بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير يعني التوضيح وكشف الحجاب عن وجه الكلمة أو الكلام الّذي يدلىٰ به وفقاً
لقانون المحاورة وثقافة واُسلوب التفاهم ويكون معناه غير بيِّن وواضح. وعليه فإنّ
الألفاظ ذات المعاني الواضحة والبديهيّة ليست بحاجة الىٰ التفسير. كما انّ الكلام
الّذي يؤتىٰ به من باب الألغاز والتعمية والإبهام ومن سنخ الرموز فهو ليس مطابقاً
لثقافة المحاورة والتفاهم وله حكمه الخاصّ به. وعليه فإنّ اللفظ المفرد أو الجملة
الّتي لو تمّ التأمّل والتدبّر العقلائيّ فيها لظهرت مبادئها التصوّرية
والتصديقيّة، فهي بحاجة الىٰ التفسير، وتفسيرها عبارة عن: تحليل المبادئ المذكورة
لأجل الوصول الىٰ مقصود المتكلّم والمدلول البسيط والمركّب للفظ، والتفسير بهذا
المعنىٰ لايختصّ بالنصوص الدينيّة كالقرآن الكريم. وان تعارف اطلاق فنّ التفسير
علىٰ شرح وتوضيح القرآن خاصّة.
انّ تفسير القرآن وان كان له شروط وآداب عديدة، لكنّ أهمّ شروطه المحوريّة
والأساسيّة هو لزوم كون القرآن واضحاً من جهة حتّىٰ يكون لمن راجعه قابلاً للنظر
وللفهم، وكون المفسِّر بصيراً وقادراً علىٰ النظر من جهة اُخرىٰ لكي يكون مؤهّلاً
لرؤية معارفه وإدراكها، لانّ الشيء وان كان مثلاً كالشمس ساطعة منيرة، لكنّ الأعمىٰ
والأعور والأحول والأكمه إمّا أن لا يراها أصلاً أو لا يراها كما هي. والقرآن
الكريم وإن كان نوراً كما جاء في قوله تعالىٰ:
﴿يا أَيّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِن
رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيكُمْ نُوراً مُبِينا﴾1،
وقوله تعالىٰ:
﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ
الَّذِي أَنزَلْنَا﴾2.
وقوله تعالىٰ
﴿وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَه﴾3،
وقوله تعالىٰ
﴿قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِين﴾4
لكن هو نور ثقيل ووزين وليس ضعيفاً وتافهاً كما قال تعالىٰ:
﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيكَ قَوْلاً ثَقِيلا﴾5.
ولذلك فإنّه لأجل رؤية مثل هذا النور لاتوجد هناك وسيلة الاّ ان يمتلك الإنسان
البصر الحديد والرؤية العلميّة الثاقبة والعميقة. بل لقد قيل حول القرآن: "انّ
القرآن غريم لايقضىٰ دَينه وغريب لا يؤدّىٰ حقُّه"، لأنّ ذروة معارفه
وعمق مطالبه لاتمسّها إلاّ يد الفكر الوهّاج للمعصومين عليهم السلام:
﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ٭ فِي كِتَابٍ
مَكْنُونٍ ٭ لاَ يمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُون﴾6
ولأجل ذلك فقد تمّ أخذ قيد بمقدار طاقة البشر في تعريف مفهوم تفسير القرآن. وبناء
علىٰ ذلك فإنّه إضافة إلىٰ ضرورة كون المفسِّر بصيراً وواعياً فمن اللازم عليه إن
أراد أن يستلهم المزيد من معارف القرآن الكريم أن يرجع الىٰ المطهّرون وهم أهل بيت
العصمة والطهارة عليهم السلام، وفي البحوث التالية سيتّضح نطاق الرجوع الىٰ السنّة
الواردة عن المعصومين عليهم السلام.
وبناءً علىٰ ماتمّ تبيينه فانّ القرآن الكريم أوّلاً:
قابل للتفسير وثانياً: تفسيره ضروريّ. وقبول القرآن للتفسير يعني أنّه منزّه
من آفة التفريط في البداهة ومصون من خلل الافراط في التعمية، فلا هو بسيط وساذج
جدّاً بحيث لايحتاج إلىٰ تحليل المبادئ التصوّرية والتصديقيّة، ولا هو معقّد ومبهم
كاللغز بحيث يكون خارجاً عن قانون المحاورة والتفاهم وثقافة المحادثة وبعيداً عن
متناول يد التفسير. فمع انّ القرآن الكريم نور ولكنّ فيه معارف راقية وعميقة تجعله
قابلاً للتفسير، لأنّ كون القرآن نوراً يعني انّه في مقابل ظلمة الابهام، وليس في
مقابل كونه نظريّاً وعميقاً، حتّىٰ يكون النور بمعنىٰ البداهة الّتي تغني عن
التفسير.
