بسم الله الرحمن الرحيم
يعتبر اليهود أنفسهم ورثة عرش سليمان عليه السلام، ويسعون من وراء هذا الادعاء
إثبات حق لهم في فلسطين، باعتبار أن مملكته كانت على هذه الأرض، ولهذا لا بد من
البحث عن أساس يربطهم بهذه الأرض، وهو عبارة عن انتسابهم لإبراهيم عليه السلام الذي
صدر له وعد إلهي في التوراة بوراثة نسله الأرض والبحث عن هيكل سليمان عليه السلام،
وقد استطاعوا أن يخدعوا سائر الناس بصحة هذين الدعويين، رغم عدم انتساب أكثرهم إلى
إبراهيم عليه السلام بالنسب، ولا إلى عقائده وعقائد الأنبياء في الدين.
الوعد بالأرض:
لقد ورد في التوراة وعد إلهي لإبراهيم عليه السلام بعد أن بشره بكثرة النسل،
قائلاً: "في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام (إبراهيم)
ميثاقاً قائلاً لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير "1
..
وبحسب التوراة أيضاً، فقد رزق إبراهيم ثمانية أولاد وهم إسماعيل بكره من جاريته
المصرية هاجر، وإسحاق من زوجته سارة، وستة أولاد من زوجته مقطورة التي تزوجها بعد
موت سارة وهم: زمران ويقشان ومدان ومديان ويشباق وشوح.
وسكن جميع أبنائه عليه السلام في تلك المنطقة عبر التاريخ 2 باستثناء
أبناء يعقوب بن إسحاق عليه السلام فلم يستقروا في المنطقة أبدا، بل هجروا واستعبدوا
في مصر اربعمئة وثلاثين سنة منذ أيام يعقوب عليه السلام وحتى خروج موسى عليه السلام
وإخراجه لهم منها، ولكنهم لم يدخلوها معه.
والسبب في ذلك أن وعد الله كان مشروطا بتقوى الله وطاعته، فقد قال في التوراة: "لأني
عرفته (إبراهيم) لكي يوصي به بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برا
وعدلا لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به"3.
وأما بنو إسرائيل فلم يتركوا موبقة إلا وفعلوها منذ عهد يعقوب عليه السلام ولهذا
كان جزاؤهم التشرد والتيه، رغم كثرة الأنبياء الذين أرسلوا إليهم، وهو ما تنبأ به
موسى عليه السلام من مصيرهم 4، وقال عزرا: … اللهم إني اخجل أخزى
من أن ارفع إلهي وجهي نحوك لأن ذنوبنا قد كثرت فوق رؤوسنا وآثامنا تعاظمت إلى
السماء، منذ أيام آبائنا نحن في إثم عظيم إلى هذا اليوم ولأجل ذنوبنا قد دفعنا نحن
وملوكنا وكهنتنا ليد ملوك الأراضي للسيف والسبي والنهب وخزي الوجوه كهذا اليوم
5.
وأسفار التوراة مملوءة بمثل ذلك، طيلة تاريخهم، وهو ما يؤكد عدم صحة ما تسالم عليه
المؤرخون من أن أرض فلسطين حق لهم، حتى قال ظفر الإسلام خان: "
إننا لا ننكر وعد الله لبني إسرائيل بفلسطين ولكن ذلك كان
في الأزمنة الخالية إلخ.."6.
فإن القانون الإلهي كما ذكرته التوراة نفسها هو أن طاعة الله تعالى سبب الثبات في
الأرض، وللتفصيل مقام آخر.
سليمان واليهود:
إن مملكة داود وسليمان عليه السلام لم تكن مملكة يهودية، كما يحلو لليهود أن
يصوروها، وجيشه وقوته أيضاً لم يكونا كذلك، وهو ما أخذ يؤكده الباحثون المعاصرون،
فمثلاً يقول البروفسور روبنسون: " إن مما يدعو إلى
الاهتمام أن القوة الأساسية لهذا الجيش الدائم [جيش داود] كانت تستمد من مصادر
أجنبية …. " ويعلق المؤرخ الإنكليزي جفريز قائلاً عن هذه الحقيقة أنه
بهذا "قد أسهم العرب بالنصيب الأكبر في إعطاء العرش
لسليمان .."7.
وأما الإسرائيليون فقد قال عنهم القرآن الكريم "واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك
سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا … "8، وأما جنوده فمن غير الإنس كثيرة
في القرآن الكريم.
ومما يؤكد عدم إسرائيلية حكمه عليه السلام علاقته بملكة سبأ ودعوتها وقومها إلى
الإيمان بالله حتى أسلمت معه لله رب العالمين.
كما أن أباه داود عليه السلام قد جعل أورشليم (يبوس) عاصمة ملكه لأنها لم تكن تنتمي
إلى أي سبط من أسباط بني إسرائيل 9، بل دخلها وسكن مع أهلها اليبوسيين أصحاب الأرض،
وقال في سفر يشوع: " وأما اليبوسيون الساكنون في أورشليم
فلم يقدر بنو يهوذا (ومنهم داود) على طردهم فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم
إلـى هـذا اليوم "10. وقد اشترى داود عليه السلام قطعة الأرض
التي يفترض بناء الهيكل عليها من اليبوسيين بالمال ودفع ثمنها لهم11 .
هيكل سليمان:
يتضح مما سبق أن الهيكل على فرض وجوده، ليس له أي علاقة باليهود، و لا هم ورثته،
لأنهم لا ينتسبون إلى يعقوب عليه السلام برابطة النسب، وإنما هم خليط من الأمم
الإسرائيلية والمتهودة، والأرض الموعودة في التوراة لنسل إبراهيم عليه السلام لا
لليهود، كما أنه مركز لعبادة الله تعالى، وليس قصر إمارة ولهذا وقع التعبير عنه في
التوراة بأنه هيكل الرب وما أشبه ذلك.
