الجوع فيه فوائد للسالك في تكميل نفسه ومعرفته بربه لا تُحصى، فقد رُوي عن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم: "جَاهدوا أنفسَكم بالجوع والعطش، فانّ الأجر في ذلك
كأجر المجاهد في سبيل الله، وانّه ليس من عَملٍ أحبّ إلى الله من جوع وعطش" وقال
صلى الله عليه وآله وسلم: "وان استطعت أن يأتيكَ ملك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن
فافعل، فانك تدرك بذلك أشرف المنازل وتحلّ مع النبيين، وتفرح بقدوم روحك الملائكة،
ويُصلّي عليك الجبّار".
ومن فوائده:
صفاء القلب: لان الشَّبع يكثر البّخار في الدماغ فيعرض له شبه السُّكر فيُثقل القلب
بسببه عن الجريان في الأفكار وعن سرعة الانتقال، فيعمى القلب.ومنها: الانكسار والذل:
وزوال الأشَر والبطر والفرح الذي هو مبدأ الطغيان. منها: كسر الشهوات والقوى التي
تورث المعاصي وتوقع في الكبائر. منها: دفع النوم المضيع للعمر الذي هو رأس مال
الإنسان لتجارة الآخرة. تيَّسر جميع العبادات من وجوه أهونها قلة الاحتياج إلى
التخلي وتحصيل الطعام. منها: التمكن من بذل المال والإطعام والصلة والبر والحج
والزيارة. وبعد هذه المقدمة ينتج لك ان الصوم ليس تكليفاً بل تشريف يوجب شكراً
بحسبه، وترى أنّ المنّة لله تعالى في إيجابه، وتعرف مكانة نداء الله تعالى لك في
كتابه في آية الصوم، وتلّتذ من النداء إذا علمت أن نداءً ودعوة لك لدار الوصول،
وتعلم أنّ الحكمة في تشريعه قلة الأكل وتضعيف القوى وتضنّ أن تأكل في الليل ما
تركته في النهار بل وأزيد. وانك إذا عرفت شَرَفَ ما أُريد من الصوم لك ان تجتهد في
تصحيحه والإخلاص فيه لتسلم لك فوائده. وانك إذا عرفت المراد من جعل الصوم وإيجابه
تعرف بذلك ما يكدّره ويُصفِّيه، وتعلم معنى ما ورد فيه ان الصوم ليس عن الطعام
والشراب فقط، "فإذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك". حتى ذكر في بعضها الجلد
والشعر.وان تعرف أن النية بهذا العمل لا يليق ان يكون لدفع العقاب فقط، ولا يليق ان
يكون لجلب ثواب جنة النعيم وان حصلا به، بل حق نية هذا العمل انه مقرِّب من الله،
ومُوصل إلى قربه وجواره ورضاه، وإذا عرفت ذلك تعرف بأيسر ما يتفطن ان كل ما يلحقك
من الأحوال والأفعال والأقوال المُبعدة لك عن مراتب الحضور، فهو مخالف لمراد مولاك
من تشريفك بهذه الدعوة والضيافة، ولا ترضَ ان تكون في دار ضيافة هذا الملك الجليل
المُنعم عليك بهذا التشريف والتقريب، العَالِم بسرائرك وخطرات قلبك وغافلاً عنه،
وهو مراقب لك، ومُعرضاً عنه وهو مُقبلٌ عليك، ولعمري ان هذا في حكم العقل من
القبائح العظيمة التي لا يرضى العاقل ان يعامل صديقه بها. وبالجملة يعملون في صومهم
بما وصىَّ به الإمام الصادق عليه السلام وهي أمور: "..وكونوا مُشرفين على الآخرةِ
منتظرين لأيامكم ظهور القائم عجل الله تعالى فرجه الشريف مِن آلِ مُحَمّدٍ عليهم
السلام منتظرينَ لما وعدكُم الله متزوِّدينَ للقاءِ الله، وعَليكُم السّكينة
والوقار والخشوع والخضوع وذلّ العبيد الخُيَّف من مولاها خائِفين راجين ولتكن أَنتَ
أيهّا الصائِم قَدْ طَهر قلبك مِن العيوب وتقدّست سريرتكَ من الخبث ونظف جسمكَ مِن
القاذورات وتبرأت إلى الله مّمن عداه، وأخلصت الولاية وصمتّ مما قَدْ نهاكَ الله
عَنهُ في السّر والعلانية، وخشيت الله حق خشيته في سرّكَ وعلانيتكَ، ووهبت نفسكَ
الله في أيّام صومِكَ وفرغت قلبكَ لَهُ ونصبت نفسكَ لَهُ فيما أمركَ ودعاكَ إِليهِ.
فإذا فعلت ذلِكَ كُلَّه فأنت صائِم لله بحقيقة صومه صانع لَهُ ما أمركَ، وكلما نقصت
منها شيئاً فيما بيّنت لَكَ فَقد نقص مِن صومِكَ بمقدار ذلِكَ".
أقول: فانظر إلى ما في هذه الوصايا من وظائف الصائم ثم تأمل في آثاره واعلم ان من
يرى نفسه مشرفاً على الآخرة يخرج قلبه من الدنيا ولا يهتم إلا بتهيئة زاد الآخرة
وهكذا إذا خضع قلبه وكان منكسراً وذليلاً بَعُدَ عن الفرج بغير الله تعالى والميل
إليه، ومن بذل روحه وبدنه لله تبرّأ من كل شيء دون الله، يكون روحُه وقلبُه وبدنه
وكله مستغرقاً في ذكر الله ومحبته وعبادته تعالى، ويكون صومه صوم المقرّبين، رزقنا
الله بحق أوليائه هذا الصوم ولو يوماً في عمرنا .يا أكرم الأكرمين.