بسم الله الرحمن الرحيم
حوارات الأئمة عليهم السلام مع بعض الملحدين والمنحرفين تعتبر مدرسة متكاملة لمن
أراد أن يتعلم أسلوب وطريقة الحوارات البناءة والمثمرة.. هذا عدا عن أن هذه
الحوارات تكشف عن كون الإمام عليه السلام حجة الله وحبل الله بين السماء والأرض،
ونقدم هنا إحدى هذه الملاحم الحوارية والتي جرت بين الإمام الصادق عليه السلام وأحد
كبار الملحدين في عصره وهو ابن أبي العوجاء..
فعن أحمد بن محمد بن خالد، عن محمد بن علي1 عن عبد الرحمن بن محمد بن
أبي هشام، عن أحمد بن محسن الميثمي قال: كنت عند أبي منصور المتطبب فقال: أخبرني
رجل من أصحابي قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبد الله بن المقفع في المسجد الحرام
فقال ابن المقفع، ترون هذا الخلق - وأومأ بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب
له اسم الانسانية إلا ذلك الشيخ الجالس - يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد عليهما
السلام - فأما الباقون فرعاع وبهائم2.
فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟ قال: لأني
رأيت عنده ما لم أره عندهم.
فقال له ابن أبي العوجاء: لابد من اختبار ما قلت فيه منه.
قال: فقال ابن المقفع: لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك3.
فقال: ليس ذا رأيك ولكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك4 إياه المحل
الذي وصفت.
فقال ابن المقفع: أما إذا توهمت علي هذا فقم إليه وتحفظ ما استطعت من الزلل ولا
تثني عنانك إلى استرسال5 فيسلمك إلى عقال6 وسمه مالك أو عليك؟
قال: فقام ابن أبي العوجاء وبقيت أنا وابن المقفع جالسين فلما رجع إلينا ابن أبي
العوجاء قال: ويلك يا ابن المقفع ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا
شاء ظاهرا ويتروح إذا شاء باطنا فهو هذا.
فقال له: وكيف ذلك؟ قال: جلست إليه فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: إن يكن
الامر على ما يقول هؤلاء - وهو على ما يقولون7 - يعني أهل الطواف - فقد
سلموا وعطبتم وان يكن الامر علي ما تقولون - وليس كما تقولون - فقد استويتم وهم.
فقلت له: يرحمك الله وأي شئ نقول وأي شئ يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحدا.
فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحدا؟ وهم يقولون: إن لهم معادا وثوابا وعقابا
ويدينون بأن في السماء إلها وأنها عمران وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد،
قال: فاغتنمتها8 منه فقلت له: ما منعه إن كان الامر كما يقولون أن يظهر
لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان، ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم
الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الايمان به؟
فقال لي: ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك: نشوءك ولم تكن وكبرك بعد صغرك
وقوتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك وسقمك بعد صحتك وصحتك بعد سقمك ورضاك بعد غضبك وغضبك
بعد رضاك وحزنك بعد فرحك وفرحك بعد حزنك وحبك بعد بغضك وبغضك بعد حبك وعزمك بعد
أناتك وأناتك9 بعد عزمك وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك ورغبتك بعد
رهبتك ورهبتك بعد رغبتك ورجاءك بعد يأس ويأسك بعد رجائك، وخاطرك10 بما
لم يكن في وهمك وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك11 وما زال يعدد علي قدرته
التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه.
* الكافي - الشيخ الكليني
1- هو محمد بن علي الكوفي أبو سمينة الصيرفي عينه الصدوق رحمة الله في كتاب
التوحيد في اسناد هذا الحديث. وابن أبي العوجاء هو عبد الكريم كان من تلامذة الحسن
البصري فانحرف عن التوحيد فقيل له تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟
فقال: ان صاحبي كان مخلطا كان يقول طورا بالقدر وطورا بالجبر وما اعلمه اعتقد مذهبا
دام عليه وابن المقفع هو عبد الله ابن المقفع الفارسي المشهور الماهر في صنعة
الانشاء والأدب كان مجوسيا أسلم على يد عيسى بن علي عم المنصور بحسب الظاهر وكان
كابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الأعمى على طريق الزندقة وهو الذي عرب كتاب كليلة
ودمنة.
2- الرعاع بالمهملات وفتح أوله: الاحداث الطغام الرذال. (في).
3- اي من العقائد.
4- احلالك بالمهملة وفي بعض النسخ بالمعجمة وهو تصحيف. (آت)
5- " ولا تثنى " نفي في معنى النهي وفي توحيد الصدوق لا تثن بصيغة النهي وهو أظهر و
على التقديرين مشتق من الثنى وهو العطف والميل أي: لا ترخ عنانك إليك بأن تميل إلى
الرفق والاسترسال والتساهل فتقبل منه بعض ما يلقى إليك. (آت).
6- " فيسلمك " من التسليم أو الاسلام " إلى عقال " وهي ككتاب ما يشد به يد البعير
أي: يعقلك بتلك المقدمات التي تسلمت منه بحيث لا يبقى لك مفر كالبعير المعقول. "
وسمه مالك أو عليك " على صيغة الامر أي اجعل على ما تريد ان تتكلم علامة لتعلم أي
شئ لك أو عليك ونقل عن الشيخ البهائي قدس سره: انه من السوم من سام البايع السلعة
يسوم سوما إذا عرضها على المشتري وسامها المشتري بمعنى استامها والضمير راجع إلى
الشيخ على طريق الحذف والايصال والموصول مفعوله. (آت)
7- اعترض (ع) الجملة الحالية بين الشرط والجزاء للإشارة إلى ما هو الحق ولئلا يتوهم
انه (ع) في شك من ذلك وقوله: " كلام ابن أبي العوجاء. (آت) وعطبتم أي: هلكتم. (في).
8- اي أعددت أقواله غنيمة إذ من مدعياته انفتح لي باب المناظرة معه عليه السلام.
9- اسم من التأني وفي بعض النسخ ( انائك ) بالنون والهمزة بمعنى الفتور والتأخر
والابطاء وفي بعضها ( ابائك ) بالباء الموحدة بمعنى الامتناع.
10- الخاطر من الخطور وهو حصول الشئ مشعورا به في الذهن. (آت)
11- حاصل استدلاله عليه السلام انك لما وجدت في نفسك آثار القدرة التي ليست من
مقدوراتك ضرورة علمت أن لها بارئا قادرا وكيف يكون غائبا عن الشخص من لا يخلو الناس
ساعة عن آثار كثيرة تصل منه إليه. (آت) * توجد الرواية في غير واحد من النسخ
المخطوطة الموجودة عندنا ورواها الصدوق (ره) في التوحيد قال: حدثنا علي بن أحمد بن
محمد بن عمران الدقاق قال: حدثنا محمد بن يعقوب باسناده رفع الحديث (ان ابن أبي
العوجاء. . .) وذكرها المجلسي في مرآة العقول وشرحها مجملا.