بسم الله الرحمن الرحيم
إنّ لتفسير القرآن أنحاءً متعدّدة، بعضها سهل وبعضها الآخر صعب. فبعض تلك الأقسام
يكاد من السهولة أن لايصدّق عليه وان ينصرف عنه عنوان «تفسير القرآن بالقرآن»، كما
انّ بعضاً منها معقّد إلىٰ حدّ انّ ذهن المفسّر الفاحص المتتبّع يدركه بصعوبة بالغة،
وحيث انّ ارتباط الآيات الخاضعة للتفسير ليس من قبيل ارتباط الكلمات والألفاظ، لذلك
فإنّ البعض قد لا يعتبره من سنخ تفسير القرآن بالقرآن. وعلىٰ أيّة حال فإنّ عنوان (تفسير
القرآن بالقرآن) ليس له تعريف لغويّ محدّد ولا حقيقة شرعيّة معيّنة بل هو تابع
لقدرة المفسّر علىٰ الغوص في أعماق بحار القرآن أو علىٰ التحليق في أجواء سمائه،
فإلىٰ أيّ مدىٰ يستطيع أن يطير بالعلم الحصوليّ وإلىٰ أيّ عمق يستطيع ان يغوص
بالعلم الحضوريّ.
وبعض أنحاء تفسير القرآن بالقرآن هي كالتالي:
1. تارة يكون صدر الآية قرينة علىٰ ذيلها أو يكون ذيلها شاهداً علىٰ صدرها. في هذا
القسم من التفسير يكون القسم المفسِّر متّصلاً بالقسم المفسَّر؛ مثلاً بعض الكلمات
الداخليّة لآية المباهلة يمكن تفسيرها بمساعدة الشاهد المتّصل الداخليّ ويمكن
تفسيرها أيضاً بالإعتماد علىٰ الشاهد المنفصل الخارجيّ. فأصل الآية الكريمة هو: ﴿فَمَنْ
حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ
أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا
وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَىٰ الْكَاذِبِين﴾.1
فيمكن أن نفهم من كلمة «أبناءنا» معنىٰ «نساءنا» وكذلك معنىٰ «أنفسنا» أيضاً، حيث
يمكن بواسطة كلمة «أبناءنا» الاستظهار بأنّ كلمة «نساءنا» شاملة للبنت أيضاً، لأنّ
هاتين الكلمتين قد وردتا سويّة في عدّة مواضع من القرآن ولم يكن المقصود من (نساءنا)
فيها خصوص المرأة بمعنىٰ الزوج؛ بل انّ القدر المتيقّن منها هو البنت كما في قوله
تعالىٰ: ﴿... يذبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيسْتَحْيي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
الْمُفْسِدِين﴾2، وذلك لأنّ فرعون كان يقتل أولاد بني اسرائيل إذا كانوا أبناءً
ويبقيهم أحياءً إذا كانوا بناتٍ، وعليه فإنّ شمول كلمة نساء للبنت صحيح جدّاً وبلا
مانع كما انّ شأن النزول يؤيّده.
كذلك يمكن بواسطة كلمة (أبناءنا) الإستنباط بأنّ كلمة «أنفسنا» ليست بمعنىٰ (رجالنا)،
لأنّ كلمة أنفس لو كانت قد جاءت في مقابل كلمة نساء، لكان من الممكن أن يفهم من
كلمة «نساء» معنىٰ المرأة أو الأزواج ومن كلمة «أنفس» معنىٰ «الرجال»، لكن حيث انّ
كلمة «أبناء» قد ذكرت في الآية فيمكن الاستظهار بأنّ المقصود من كلمة «انفس» ليس هو
الرجال والاّ لم يكن هناك داع لذكر كلمة «أبناء»؛ لأنّه إذا كان المقصود من الأنفس
هو الرجال، فكلمة الرجال شاملة للإبن أيضاً كما هي شاملة للأخ والأب وأمثالهما، ولم
يكن هناك حاجة إلىٰ ذكر كلمة أبناء. إذاً يظهر من هذا انّ المقصود من «أنفس» ليس هو
الرجال.
