بسم الله الرحمن الرحيم
الإشكال الأوّل:
إذا كانت الشعائر الحسينية عادات وتقاليد، وتمثّل موروثاً بشريّاً، فمن المعروف أنّ العادات والتقاليد قد تتغيّر أو تُلغى بحسب ما يمليه التطوّر البشري; لأنّ العادات والتقاليد تتأثّر بالبيئة وبالحضارات الأُخرى.
والذين يطرحون هذه الإشكالات يطرحون بعض الشعائر الحسينية، ويربطونها ببعض الطقوس التي كانت تمارسها الأُمم الأُخرى والحضارات الدينية والحضارات التي لا ترتبط بدين معيّن.
الإشكال الثاني:
البعض يرى أنّ الشعائر الحسينية تعتبر مجموعات أُسطورية ترسمها وتشكّلها وتنتجها وتخلقها المخيّلة الإنسانية المثاليّة أو النزعة في الإنسان التي تنزع لحب البطل المثالي أو الشخصيّة النموذجية المثاليّة التي تجذب الجمهور إليها.
وهم عندما يطرحون هذا الإشكال لا يطرحونه باعتباره أمراً سلبياً محضاً، وإنّما يطرحونه باعتباره يحمل بعض الإيجابيات التي يتربّى من خلالها الجمهور الذي يستفيد من سلوكيات هذه الشخصية المثاليّة الأُسطورية، ويتعلّم منها النبل والشجاعة والإيثار...
الإشكال الثالث:
ومن الإشكالات التي تطرحها مدارس علم النفس الحديث، هي ظاهرة الحزن والبكاء واللطم، وبقية المظاهر في الشعائر الحسينية، حيث تقول: أنّ هذه الشعائر ظاهرة سلبية على المستوى الفكري والنفسي والاجتماعي; لأنّها تكبت المجتمع وتسبّب العُقَد النفسيّة وتشلّ حيوية ونشاط النفس وتقتل روح الأمل وتشيع حالة اليأس والقنوط والإحباط في المجتمع، ولها آثار سلبية على مستوى الروح العقل.
الإشكال الرابع:
نحن لدينا رسالة نشر الإسلام، ونشر مذهب أهل البيت عليهم السلام، ومعارف الإسلام وأهل البيت عليهم السلام، فإذا كانت هذه اللغة لغة غير موصلة لمعارف أهل البيت عليهم السلام بل هي لغة مشوّهة وغير مقبولة، ولا يمكن أن يتفاعل معها الآخرون، بل إنّهم ينفرون منها ويستوحشون، فينبغي البحث عن وسائل ناجحة لنشر الإسلام ومعارف أهل البيت عليهم السلام، وإجراء إصلاحات في الخطاب الديني وخطاب مدرسة أهل البيت عليهم السلام.
الإشكال الخامس:
هذه الطقوس تعتبر نوع من العقوبة التي يوقعها الإنسان على نفسه ـ على نحو التكفير عن الذنب ـ لأنّ أتباع مذهب أهل البيت عليهم السلام يشعرون بالتقصير في نصرة الحسين عليه السلام وتخاذلهم في الوقوف معه، ولذلك فهم يوقعون بأنفسهم العقوبات البدنيّة والنفسيّة المتمثّلة في إحياء الشعائر الحسينية، ويستشهدون بثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي.
الإشكال السادس:
أنّ الشعائر الحسينية لا تواكب الزمان ولا تناسب العصر، ولماذا لا يتم تجديد الطقوس ونبذ الأساليب القديمة ودفنها في مقابر التاريخ؟! وقد يطرح بعض أبنائنا هذا الإشكال. وهناك اشكالات أُخرى، ولكنّنا نقتصر على هذا المقدار.
هذه الإشكالات لا تختص بالشعائر الحسينية
هذه الإشكالات والتساؤلات ليست مطروحة على الشعائر الحسينية فحسب، بل هي مطروحة على عموم الشعائر الدينية، والآن يناقشها المفكّرون في إطار حوار الحضارات، وفي قضايا العولمة، ولذلك اخترت هذه الإشكالات لتوطئة بحث العولمة، والكلام ليس في العادات والتقاليد; لأنّ العادات والتقاليد آليات، ولكن المهم هو الفكرة التي تتضمننها العادات والتقاليد.
