بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله والأئمّة المعصومين عليهم السلام في أحكامهم
القضائيّة واحتجاجاتهم وأجوبتهم علىٰ الأسئلة التفسيريّة، كانوا يُرجعون بعض آيات
القرآن إلىٰ بعض، وكانوا يفسّرون الآية الّتي تقع مورداً للبحث بواسطة سائر الآيات
القرآنيّة، كما استفاد امير المؤمنين عليه السلام من الآية الكريمة:
﴿وَالْوَالِدَاتُ
يرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَينِ كَامِلَين﴾1 والآية
﴿... وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْر﴾2 فأثبت نظر القرآن الكريم
في أنّ الحدّ الأقلّ لمدّة الحمل هو ستّة أشهر وبذلك رفع حكم الرجم عن إمرأة كان قد
حُكم عليها به بتهمة الزنا.3
كذلك اعتبر الإمام الجواد عليه السلام بواسطة ضمّ الآية الكريمة:
﴿وَأَنَّ
الْمَسَاجِدَ لِلَّه﴾4 إلىٰ الآية:
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيدِيهُمَ﴾5 انّ حدّ السارق هو قطع اصابع اليد6، في حين انّ المتشدّدين من
الخوارج واعتماداً علىٰ خصوص الآية:
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَة...﴾ كانوا يعتقدون
بوجوب قطع يد السارق من الكتف لأنّ كلمة يد تطلق علىٰ جميع ذلك المقدار!
كذلك الإمام الباقر عليه السلام وفي جوابه لِزُرارة الّذي سأله: كيف يستفاد من
الآية الشريفة:
﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَن
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَة﴾7 حكم وجوب القصر في صلاة المسافر مع انّ لسان الآية ليس
لسانَ إلزام؟ قال عليه السلام: انّ تعبير (لاجناح) في هذه الآية مثل تعبير (لاجناح)
في الآية الكريمة:
﴿فَمَنْ حَجَّ الْبَيتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيهِ
أَن يطَّوَّفَ بِهِمَ﴾8 حيث المقصود منها هو حكم الوجوب لا الرجحان الصرف.9
وعليه فإنَّ تفسير القرآن بالقرآن قد كان هو السيرة العمليّة لأهل البيت عليهم
السلام، كما انّ ارجاع المفسّرين إلىٰ هذه الطريقة كان مشهوداً جدّاً أيضاً في
السيرة العلميّة لأولئك الذوات المقدّسة، كقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله:
"انّ
القرآن ليصدّق بعضه بعضاً فلا تكذّبوا بعضه ببعض"10 كما قال الإمام عليّ عليه
السلام: "كتاب الله تبصرون به وتنطقون به وتسمعون به وينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه
علىٰ بعض".11
تنويه: انّما ينقل عن السيرة العمليّة لأهل البيت في تفسير القرآن بالقرآن هو لأجل
اثبات اصل المنهج، وإلاّ فإنّ التطبيق في بعض الموارد بغير التعبّد ليس أمراً سهلاً.
انّ دراسة مواضع السجود في الآية:
﴿أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّه﴾12 ووجوب قطع بعض
المواضع منها في حالة تكرار السرقة وكذلك تفسير معنىٰ (جناح) شاهد علىٰ ذلك.
وحيث انّه قد ورد من ناحية أهل البيت عليهم السلام انّ تفسير القرآن
بالقرآن منهج معقول ومقبول، فإنّ الصحابة والتابعين لهم إذا وجدوا شاهداً من القرآن
علىٰ تفسير آية ما فإنّهم يبادرون الىٰ تفسيرها به وإن كانت أغلب تفاسيرهم من سنخ
التفسير بالمأثور، لا تفسير القرآن بالقرآن، لأنّه يتطلّب اجتهاداً قرآنيّاً
وتدبّراً في محور جميع الآيات، ولا التفسير عن دراية وهو محمود وممدوح لأنّه يحتاج
إلىٰ اجتهاد برهانيّ وتأمّل في دائرة العلوم المتعارفة أو الاُصول والقواعد
الموضوعة المبرهنة، لكنّ طريقة تفسير القرآن بالقرآن موجودة لدىٰ الباحثين في
القرآن منذ قديم الزمان13، وقد كان الاُسلوب العمليّ لكثير من كبار المفسّرين أيضاً
وبنحو محدود لا واسع هو الاستعانة ببعض الآيات في تفسير بعضها الآخر.