2. وتارة يتّضح معنىٰ الآية من ظهور سياق الآيات، أو الهدف النهائيّ لها. وفي هذا
القسم وإن كان المفسِّر والمفسَّر مُرتَبطِين ببعضهما، لكنّ الرابط بينهما ليس هو
من قبيل الاتّصال اللفظيّ؛ كما يظهر من التدبّر في سياق آية التطهير حيث يدلّ علىٰ
انّ مضمونها مختصّ بجماعة معيّنة وانّ نساء النبيّ (ص) ليست داخلة في ذلك. لانّ
الآيات من 28 إلىٰ 34 من سورة الأحزاب قد جاءت جميعها مشتملة علىٰ ضمائر بصيغة جمع
المؤنّث، والجملة الّتي اعلنت بيان التطهير هي وحدها الّتي جاءت مشتملة علىٰ ضميرين
بصيغة جماعة الذكور، وهذان الضميران لاينسجمان مع السياق المتقدّم واللاحق لهذه
الجملة. ومن هذا التغيير في الضمير والاختلاف في سياق التعبير يمكن الاستنباط انّ
المراد من آية التطهير وهي جملة: ﴿إِنَّمَا يرِيدُ اللهُ لِيذْهِبَ عَنكُمُ
الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيطَهِّرَكُمْ تَطْهِير﴾3 ليس هو نساء الرسول الأكرم(ص) أبداً،
كما انّ شأن النزول يؤيّد ذلك أيضاً، وإلاّ لكان التعبير بصيغة: عنكنّ وليطهّركن،
كما قد عبّر عنهنّ أكثر من عشرين مرّة قبل وبعد هذه الجملة بصيغة ضمير جمع الإناث.
تنويه: انّ الجملة الّتي تكون في سياق آية أو آيات متعدّدة، امّا أن يكون معناها
معلوماً أو مبهماً، فعندما يكون المراد منها واضحاً فلا حاجة إلىٰ الاستعانة بوحدة
السياق، وعندما يكون المقصود منها مجهولاً فيمكن من خلال ظهور السياق المتقدّم
واللاحق التوصّل إلىٰ ارتباط الجملة مع مفاد المجموع أو انسلاخها عنه.
والّذي مرّ بيانه في آية التطهير يقصد فيه انّ مايستفاد من سياق الآيات المتقدّمة
واللاحقة لجملة ﴿إِنَّمَا يرِيدُ الله﴾ هو انّ هذه الجملة منسلخة ومنفكّة عن الآيات
السابقة واللاحقة ومستقلّة عنها، سواء كانت نازلة بنحو منفصل أو كانت قد نزلت علىٰ
نحو الجملة الإعتراضيّة، وتشخيص هذا الأمر خارج عن مسؤوليّة البحث الحاضر.
وتارة يمكن من خلال الاستعانة بظهور السياق استنباط ارتباط الكلمة المشكوكة
بالمعلومة، مثلاً في الآية الكريمة: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ
أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِي اثْنَينِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يقُولُ
لِصَاحِبِهِ لاَتَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيهِ
وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا
السُّفْلىٰ وَكَلِمَةُ اللهِ هِي الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم﴾4، حيث انّ
المحور الأساسيّ في هذه الآية هو نصرة الله الخاصّة بالرسول الأكرم(ص)، فضمائر
المفرد المذكّر في الكلمات الخمس: «تنصروه»، «نصره»، «أخرجه»، «يقول»، «لصاحبه»
تعود إلىٰ الرسول الأكرم(ص). أمّا مرجع الضمير في كلمة «عليه» وأيضاً علىٰ نحو
الإحتمال في كلمة «أيّده» فهو مشكوك هل يرجع الضمير إلىٰ النبيّ(ص) أم إلىٰ صاحبه
الّذي كان معه في الغار؟
فمقتضىٰ سياق الآية وبغضّ النظر عن الشواهد الخارجيّة الّتي هي أعمّ من القرآنيّة
والروائيّة هو انّ الضمائر المشكوكة المرجع، مثل الضمائر الخمسة المعلومة المرجع
ترجع إلىٰ شخص الرسول الأكرم(ص) لا إلىٰ غيره. وبناءً عليه فإنّ ارتباط هذين
الضميرين بالضمائر السابقة يستنبط من ظهور السياق الّذي يمنع من انقطاع صلة هذين
الضميرين بتلك الضمائر.