إلا أن أساس وجوده محل شك وريب لدى الباحثين، فمنذ نشأة علم الآثار وحتى اليوم
والباحثون لم يتركوا بقعة في أرض فلسطين مما يعرف بأرض يهوذا إلا ونقبوا فيها بحثا
عن الهيكل المزعوم، ولم يصلوا إلى أية نتيجة، رغم وصولهم إلى آثار مدينة يبوس، فقد
ظهرت آثار سابقة ولاحقة لعهد سليمان عليه السلام ولم يظهر له أي أثر ، ولا أي أثر12
من آثار الحضارة السليمانية الموهومة 13، كما لم يرد أي ذكر لمملكة
سليمان في السجلات المصرية والآشورية 14.
وهذا ما أوقع الباحثين في حيرة من أمرهم، فبالغ بعضهم في إنكار وجود مملكة سليمان،
بل سرى الشك إلى أصل وجوده عليه السلام فنسبه بعضهم إلى أنه رجل آشوري نسبه اليهود
إلى أنفسهم 15، أو أن مملكته كانت مجرد محمية مصرية لا حول لـها ولا
قـوة 16.
وقد ذهب بعضهم إلى التفتيش عن جغرافيا الحدث التوراتي خارج حدود فلسطين، عندما لم
يجد ما يثبت وجود الآثار فيها، دون الاستناد إلى الحقائق العلمية، بل بالتلاعب
بتراكيب الأسماء وقلب حروفها كما فعل الدكتور كمال الصليبي.
ولم يرد أي ذكر لهذا الهيكل المزعوم في النصوص الإسلامية، خصوصاً القرآن الكريم،
رغم أنه تعرض بالإشارة إلى الكثير من فضائل سليمان وأعماله، مما لم يرد في التوراة،
إلا أنه قد وردت كلمة "صرح" في الآية الكريمة:
﴿قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ﴾17،
في قضية لقائه عليه السلام بملكة سبأ، وهي لا تدل على هذا الهيكل، فإن من معاني
الصرح: القصر والأرض المنبسطة غير المسقوفة.
وفي المقام لا يصح إرادة القصر منها، فإنه إضافة إلى عدم مساعدة دلالة الآيات
الشريفة عليه - ولا مجال لبيان ذلك الآن – ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه
قال: "كان سليمان عليه السلام يطعم أضيافه اللحم بالحواري
وعياله الخشكار ويأكل هو الشعير غير منخول "18.
وأنه عليه السلام كان مع ما فيه من الملك يلبس الشعر، وإذا جن الليل شد يديه إلى
عنقه فلا يزال قائما حتى يصبح باكيا، وكان قوته سفائف الخرص يعملها بيده وإنما سأل
الملك ليقهر ملوك الكفر19.
وهذا ما لا يتناسب مع مظاهر العظمة، و الانشغال بمباهج الدنيا وبهارجها وحطامها،
مما ينشغل به الملوك الدنيويون.
وعلى هذا الأساس يكون ملكه عليه السلام مغايرا للملك المعهود بين الناس من المظاهر
الدنيوية لذلك كان جنوده من الإنس والجن والطير والريح وغير ذلك، مما لا تطاله يد
الإنسان بحسب العادة، وهو ما أدركته ملكته سبأ حين جاءتها رسالته فقالت لقومها:
﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً
أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾
فأرسلت هديتها لاختباره، وامتنع عن قبولها في إعلان واضح أن دعوته ليست للفتح وجمع
الكنوز والأموال،
﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ
خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ﴾،
ولما ظهرت لها حقيقة أمره
﴿قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾20.
وبهذا تكون قد استجيبت دعوته عليه السلام حين دعا الله تعالى بقوله:
﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا
يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾21،
ولو كان المراد بالملك ما هو المتعارف لما كانت الدعوة مستجابة فعلا، لإمكان أن
تكون كثير من الممالك والدول أوسع وأكبر وأقوى من دولته ومملكته بحسب المقاييس
المادية.
وهكذا تسقط الرواية التوراتية في هيكل سليمان المزعوم، كما سقط الكثير من رواياتها
غيره، ويجب البحث عن معالم دولة سليمان عليه السلام بمقاييس أخرى غير المقاييس
المادية المتعارفة، ويكون البحث عن آثار حضارية ومعمارية، ومن بينها البحث عن
الهيكل المزعوم بحثا عن سراب لا واقع له ولا حقيقة بعد عدم ورود أي ذكر لـه في غير
التوراة.
سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
1-سفر التكوين: 15 /
18.
2- يلاحظ تراجمهم في قاموس الكتاب المقدس.
3- سفر التكوين: 18 /160
4- سفر التثنية 32 / 19 – 26.
5- سفر عزرا 9 / 6- 7.
6- تاريخ فلسطين القديم ص 126.
7- تاريخ فلسطين القديم ص44 عن جفيز.
8- البقرة: 102
9- قاموس الكتاب المقدس ص135.
10- صموئيل الثاني 5/4-7.
11- سفر يشوع 15 /63.
12- سفر صموئيل الثاني 24/24-25.
13- آرام دمشق وإسرائيل ص150 وما بعدها.
14- العرب واليهود في التاريخ ص 545.
15- آرام دمشق وإسرائيل ص 149.
16-العرب واليهود في التاريخ ص 546.
17- المصدر السابق ص544.
18 -النمل: 44.
19- بحار الأنوار ج14 ص 70.
20- المصدر السابق ص13.
22- ص: 35.