره وشرابه وعاد إلى داره وأخوه عزرة لا يعرفه فاستضافه وبعث إلى أولاده وأحفاده وقد شاخوا وعزير شاب في سن خمس وعشرين وهو يذكر عزرة بنفسه فيقول له ما رأيت شابا أعلم بعزير منك فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض. فقال عزير لأخيه أنا عزير سخط الله تعالى علي بقول قلته فأماتني مائة سنة، ثم بعثني ليزدادوا بذلك يقينا، إن الله على كل شيء قدير، وهذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده لي كما كان بقدرته فأعاشه الله بينهم تمام الخمسين وقبضه الله وأخاه في يوم واحد. فنهض عند ذلك عالم النصارى وقاموا معه فقال: جئتموني بأعلم مني فأقعدتموه بينكم ليفضحني ويعلم المسلمون بأن لهم من يحيط بعلومنا وعنده ما لا نحيط به فلا والله لا كلمتكم ولا قعدت لكم إن عشت سنة. فتفرقوا وأبي قاعد مكانه، ورفع ذلك الرجل الخبر إلى هشام فإذا رسوله بالجائزة والأمر بانصرافنا إلى المدينة من وقتنا، فلا نبقى لأن أهل الشام ماجوا وهاجوا فيما جرى بين أبي وعالم النصارى. فركبنا دوابنا منصرفين وقد سبقنا بريد هشام إلى عامل مدين في طريقنا إلى المدينة يذكر له أن ابن أبي تراب الساحر محمد بن على وابنه جعفر الكذابين - بل هو الكذاب لعنه الله - فيما يظهران من الإسلام قد وردا علي، فلما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان وتقربا إليهم بالنصرانية فكرهت النكال بهما لقرابتهما فإذا مر بانصرافهما عليكم، فليناد في الناس برئت الذمة ممن بايعهما وشاراهما وصافحهما وسلم عليهما ورأى أمير المؤمنين قتلهما ودوابهما وغلمانهما لارتدادهما والسلام. فلما ورد البريد إلى مدين وشارفناها بعده قدم أبي غلمانه ليشتروا لدوابنا علفا ولنا طعاما فلما قربوا من المدينة أغلق أهلها الباب في وجوههم وشتموهم وذكروا بالشتم عليا وقالوا لهم لا نزول لكم عندنا ولا بيع ولا شراء فأنتم كفار مشركون. فوقف غلماننا إلى الباب حتى انتهينا إليهم فكلمهم أبي ولين لهم القول، قال: اتقوا الله فلسنا كما بلغكم فأجابوه بمثل ما أجابوا الغلمان. فقال لهم أبي: هبونا كما قلتم فافتحوا الباب وبايعونا كما تبايعون اليهود والنصارى والمجوس.
فقالوا: أنتم أشر منهم لأن هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم لا تؤدون. فقال لهم أبي: إفتحوا الباب وخذوا منا الجزية كما تأخذونها منهم. فقالوا: لا نفتح ولا كرامة حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعا وتموت دوابكم تحتكم. فوعظهم أبي فازدادوا عتوا فثنى أبي رجله عن سرجه وقال لي مكانك يا جعفر لا تبرح فصعد الجبل المطل على مدينة مدين وهم ينظرون ما يصنع فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة ووضع إصبعيه في أذنيه ونادى (و إلى مدين أخاهم شعيبا) إلى قوله (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) نحن والله بقية الله في أرضه فأمر الله تعالى ريحا سوداء مظلمة فهبت واحتملت صوته فألقته في أسماع الرجال والنساء والصبيان والإماء فما بقي أحد من أهل مدين إلا صعد السطح من الفزع وفيمن صعد شيخ كبير السن، فلما نظر الجبل صرخ بأعلى صوته اتقوا الله يا أهل مدين فإنه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب حين دعا على قومه فإن لم تفتحوا له الباب نزل بكم العذاب وقد أعذر من أنذر. ففتحوا لنا الباب وأنزلونا وكتب العامل بجميع ذلك إلى هشام فارتحلنا من مدين إلى المدينة في اليوم الثاني. وكتب هشام إلى عامله بأن يأخذوا الشيخ ويدفنوه في حفيرة ففعلوا وحملوه وكتب أيضا إلى عامله بالمدينة أن يحتالوا في سم أبي بطعام أو شراب ومضى هشام ولم يتهيأ له.
موسوعة شهادة المعصومين (ع)