3. يعرف تارة من ذكر المبتدأ أو الخبر أو الفعل أو الفاعل وكذلك من ذكر الشرط أو
الجزاء والمقدّم أو التالي في آية معيّنة، ما هو محذوف من هذه العناوين في آية
اُخرىٰ، وفي هذا القسم من الممكن أن يكون هناك اتّصال لفظيّ بينهما أو أن يكونا
منفصلين، مثلاً ترىٰ أحياناً فعلاً محذوفاً في جملة، ويمكن تقدير عدّة أفعال علىٰ
البدل لكن بقرينة فعل معيّن موجود في جملة اُخرىٰ في نفس هذا السياق يمكن استظهار
ماهو ذلك الفعل المحذوف بالتحديد، مثلاً في سورة الأعراف في قوله تعالىٰ: ﴿وَإِلَىٰ
ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً...﴾5 يمكن الاستعانة بالآية الاُخرىٰ في نفس السورة وهي
قوله تعالىٰ: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِه﴾6 والاستظهار بأنّ الفعل
المحذوف هو ﴿أَرْسَلْنَ﴾ كما تشهد بذلك كلمة ﴿إِلَىٰ﴾، وبالنسبة إلىٰ قوله تعالىٰ:
﴿وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُود﴾7 يجري نفس الإستنباط، أي انّ الفعل المحذوف هو ﴿أَرْسَلْنَ﴾.
والمثال الآخر هو قوله تعالىٰ: ﴿وَمَرْيمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ
فَرْجَهَا...﴾8 حيث يوجد عدّة احتمالات في تعيين الفعل المحذوف، لكنّ أنسب فعل
محذوف لأجل نصب كلمة «مريم» هو الفعل المذكور في الآية السابقة وهو في قوله تعالىٰ:
﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْن﴾9؛ كما انّ الفعل
المناسب الوحيد لسياق آيات السورة المذكورة الّتي تبدأ من الآية (10) منها هو «ضرب
الله مثلاً». ولأجل تعيين الفعل المحذوف في بعض الموارد الاُخرىٰ لابدّ من الفحص
والتدبّر الأكثر؛ لأنّ الشاهد في تلك المواضع مستور، لا مشهور؛ مثلاً في نفس سورة
الأعراف في قوله تعالىٰ: ﴿وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِه...﴾10 لايعرف هل انّ الفعل
المحذوف هو ﴿أَرْسَلْنَ﴾ كي يكون منسجماً مع سياق الآيات أو هو فعل آخر مثل «أُذكر»
حتّىٰ يكون منسجماً مع آية: ﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَاد﴾11 ومن جهة يكون مناسباً أيضاً
مع عدم ذكر «إلىٰ»، وإن كان يبدو انَّ ظهور وحدة السياق في أكثر السور الّتي تذكر
قصص الأنبياء قبل لوط هو فعل «أرسلنا» لا فعل «اُذكر» مثل آيات سورة النمل من الآية
45 إلىٰ 54 وسورة العنكبوت من الآية 14 إلىٰ 28 حيث انّ الفعل المذكور الدالّ علىٰ
الفعل المحذوف في مثل هذه المواضع هو «أرسلنا».