وقد ذكر مؤلّف تفسير المنار شروطاً لأجل بلوغ المستوىٰ العالي من التفسير، وأوّل
هذه الشروط هو بحث نفس الآيات والكلمات لأجل فهم القرآن نفسه. ثمّ قال: "وقد قالوا
انّ القرآن يفسّر بعضه ببعض".14
هذا التعبير يدلّ علىٰ أنّ تفسير القرآن بالقرآن اُسلوب قد اتّفق عليه الجميع، وليس
مختصّاً بفئة معيّنة. لكن لا صاحب تفسير المنار الشيخ محمّد عبده نفسه ولا رشيد رضا
ولا الآخرون لهم القدرة علىٰ ذلك العمل العظيم الّذي هو استنطاق القرآن الكريم
وجعله ينطق لكي تكون آياته المتماثلة والمتسانخة ناطقة وشاهدة ومصدّقة بالنسبة إلىٰ
بعضها البعض، وإن كانوا قد نالوا التوفيق نسبيّاً في سلوكهم هذا المنهج النيِّر
البهيج.
والمقصود هو انّ أقوال وسيرة وتأليفات الأقدمين والقدماء والمتأخّرين والمعاصرين
يفوح منها شذىٰ تفسير القرآن بالقرآن علىٰ مشامّ الروح، لكنّ مثل هذا المسك ينبغي
أن يبحث عنه في سوق نفائس "الميزان" الّذي نال جائزة السبق في هذا المضمار من
الآخرين، وهو إن كان بلحاظ هويّته التفسيريّة يحمل علامة البنّوة لسلف المفسّرين
لكن "فيه معنىٰ شاهد باُبوّته".15
وإن كان باعة الحُسن قد قدِمـوا لعـرض الجمـال
لكـن لا احـد يبـلـغ في حسنـه وجمـاله حبيبنا
وبحقّ عشـرتـنـا القديمة لا يوجد محـرم أسـرار
يـبـلغ صاحبنا الّذي لا همّ له سوىٰ اقامة الحقّ
الـف رسـم يـظـهـر مـن قـلـم الخـلـق ولـكن
لـيـس فـيـهـا واحـد جـذّاب كرسـم حبيـبنا
الـف نقـد يـؤتىٰ بـه إلىٰ ســـوق الكائـنـات
لكن واحدة منها لاتبلغ مسكوكة صاحب عيارنا16
الميزان وما أدراك ما الميزان:
﴿ذٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يؤْتِيهِ مَن يشَاء﴾17 وسوف
يتّضح فيما بعد سرّ نجاح وموفّقية المؤلّف الكبير للميزان في تفسير القرآن بالقرآن.
تنويه: إنّ سيرة الفقهاء والاُصوليّين في استنباط الأحكام الفقهيّة من آيات الأحكام
مبتنية علىٰ تقييد المطلقات وتخصيص العمومات لبعض آيات القرآن بواسطة المقيّدات
والمخصّصات الموجودة في سائر آيات القرآن. كذلك إذا كان هناك احتمال نسخ في إحدىٰ
الآيات18، فإنّهم يبحثون عن الناسخ في آيات اُخرىٰ، وبشكل عامّ فإنّه يتمّ
الإستفادة من كلّ قرينة وشاهد قرآنيّ لأجل استنباط الفروع الفقهيّة من آيات الأحكام
في القرآن الكريم.
وسيرة وطريقة العقلاء أيضاً في الاستفادة من آثار وتأليفات أو أقوال الكُتّاب والخطباء جارية علىٰ مقايسة جميع مسائل الكتاب أو الخطابة بعضها مع بعض وتأييد بعضها بالآخر أو نقضها، وقد كانت هذه السيرة أمام منظر ومسمع الشارع المقدّس ولم يصدر منه بالنسبة إليها أيّ منع أو ردع.
1- سورة البقرة، الآية 233.
2- سورة الأحقاف، الآية 15.
3- البحار، ج40، ص180 و232.
4- سورة الجن، الآية 18.
5- سورة المائدة، الآية 38.
6- تفسير العيّاشي، ج1، ص230.
7- سورة النساء، الآية 101.
