منزلة الصمت ركن أساسي في تزكية
النفس وهي احد أهم الشروط التأسيسية في آداب السير والسلوك، في هذه المقالة
للفيلسوف السيد حيدر الآملي رحمه الله تأهيل شرعي وأخلاقي في فضل السكوت والصمت
نذكر منها: الإمساك عن فضول الكلام على قسمين: قسم يتعلَّق بالظاهر وقسم يتعلَّق
بالباطن. أمّا الظاهر فيه إمساك اللَّسان عن فضول الكلام وعن كلّ ما يخالف رضا الله
تعالى وإرادته من الأوامر والنواهي، لأنّ الله تعالى ما أمر مريم عليها السلام في
صومها إلَّا بإمساك الكلام لقوله: فـ ﴿
فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ
إِنسِيًّا ﴾، ويُعلم صدق هذا أيضاً من
قوله: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ
النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي
عَيْنًا ﴾.
لان هذا أمر بالأكل والشرب، وذاك أمر بالسكوت عن فضول الكلام، فعرفنا أنّ أعظم
الصوم: السكوت عن فضول الكلام، وهذا لو لم يكن كذلك ما قال النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم: "من صمت نجا" والحكمة في ذلك أنّ صمت الظاهر من القول باللسان سبب لنطق
الباطن والقول بالجنان، ولهذا إذا سكتت مريم عليها السلام من القول باللسان ونطق
عيسى عليه السلام في المهد بالبيان، ودعوى خلافة الرحمن، فافهم جدّا فإنّه دقيق.
ويعرف من هذا سرّ قوله عليه السلام: "من أخلص لله تعالى أربعين صباحاً ظهرت
ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه " وورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
أيضاً: "إذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكوا". والمراد أي فأمسكوا الشروع فيه
باللسان والقول، وبل بالعبارة والإشارة، فإنّه ليس بقابل لذلك، وكلَّ ما ليس بقابل
للقول فيه لا ينفع الإخبار عنه باللسان، وبل يضرّ كالعلوم الذوقيّة والمعارف
الإلهيّة، ولهذا قال عليه السلام في موضع آخر: "من عَرَف الله كلّ لسانه" أي كلّ
لسانه عن القول فيه والعبارة، لأنّه ذوقي شهودي، واللسان يعجز عن القول فيه كما
يعجز الشخص مثلاً عن بيان حلاوة العسل إذا عرفها وذاقها بالتناول منه، وقد ورد أيضاً:
"إذا ذكر النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا" وكان المراد هذا لأنّ سرّ
القدر على التحقيق ذوقي شهودي وكذلك سرّ أصحابه الحقيقي فإنّه أيضا ذوقي شهودي
وجداني، وورد أيضا: "هل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلَّا حصائر ألسنتهم؟.
وحصائد الألسنة في الأغلب لا يستعملون إلَّا فضول الكلام. وقال عليه السلام: "من
كثر كلامه كثر سخطه، ومن كثر سخطه قلّ حياءه قلّ ورعه، ومن قلّ ورعه دخل النار ".
ويشمل جميع ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَوْلَا
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ
فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ
وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ
هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم
مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ
* يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
﴾.
والله ثمّ والله، لو لم يكن في هذا الباب في القرآن إلَّا هذه الآيات، لكفى جزماً
بالسكوت عن فضول الكلام، وعن الَّذي ليس لصاحبه به علم، ومع ذلك كلَّه كلّ من يعتقد
أنّ عليه ملكان موكّلان وكّلهما الله تعالى ليكتبا كلَّما صدر منه خيراً كان أو شراً،
ما تكلَّم إلَّا بقدر الضرورة، ولا نطق بشيء غير الخير، والشاهد على هذا قوله جلّ
ذكره: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ
﴾. وإذا عرفت هذا فعليك بحفظ اللسان
والسكوت عن فضول الكلام، فإنّ مضرّته أكثر من منفعته، وفساده أعظم من فائدته، وقد
عرفت صدق هذا من العقل والنقل، والله أعلم وأحكم وهو يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.