بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
يطالعنا بعض من يدعي العصرنة وحب الحياة، كلما سنحت له الفرصة، برأي أو تعليق يوجه
فيها سهامه السامة نحو بعض الشعائر الإسلامية أو نحو عادة حسنة لا تنفك عن صميم ما
يريده الدين وترتضيه شريعة الإسلام الخالدة والمقدسة.
ومن هذه الانتقادات ما يوجهه البعض لعادة زيارة المقابر فجر يومي عيد الفطر وعيد
الأضحى، حيث يقول هؤلاء إن هذه العادة سلبية جداً، لأنها لا تشيع إلا ثقافة الموت
والبؤس والحزن والمآسي، مع أن الله عزوجل قد جعل العيد للفرحة والبهجة وإشاعة
الأجواء الإيجابية.
فما هي هذه العادة؟ وهل نص عليها الشارع المقدس؟ وهل حقاً تشيع جواً من البؤس
والحزن؟ وما هو الرد على إشكال مدّعي ثقافة الحياة؟
عادة زيارة المقابر يوم العيد:
من العادات الشائعة في مجتمعنا الإسلامي أن العوائل وكل من له فقيد من الأرحام
خصوصاً إذا كان هذا الفقيد أباً أو أما أو أخاً أو أختاً أو زوجاً او زوجة أو إبناً
وإبنة، فإنه يذهب لزيارته وقراءة الفاتحة له يوم العيد عند وقت الفجر. ولذلك تجد
المقابر في المناطق الإسلامية وفي القرى والبلدات تكتظ بالزائرين، بين حامل للزهور،
وحامل للدموع.. والجميع يتوحدون في الدعاء وقراءة الفاتحة مع إهدائها لفقيدهم،
إضافة إلى قراءة الفاتحة لعموم الأموات في المقبرة المقصودة.
هل نص الشارع على هذه العادة؟
إذا لاحظنا أصل زيارة القبور بغض النظر عن كونها في العيد أو غيره فإنها بحسب
الشارع المقدس مشروعة، بل هي من المستحبات الأكيدة كما تدل على ذلك بعض النصوص، فعن
أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (زوروا موتاكم
فإنهم يفرحون بزيارتكم وليطلب أحدكم حاجته عند قبر أبيه وعند قبر أمه بما يدعو لهما)
.
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: عاشت فاطمة (عليها السلام) بعد
أبيها خمسة وسبعين يوما لم تر كاشرة ولا ضاحكة، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين:
الاثنين والخميس .
وعن جميل ابن دراج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في زيارة القبور قال: (إنهم
يأنسون بكم فإذا غبتم عنهم استوحشوا) .
ومن هنا، حتى لو لم يوجد نص يعين الاستحباب الخاص بالزيارة يومي العيد، ولكن هذه
الزيارة مشمولة للضابطة الاستحبابية العامة التي تؤكد على ثواب زيارة القبور مطلقاً،
ويومي العيد فرد من الأفراد. ولذلك فإن من المؤكد كون زيارة القبور عادة حسنة
يرضاها الله عزوجل.
هل زيارة القبور تعاكس ثقافة الحياة؟
إذا رأى شخص في زيارة القبور أنها تضرب ثقافة الحياة، فهذه مشكلته، وهذه رؤيته
المنحرفة للأمور، وإلا فإننا نستطيع لحاظها من منظار آخر.
ثم إن هذا النوع من الناس لا يتكلم بهذه الطريقة إلا لأنه يخاف من الموت ويفزع منه،
ويعتبره خسارة أبدية لكل ما يحاول جمعه من حطام الحياة الدنيا. فهو لا يريد أن
يرتبط بأي شئ يذكره بالموت، وبالتأكيد تعتبر المقبرة إحدى أهم هذه المذكرات، ولذلك
هو على الصعيد النفسي يرفض زيارة القبور سواء في العيد أو في غيره.