4. وتارة من خلال التصريح بالعلّة أو المعلول ومن ذكر العلامة أو الدليل ومن
التعرّض إلىٰ اللازم أو الملزوم أو الملازم أو المتلازم في آيةٍ ما، يمكن أن يعرف
المحذوف من هذه العناوين في آية اُخرىٰ، مثال ذلك عندما يذكر وصف أو حكم أو حال أو
قيد لشخص أو جماعة، ولا تذكر علّته أو دليله، لكن يذكر سببه أو علامتُه في آية
اُخرىٰ، مثلاً في آية يقول تعالىٰ: ﴿وَتَرَاهُمْ ينظُرُونَ إِلَيكَ وَهُمْ
لاَيبْصِرُون﴾12 فحكم علىٰ الكافرين بعدم الإبصار، لكن لم يذكر سبب عدم رؤيتهم،
كذلك حكم عليهم في هذه الآية بعدم السماع فقال تعالىٰ: ﴿وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَىٰ
الْهُدَىٰ لاَيسْمَعُون﴾؛ لكن لم يذكر علّة عدم سماعهم، كما انّه حكم عليهم في آيات
اُخرىٰ بالضلالة، ولكن لم يبيِّن سبب ضلالتهم في قوله: ﴿وَأُولٰئِكَ هُمُ
الضَّالُّون﴾.13
انّ الضلالة الّتي هي بمعنىٰ فقدان الطريق لها دليل وعلامة فارقة، وقد عبَّرت عنها
الآية الكريمة بالكفر في قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ
إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولٰئِكَ هُمُ
الضَّالُّون﴾14، لكن لم تذكر علّة ذلك، كما انّه قد بُيِّنت علامة كذب الكافرين عند
اخبارهم عن رؤية الضلالة والسفاهة لدىٰ أنبياء الله...: ﴿قَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ
إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِين﴾15، ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة﴾16، لأنّ
تضليل وتسفيه النبيّ ـ يعني اسناد الضلالة والسفاهة وعدم التعقّل إلىٰ النبيّ ـ هو
بنفسه دليل وعلامة علىٰ ضلالة وسفاهة المفترين علىٰ النبيّ بإسناد هذه الصفات إليه،
ولم يوضّح في تلك الآيات سبب هذه النسبة الكاذبة المضلّلة، لكنّ آيات اُخرىٰ بيَّنت
علّة هذا الإتّهام، وتلك العلّة هي العمىٰ الباطنيّ عند الكفّار، لأنّ الأعمىٰ
يبتعد وينحرف عن الطريق ويضلّ ويظهر كذب ادعائه للرؤية: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً
عَمِين﴾.17
انّ عمىٰ القلب هذا قد ذكر بأنّه علّة جميع هذه الرذائل المذكورة، كما انّ هذا
العمىٰ هو سبب عدم رؤية الشيطان وجماعته المحترفة للشيطنة والخداع وتعليم الوسوسة
واصطناع المكر وإثارة الفتنة: ﴿إِنَّهُ يرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيثُ
لاَتَرَوْنَهُم﴾.18 والسرُّ في عدم رؤية الشيطان هو انّ وسوسته تجري في الصدر.
فينبغي أن تكون عين القلب مفتوحة ومبصرة حتّىٰ ترىٰ الوسوسة والموسوس الّذي: ﴿يوَسْوِسُ
فِي صُدُورِ النَّاس﴾19، ولكن إذا كانت عين القلب عمياء فإنّ سبب عدم رؤية الوسواس
والموسوس سيكون واضحاً: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَىٰ الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَىٰ
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾.20
5. تارة تكون الآيات المفسّرة لبعضها البعض بحيث لايوجد بينها أيّ وجه من الاشتراك
في المفردات والألفاظ كي يمكن جمع الآيات المناسبة بالاستعانة بالمعاجم اللغويّة،
وإنّما يوجد بينها ارتباط معنويّ فقط، كما في عنوان «أَب» وعنوان «والد» حيث انّ
عنوان «أب» وان اُطلق علىٰ الوالد لكنّه قد ورد إطلاقه في القرآن علىٰ غير الوالد
أيضاً كالعمّ كما في قوله تعالىٰ: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يعْقُوبَ
الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ
إِلٰهَكَ وَإِلٰهَ آبائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلٰهاً
وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون﴾21 لأنّ في هذه الآية قد ذكر إسماعيل بإعتباره
أحد آباء يعقوب، مع انّ النبيّ إسماعيل عمّ النبيّ يعقوب ابن إسحٰق وليس والداً له.