8- سورة البقرة، الآية 158.
9- وسائل الشيعة، ج5، ص538.
10- كنز العمّال، ج1، ص619، ح2861.
11- نهج البلاغة، الخطبة 133، المقطع 9. إنّ المقصود من تصديق آيات القرآن بالنسبة
إلىٰ بعضها البعض الّذي جاء في كلام الرسول الأكرمصلى الله عليه وآله، ليس هو
التصديق الإصطلاحيّ كي يكون في مقابل التصوّر، بل هو بمعنىٰ نطق وشهادة الآيات
بالنسبة إلىٰ بعضها البعض الّذي جاء في كلام الإمام عليّ عليه السلام يعني إذا كان
المبدأ التصوّري لآية مّا فيما بين المعاني المحتملة لها يفسّر بواسطة معنىٰ تصوّري
واضح لآية اُخرىٰ فهذا هو من سنخ تصديق بعض الآيات بالنسبة إلىٰ البعض الآخر، لأنّ
الشهادة وكذلك النطق المذكور صادق في هذا المجال أيضاً. كذلك إذا كان المبدأ
التصديقيّ لآية ما فيما بين معانيَ ومقاصد متعدّدة من جملة قرآنيّة يحلّ بواسطة
جملة اُخرىٰ ذات مقصود واضح (يقال اصطلاحاً انّ احدىٰ الجملتين ظاهرة والاُخرىٰ
أظهر أو احداهما ظاهرة والاُخرىٰ نصّ أو انّ احداهما ذات ظهور مشترك والاُخرىٰ ذات
ظهور خاص)، فإنّ مثل هذا النطق والشهادة مصداق للتصديق المأخوذ في كلام الرسول
الأكرم صلى الله عليه وآله، ويعدّ من تفسير القرآن بالقرآن، بناء علىٰ هذا فإنّ اي
نحو من أنحاء الشهادة والنطق بالنسبة الىٰ المعنىٰ التصوّري أو التصديقيّ لآية ما
يحصل بواسطة آية اُخرىٰ فهو من قبيل تفسير القرآن بالقرآن، ولا يختصّ التصديق
والشهادة أبداً بحالة مابعد استقرار ظهور الآية كما ظنّ البعض (راجع كتاب مناهج
البيان في تفسير القرآن، ج1، ص17 18).
12- سورة الجن، الآية 18.
13- انّ كاتب هذه السطور قد رأىٰ في تفسير ابي جعفر محمّد بن جرير الطبري (م 310)
وكذلك في التفسير الكبير للفخر الرازي جملة: "القرآن يفسّر بعضه بعضاً" وهو في حال
كتابة هذه المقدّمة وظروفها الخاصّة حيث لا قدرة له علىٰ المزيد من الفحص. والمحدّث
الكبير العلاّمة المجلسيّ رضوان الله عليه أيضاً يقول: "وقد قالوا انّ القرآن يفسّر
بعضه بعضاً" البحار، ج54، ص218.
14- المنار، ج1، ص22.
15- مقتبس من ديوان ابن الفارض.
16- ترجمة ابيات من ديوان حافظ الشيرازيّ.
17- سورة الجمعة، الآية 4.
18- روح وحقيقة النسخ المصطلح في دراسات العلوم القرآنيّة ترجع إلىٰ (التخصيص
الزمانيّ) كما انّ قبلة المسلمين كانت في زمان ما بيت المقدس، ثمّ تحوّلت إلىٰ
الكعبة المقدّسة، فزمان الحكم الّذي تبيّنه الآيات المنسوخة محدود منذ البداية،
وحدّه معلوم لدىٰ الله سبحانه، لكنّ محدوديّته لم تبيّن من البداية، وإنّما بُيّنت
بواسطة نزول الآيات الناسخة. والآية الشريفة:
﴿مَا نَنَسَخْ مِنْ آيةٍ أَوْ
نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَ﴾ سورة البقرة، الآية 106 أيضاً
إذا كانت تتعلّق بالآيات التدوينيّة لا التكوينيّة، فهي بمعنىٰ انّنا وبعد نسخ
الحكم السابق نشرِّع حكماً أفضل لكم من الحكم الماضي أو مثل ذلك، لا بمعنىٰ انّنا
ندلي لكم بخطاب اكمل وأكثر نضجاً من السابق.