ثانياً: إن زيارة المقابر فيها تأكيد على أهم ما حاول الأنبياء والمرسلون عليهم
السلام تنبيه الناس عليه، وهو عدم الغفلة عن الموت والآخرة، وأن يبقى الإنسان
مرتبطاً بكل الأسباب التي تمنع تعلقه بالحياة الدنيا الفانية، كونه سيموت يوماً ما
لينتقل نهائياً إلى الحياة الباقية والخالدة.. وها هو خاتم الأنبياء صلى الله عليه
وآله قد نبه من الدنيا وحث على تذكر الآخرة بكلمات تهز الوجدان الإنساني حيث قال: (أكثروا
من ذكر هادم اللذات) ، وقد سئل (صلى الله عليه وآله) أي المؤمنين أكيس؟ فقال: (أكثرهم
ذكرا للموت وأشدهم له استعدادا) . أفهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله محارباً
لثقافة الحياة ومحباً لثقافة الموت!!!
ولكنه (صلى الله عليه وآله) كان يبين لنا حقائق الأمور، ويرشدنا إلى أسباب الفوز
بالنعيم الدائم، وعدم الانخداع بالحياة الفانية والقصيرة.
ثالثاً: تعد زيارة الأرحام من الأموات يوم العيد من أرقى مظاهر الوفاء والحب لهم.
وكأننا نقول لهم: إننا لن ننساكم، ففي يوم العيد وهو اليوم الذي نفرح فيه ونتزاور،
فإننا سنزوركم حاملين الهدايا والطعام اللذيد لكم! فما هو طعامهم يا ترى؟ إنها سورة
الفاتحة وسورة القدر والدعاء والدموع. إن الميت يفرح بهذه الزيارة، وتتحول أعمالنا
وتترجم في ذلك العالم إلى طعام برزخي، وإلى نور تحمله الملائكة إلى الميت فيتحول
قبره إلى فسحة مضيئة ومشرقة. هذا ما أخبرنا عنه رسل الغيب، الذين لولاهم لما تعرفنا
على هذه الحقائق والغيبيات. وبهذا عبر أمير المؤمنين (عليه السلام) حين قال: (زوروا
موتاكم فإنهم يفرحون بزيارتكم...).
وعن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الموتى تزورهم؟ قال: نعم،
قلت: فيعلمون بنا إذا أتيناهم؟ فقال: إي والله إنهم ليعلمون بكم ويفرحون بكم،
ويستأنسون إليكم) .
وعن الإمام الصادق ( عليه السلام ) - لما سأله داود الرقي: يقوم الرجل على قبر أبيه
وقريبه وغير قريبه هل ينفعه ذلك؟-قال: (نعم إن ذلك يدخل عليه كما يدخل على أحدكم
الهدية، يفرح بها)
بل إن في هذه الزيارة فائدة عظيمة للأحياء أيضاً، فقد قال الرضا (عليه السلام): (ما
من عبد زار قبر مؤمن فقرأ عنده إنا أنزلناه في ليلة القدر سبع مرات إلا غفر الله له
ولصاحب القبر) .
خاتمة:
بعد الذي تقدم يتبين معنا أنه لا إشكال من جهة الشرع في زيارة القبور حتى في أيام
العيد، وأن هذه الزيارة تندرج ضمن السياق الاستحبابي المؤكد لزيارة القبور وعدم
الغفلة عن ذكر الموت، وعدم نسيان أرحامنا الأموات من الدعاء والأعمال.. والزيارة
ولو لوقت محدود فجر العيد لا يؤثر بتاتاً على برنامج العيد فيما لو كان أحدنا قد
أعد العدة للذهاب في نزها أو زيارة أو ما شاكل ذلك.. ولم نجد أحداً قد أصيب بتحول
نفسي تشاؤمي جراء زيارة المقابر أيام العيد.. بل بالعكس، الإنسان يحتاج من وقت إلى
آخر إلى منبهات مؤثرة تمنع انجرافه نحو ملذات ومتع الحياة الدنيا الفاسدة.. وهذا ما
توفره زيارة المقابر وتذكر المعاد والمآل.
* فرع إعداد المواد في موقع المنبر