وعلىٰ هذا فإنّ عنوان «الأب» كما يطلق علىٰ الوالد كذلك يطلق علىٰ غيره كالعمّ. ومن
هنا ينشأ الشكّ في موضوع والد إبراهيم، هل انّ آزر العابد للأصنام والده أم لا؟
فالّذي يظهر من الآية الكريمة: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ
أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَة﴾22 والآيات (42) من سورة مريم و(52) من سورة
الأنبياء و(70) من سورة الشعراء و(85) من سورة الصافّات و(26) من سورة الزخرف
و(114) من سورة التوبة و...؛ انّ أبا إبراهيم لم يكن موحّداً، لكن هل انّ هذا الأب
هو نفس الوالد أم غيره، وهل انّ والد إبراهيم كان موحّداً أم لا؟ ايّ واحد من هٰذين
الموضوعين لايستظهر من الآيات المشتملة علىٰ عنوان «الأب» لكنّ كلا المعنيين يمكن
استنباطهما من آية اُخرىٰ استعملت فيها مفردة «والد» وليس كلمة «أب» فيعرف منها انّ
آزر العابد للأصنام لم يكن والدَ إبراهيم كما يعرف انّ الشخص الآخر الّذي كان والداً
لإبراهيم ولم يذكر اسمه في القرآن قد كان موحّداً، وليس مشركاً، لأنّ الله سبحانه
قال:
أ. ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ
وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَىٰ﴾.23
ب. ﴿وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَوْعِدَةٍ
وَعَدَهَا إِيّاهُ فَلَمَّا تَبَيّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ
مِنْه﴾24، أي انّه بعد ذلك لم يستغفر للأب.
ج. إنّ نبيّ الله ابراهيم(ع) في زمان شيخوخته وأواخر عمره دعا فقال: ﴿رَبَّنَا
اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يوْمَ يقُومُ الْحِسَاب﴾25، ومن هذه
الآيات يستنبط أمران الأوّل، انّ آزر عابد الأصنام لم يكن والداً لإبراهيم، لأنّ
النبيّ إبراهيم(ع) بعد أن اتّضح له شرك آزر وعداوته لله تبرّأ منه ولم يستغفر له،
والثاني: أنّ استغفار إبراهيم لوالديه في زمان شيخوخته يدلّ علىٰ استحقاق والديه
لطلب الإستغفار أي أنّهما كسائر المؤمنين كانا من أهل الإيمان لا من أهل الشرك.
هذا القسم هو من تفسير الآية بآية اُخرىٰ بواسطة (الإرتباط المعنويّ) بين مضمونيهما،
وليس هو من قبيل (ارتباط المفردات)، وإن كانت الكلمات والآيات المذكورة من ناحية
اللغة متقاربة فيما بينها، وهذا القرب في المفردات يمكن أن يساعد في إيجاد الإرتباط
بين الآيات المذكورة، لكنّ هذا ليس هو من سنخ تفسير القرآن بالقرآن في مجال
المفردات المشتركة. هذا النحو من تبويب الآيات والجمع بينها يلاحظ أيضاً في تفسير (روح
المعاني)26، كما جرىٰ بحثه وتحليله في «تفسير الميزان» بنحو مفصّل.
6. تارة تكون الآيات المتناغمة والمنسجمة فيما بينها في مجال التفسير فاقدة
للإشتراك في مفردات الآيات، ليس هذا فحسب بل حتّىٰ كلماتها ليست متقاربة فيما بينها
أيضاً، وليس فيما بينها الاّ الارتباط المفهوميّ العميق الّذي يمكن أن يكون مفتاحاً
لتفسير الآية بآية اُخرىٰ، مثلاً قوله تعالىٰ: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ
اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يصِفُون﴾27 سند برهان
«التمانع» المعروف الّذي هو محور لأبحاث كلاميّة وفلسفيّة مهمّة.