لا يمكن فرض ثقافة على الثقافات الأُخرى وإلغاء خصوصياتها
ومن أهم ما يعترض مسألة العولمة هي قضية اختلاف العادات والتقاليد والهويات القومية واختلاف اللغة اللسانية واللغة غير اللسانية المتمثلة بأفعال معيّنة تحمل معان معيّنة; لأنّ الإنسان يحمل العديد من اللغات، وكل تصرف يعمله تعتبر لغة توصل مفهوماً معيّناً، فمثلا: القيام للشخص الآخر يدل على الاحترام، مع أنّ القيام فعل وليس كلاماً، واختلاف الأعراف في المجتمعات المختلفة قد يصل إلى مرحلة النقيض، فيكون الفعل حسناً عند أُمّة ويكون هذا الفعل نفسه قبيحاً عند أمّة أُخرى، ولا يمكن تذويب اللغات المختلفة في لغة واحدة، وتذويب الآداب المختلفة في أدب واحد، وحمل الهويات المختلفة على هوية واحدة، وقد واجه هذا الطرح العديد من الاعتراضات من قبل العديد من الأُمم التي تخاف على هويتها وعلى عاداتها وتقاليدها.
خطورة طرح العولمة
وطرح العولمة يهدّد هويتنا الوطنية والقومية والدينية والمذهبية والفكرية والروحية; لأنّ لكل أُمّة عاداتها وتقاليدها بغض النظر عن إيجابية هذه العادات والتقاليد أو سلبيتها، إلاّ أنّها موجودة عند كل أُمّة من الأُمم، وتعتبر جزءاً من هوية هذه الأُمّة، ومن المستحيل أن تعيش أُمّة من دون عادات وتقاليد، ولا توجد أُمّة من الأُمم لم تتأثّر بأُمم أُخرى.
من التقليد ما هو إيجابي، ومنه ما هو سلبي
إذن الأُمّة لابدّ لها من التقليد، والتقليد لا يعتبر سلبياً في كل الأحوال، بل هو إيجابي في بعض الأحوال، بل هو ضروري ولازم في أحوال أُخرى، كما في تقليد أهل التخصّص، حيث لابدّ من توزيع التخصّصات والمهمّات وفق رؤية علمية صحيحة يستطيع الإنسان أن يركن إليها، وذلك لأنّ الكائن البشري لا يستطيع أن يكون خبيراً في كل شيء.
وكلامنا هذا لا يقتصر على التقليد الفقهي، وإنّما يعم جميع التخصّصات; لأنّ التقليد منهج علمي شريطة أن يخضع لرؤية علمية سليمة، وموازين صحيحة تعتمد على كفاءة المقلَّد في تخصّصه، وأن لا تدخل المحسوبيات في تقييم الشخصيّات المقلَّدة.
والذي يرفض التقليد بشكل تام يؤدّي رفضه إلى سدّ الطريق أمام العلم لكي لا يأخذ مجراه بشكل صحيح، والقرآن إنّما ذمّ التقليد غير المبني على العلم، قال تعالى ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَة مِنْ نَذِير إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾1.
والنزوع إلى التقليد أمر فطري، والإنسان يقلّد مئات المرّات يومياً.
وإذا أخذ الشيعة بعض الآليات من الأُمم الأُخرى للتعبير عن حزنهم على سيد الشهداء وأهل البيت عليهم السلام، فإنّ ذلك ليس عيباً مادامت تلك الآلية صحيحة وسليمة، وهذا يقع في سياق التبادل الثقافي والحضاري بين الأُمم2.
إذن ليست المشكلة أنّ هذه الأساليب الحسينية مأخوذة من أُمم أُخرى أم أنّها مبتكرة من أبناء الطائفة، وإنّما المناط هو صحة الأُسلوب وعدم صحته، فكون هذا الطقس مأخوذ من الأتراك أو من الهنود أو من غيرهم لا يطعن في هذا الأُسلوب، وكل الأُمم تتأثّر بالأُمم الأُخرى في أساليبها، ولكن المهم هو أن تبقى المعاني والمُثُل والقيم والمباديء وإن اختلفت الأساليب.
هل البكاء والحزن ظاهرة سلبية وهدّامة؟
وأمّا الجواب عن الإشكال الذي يقول: إنّ الحزن ظاهرة هدّامة للمجتمع، وتفتقد للحيوية والنشاط والهمم، وتسبّب الكبت والتراجع النفسي والفكري والاجتماعي، وأنّها عُقدة تكفير الذنب.