وأمّا أنّ التفسير ضروريّ ولازم، وبدونه لايتيسّر لعامّة الناس إدراكه وفهمه فلأجل
ما قد اُشير اليه ضمناً، وسرُّ ذلك يوضّحه القرآن الكريم نفسُه، فالقرآن الكريم من
جهة يذكر لنفسه صفاتٍ يلزم منها ضرورة التفسير، وهو من جهة اُخرىٰ يطرح علوماً
لاتدرك بغير التفسير، فهو يمتدح نفسه بأنّه كلام رصين وقول وزين ومليء باللّب:
﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيكَ قَوْلاً ثَقِيلا﴾7
ويعتبر سلاسل الجبال أمام هيمنته وسيطرته تعالىٰ خاضعة خاشعة ومتصدّعة متفتّتة:
﴿لَوْ أَنزَلْنَا هٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ
لَرَأَيتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيةِ اللهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ
نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يتَفَكَّرُون﴾
8 كما يدعوا الجميع من الجنّ والإنس الىٰ المبارزة، ويعلن عجزهم في هذا
السجال الشاقّ الشامل:
﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ
عَلَىٰ أَن يأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْآنِ لاَ يأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ
كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا﴾9
فالظهور الاطلاقيّ في جملة "لا يأتون" يعني
انّ مجتمعي الإنس والجنّ جميعاً في هذا الصراع الحامي عاجزان وكليلان إلىٰ الأبد،
كما أنّه يعلم من قوله تعالىٰ:
﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا
فَاتَّقُوْا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِين﴾10
عجز وهزيمة المقاتلين الأبديّة في هذه المعركة.
من جهة اُخرىٰ فإنّ القرآن يطرح علوماً ومعارف خاصّة في الرؤية الكونيّة
التوحيديّة، والأسماء الحسنىٰ الإلهيّة، والصفات الأزليّة العليا، والقضاء والقدر،
والجبر والتفويض والإختيار، وتجرّد الروح، وعصمة الملائكة، وعصمة وطهارة الأنبياء
وأئمّة أهل البيت عليهم السلام، والإمامة والقيادة في النظام الإسلاميّ، والحكم
علىٰ العقائد والأديان الاُخرىٰ، وتوضيح سيرة الانبياء السلف وأوامر ونصائح
الأولياء الخلف وعشرات المسائل العميقة في الحكمة النظريّة والحكمة العمليّة الّتي
لايمكن ولا يتيسّر فهمها العامّ دون شرح وتوضيح العقلاء لها.
ولأجل ذلك فإنّ ضرورة تفسير القرآن تكون من جهتين:
إحداهما انّ الكتاب العلميّ العميق ذو الثقل النظريّ لايمكن بالتأكيد أن يدرك بغير
تفسير هذا من الناحية العلميّة. والثانية هي انّ كتاب الهداية إذا كانت رسالته
تؤكّد علىٰ:
﴿إِنَّ هٰذَا الْقُرْآنَ يهْدِي لِلَّتي هِي
أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ
لَهُمْ أَجْراً كَبِيرا﴾11
فإنّه لاوسيلة له لأجل هداية المجتمع البشريّ إلاّ بتوضيح مفاهيمه وتفسير معانيه
وهذا من الناحية العمليّة.
وانّ ضرورة تفسير القرآن للمتضلّعين والمتعمّقين في مختلف العلوم وأنواع الفنون
أوضح. ولذلك كان تفسير القرآن منذ عصر النزول والىٰ الآن سنّةً حسنةً متداولة
ورائجة بواسطة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وأهل بيته المعصومين الأطهار،
وكذلك الصحابة، والتابعين للصحابة، والقدماء والمتأخّرين من علماء الدين. وإن كان
بعض السابقين قد نأوا بأنفسهم عن تفسير القرآن وكانوا يحتاطون منه، لكنّ الجميع كان
يستفيد من التفسير بالمأثور، وفيما بينهم عدّة كانوا يمتنعون من إظهار الرأي،
وسيأتي تفصيل ذلك في فصل التفسير بالرأي، وحتّىٰ القرن الخامس الهجريّ لم يكن هناك
غير التفسير الروائيّ اُسلوب متداول آخر بعنوان انّه التفسير عن دراية وهو التفسير
الإجتهاديّ، سوىٰ ماكان علىٰ نحو الاجتهاد الأَدَبيّ واللغويّ الّذي كان مشهوداً في
آثار السلف.
آية الله الشيخ جوادي آملي
1-النساء: 174.
2-التغابن: 8.
3-الأعراف: 157.
4-المائدة: 15.
5-المزمّل: 5.
6- الواقعة، الآيات 77 ـ 79.
7-المزّمل: 5.
8- الحشر: 21.
9-الاسراء: 88.
10-البقرة: 24.
11-الاسراء: 9.