إعلم إنه قد اختلف الحكماء من اليونانيين وغيرهم من العلماء في أول ما صدر عن
المبدأ وفي تعيين أول المخلوقات، واختلف المتكلمون والمليّون أيضا في ذلك، واختلفت
الأخبار في ذلك أيضا فذهب أكثر الحكماء إلى أن أول المخلوقات العقل الأول، ثم العقل
الأول خلق العقل الثاني، والفلك الأول، وهكذا إلى أن انتهى إلى العقل العاشر فهو
خلق الفلك التاسع، وتقريره أن العقل الأول المخلوق لله له ثلاث جهات: وجود من
المبدأ الأول، ووجوب بالنظر إلى المبدأ الأول، وإمكان من حيث ذاته.
فكان بذلك الوجود سببا لعقل آخر وبذلك الوجوب سببا لنفس فلك، وبذلك الإمكان سببا
لجسم فلك، وعلى هذا النهج يصدر من العقل الثاني إلى العقل العاشر.
وذهب ثاليس الملطي إلى أن أول المخلوقات الماء، وذهب بليناس الحكيم إلى أن الله لما
أراد أن يخلق الخلق تكلم بكلمة فكانت تلك الكلمة علة الخلق، وحدث بعد هذه الكلمة
العقل، فدل بالفعل على الحركة، ودلت الحركة على الحرارة، والذي دلت عليه الروايات
الصحيحة الكثيرة أن أول مخلوق هو نور محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله)، ودل على
ذلك العقل السليم، فإن العلة في الأشرفية وكثرة الاعتناء والأحبية إلى الله توجب
التقدم في الخلقة، وفي بعض الروايات نوره ونورهم.
وإذ قد تحقق أن الحق هو كون أول المخلوقات هو نور النبي (صلى الله عليه وآله) أو
نوره وأنوارهم، فعلى كلا التقديرين (نقول) إن أول المخلوقات هو نور الحسين (عليه
السلام) لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (حسين مني وأنا من حسين) وفي رواية
أخرى (أنا من حسين وحسين مني) فهو أول مخلوق وأول ما صدر عن الأول.
فكل مخلوق تابع له فلا غرور أن يبكيه كل مخلوق، فإذا قلنا بكاه كل مخلوق فلا تتوهم
إنه مبالغة، أو استعارة تمثيلية أو خيال أو بكاء بلسان حال، أو فرض أو تقدير، لا بل
ذلك حقيقة في الباكين من جميع الموجودات، من نبي أو ملك أو فلك أو إنس أو جن أو
شيطان أو شمس أو جنة أو قمر.
لا أقول في هذا العالم فقط بل شموس جميع العوالم وأقمارها وسماواتها وأراضيها
وسكانها، ففي الرواية: خلق الله ألف ألف عالم وألف ألف آدم وأنتم آخر العوالم
والآدميين.
وهكذا بكاء كل شيء بكاء حقيقي وان كان في كل بحسبه، وليس مرادي من بكاء كل شيء
بكاؤه بعد قتله فقط، فإن بيان ذلك له أبواب على حدة تذكر بعد باب شهادته، بل المراد
بكاء كل شيء عليه قبل قتله، كما في زيارة شعبان، مروية عن القائم صلوات الله تعالى
عليه، (بكته السماء ومن فيها والأرض ومن عليها ولما يطأ لابتيها) * أي: مثنى لابة
وهي الأرض ذات الحجارة السوداء وليس المراد من بكاء كل شيء عليه قبل قتله حصول ذلك،
في الجملة، بل أقول: إنه حيث خلق أول ما خلق مظهرا للخشوع والخضوع، فكل خضوع
وانكسار في العالم فله وبه والذي هو في باطنه وحقيقته لله تعالى وحده الحي القيوم،
و كما قال الحكماء المحققين: كل انكسار وخضوع به وكل صوت فهو نوح الهواء وليس مرادي
من بكاء كل شيء على قتله إن ما قتل به خارج عن ذلك، لأنه المبكي عليه.
بل أقول كما قال ذلك الحكيم في قصيدته:
السيف يفري نحره باكيا*** والرمح ينعى قائما وينثني
فالنبل يـصـيبه ويبكي ***والرمح شائل للرأس يبكي
وليس مرادي من بكاء كل شيء على قتله - إن قتلته خارجون عن ذلك - بل هم بوجودهم
العام وماهيتهم يصيبهم الانكسار ويبكون عليه بحقائقهم وفطرتهم، ولكن بمقتضى صفات
أفعالهم الاختيارية التي بها خلدوا في النار، لا يبكون إلا إذا غفلوا، فيبكون
البكاء الظاهري الاختياري كمعرفة الله تعالى بالنسبة إلى الذين (جحدوا بها
واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) فكما أن الزنادقة والدهرية إذا غفلوا عن مقتضى
عنادهم وجحودهم نطقوا بالتوحيد، فكذلك أعداؤه وقاتلوه إذا غفلوا يبكون عليه سلام
الله عليه، بل إذا لم يغفلوا ولاحظوا عداوته وأرادوا قتله وسلب عياله غلبهم البكاء
بلا اختيار، كما ظهر ذلك من حالة ابن سعد حين أمر بقتله، وحالة السالب لقرطي فاطمة
بنت الحسين (عليه السلام)، وحالة يزيد لعنه الله لما أراد الأسارى فرقّ لهم، وقال:
قبّح الله ابن مرجانة.
* الشيخ جعفر التستري (قدسره)- بتصرّف