فالجواب: إذا كان من يطرح هذا الإشكال بعض أبناء المسلمين من المذاهب الأُخرى، فنقول لهم: كما قلنا في مناسبات أخرى أن ظاهرة الحزن والبكاء ظاهرة قرآنية يحث عليها القرآن ـ كما بيّنا ـ في سورة البروج وسورة يوسف وفي قصّة قابيل وهابيل، بل إنّ القرآن الكريم يحثّ على البكاء ويمتدح النفس اللوّامة في بداية سورة القيامة المباركة، ويذمّ الفرح حتى اعتقد البعض أنّ الفرح مذموم بصورة مطلقة، وهذا ليس صحيحاً; لأنّ القرآن يرفض الفرح في بعض الحالات، كتلك التي تؤدّي إلى بطر الإنسان ونسيانه للآخرة، فالفرح مذموم، ولكن ليس بصورة مطلقة.
هذا، ووجود المجتمع المتديّن يحدّ من الجريمة نتيجة وجود الحساب الداخلي والرقابة الذاتية وتهذيب شراسة الشهوات والغرائز، وهذا الأمر يعتمد على التوازن بين الخوف والرجاء في النفس الإنسانية.
إذن من الخطأ رفض ظاهرة الحزن بشكل مطلق، بل إنّنا في أمسّ الحاجة لظاهرة الحزن والبكاء بالمقدار المطلوب وبشكل متوازن، ومن المعروف أنّ الطائفة الشيعية، الاثنا عشرية لديها محطّات أفراح تتمثل في إحياء مواليد الأئمة عليهم السلام، ونحن نفرح في هذه المحطّات، ويتم تعليق الزينة ونشر مظاهر السرور في مقابل الأحزان المتمثّلة في البكاء والحزن في الأيام التي توفّي فيها الأئمة عليهم السلام.
الشعائر الدينية تمثّل الإعلام الديني، والفرق بين الإعلام الديني والإعلام غير الديني هو أنّ الإعلام الديني إعلام مبدئي.
وإنّني أدعوا أبناءنا للتخصّص في المجال الإعلامي; لأنّه يشهد إفتقاراً كبيراً في الطاقة البشرية، في مجال الصحافة والأدب والقصّة والرواية والمسرح وغيرها، ولا يخفى عليكم أنّ الإعلام هو السلطة الرابعة، بل قد يكون هو السلطة الأولى الذي يقرر الحرب والسلم في كثير من الأحيان.
وما حدث في العراق في ذكرى الأربعين السابقة3 بتوفيق من الله وببركات الأئمة عليهم السلام في المجتمع المليوني الكبير الذي أقل ما يقال عنه أنّه يضمّ ثلاثة إلى خمسة ملايين شخص لزيارة سيد الشهداء عليه السلام، وكان تنظيمهم عجيب في ظلّ غياب السلطة والدولة والشرطة والكهرباء والخدمات المدنيّة بدون حدوث أيّ حوادث قتل أو سرقة أو تدافع، وقد تعجبت المحطّات الفضائية من التنظيم العجيب لزّوار سيد الشهداء عليه السلام، ونحن ننشر الإسلام عن طريق نشر مباديء وأهداف سيد الشهداء الحسين بن علي عليه السلام.
ونحن أحوج ما نكون إلى التقوِّي بالإعلام، وأن يكون لنا إعلام قوي نستطيع من خلاله إيصال أفكارنا، ونردّ على إشكالات المخالفين بصورة ناجحة ومؤثرة.
وأمّا دعوى الأُسطورية، فيفنّدها حقيقة الوقائع الموثّقة في كتب السير والتاريخ والحديث عن عظائم أحداث كربلاء وما رافقها من وقائع وشدّة الهول والمصائب النفسية المقرحة صبغت منها أعظم حدث يقرح ضمير الفطرة الإنسانية لم ولن تشهد البشرية له مثيل، والمصادر من الفريقين، بل ومن غير المسلمين ببابك، وعليك بالتتبع والتحرّي والفحص المضني.
آية الله الشيخ محمد سند - بتصرف
1 - الزخرف (43): 23.
2 - ومن شواهد كلام سماحة الشيخ (حفظه الله)، ما شهدته البحرين في السنوات الأخيرة من تطوير في إحياء الشعائر الحسينية، لا سيّما حملة الإمام الحسين عليه السلام للتبرع بالدم والموسم الحسيني، حيث إنّ هذه الأساليب مأخوذة من أُمم أُخرى، وتمّ إدراجها في الشعائر الحسينية بنجاح، حيث لاقت الكثير من الترحيب والتلقي الإيجابي من مختلف قطاعات المجتمع الذي نظر إليها على أنّها ظاهرة حضارية تعكس وعي المنتمين إلى ثقافة الإمام الحسين عليه السلام وخدمتهم لمجتمعهم.
3-سنة 2003.