والبعض يشكّك في تلازم المقدّم والتالي، فيزعمون بأنّ الآلهة المتعدّدة إذا استندوا
إلىٰ العلم بالواقع وتنزّهوا عن حبّ الجاه وسوء النيّة وكان هدفهم من أصل الخلق
والإيجاد هو مصلحة المخلوقات وتربيتها وتكاملها علىٰ أحسن وجه فإنّ محذور الفساد
لايقع، لأنّ منشأ الفساد، هو إمّا جهل الآلهة بالمصالح الواقعيّة للعالم، أو حبّ
الجاه أو سوء النيّة، والآلهة مُحصّنون من آفة «الجهل العلميّ» وعيب ومرض «الجهالة
العمليّة» حيث يمكن أن يكون الآلهة متعدّدين وان يخلقوا العالم ويديروه مطابقاً مع
الواقع ونفس الأمر الّذي هو ليس أكثر من شيء واحد.
وحيث انّ مثل هذه الشبهة قد عرضت للبعض ولم تكن لهم القدرة علىٰ دفعها، لذلك فقد
قاموا بإرجاع برهان التمانع إلىٰ برهان «توارد العلل»، أي استحالة توارد علّتين
مستقلّتين علىٰ معلول واحد. وراحوا يفسّرون علىٰ أساسه الآية المذكورة ويبرّرون
برهان التمانع الفلسفيّ والكلاميّ. لكن بواسطة التدبّر في بعض الآيات الاُخرىٰ
الّتي تبيّن نفس موضوع التمانع علىٰ نحو التمثيل يتّضح معنىٰ آية سورة الأنبياء
ويتمّ برهان التمانع ويتخلّص من النقد الموهوم أو المتوهّم دون الإرجاع إلىٰ برهان
توارد العلل المتعدّدة علىٰ معلول واحد.
وتلك الآية الّتي جاءت علىٰ هيئة التمثيل هي: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ
شُرَكَاءُ مَتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يسْتَوِيانِ مَثَلاً
الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يعْلَمُون﴾28 فهنا يبيّن الله سبحانه
مثلاً بسيطاً لأجل إثبات توحيده في الربوبيّة وهو: إذا كان هناك خادم تحت أمر
سيّدين متشاكسين غير متّفقين وخادم آخر تحت أمر سيّد واحد فهل يستوي مثل هٰذين
الخادمين في طريقة حياتهما وعملهما وسعيهما ونظم وانسجام معيشتهما؟ أم إنّ أحدهما
منظّم ومنسجم وهادئ البال بينما الآخر دائماً مبتلىٰ بالشتات والإضطراب والحيرة؟
ممّا لاشكّ فيه أنّ كيفيّة إدارة شؤون هٰذين الخادمين المذكورين ليست متساوية بل هي
يقيناً مختلفة. فإذا كان هناك أكثر من إلٰه واحد يريدون خلق هذا العالم وتدبير
شؤونه فمن المتيقّن به أنّ ذلك العالم سيكون مشتّتاً وغير منسجم، وحيث انّ العالم
الحاليّ منسجم ومنظمّ، فهذا يدلّ يقيناً علىٰ انّ هذا العالم تحت تدبير إلٰه واحد.
بالطبع انّ التقرير العقلائيّ لأصل القياس الإستثنائيّ كما سبق بيانه هو من شأن
المستمع الواعي الّذي يتمتّع بعقل متمرّس مدرّب علىٰ منطق المحاورة واُصول
الإستدلال، لكنّ تلك الملاحظة الأساسيّة الّتي تستفاد من آية التمثيل والّتي لها
دور رئيسيّ في تقرير تلازم المقدّم والتالي في آية سورة الأنبياء هي: انّ الآلهة
إذا كانوا متعدّدين، فلاشكّ أنّهم متشاكسون وغير منسجمين، ومنشأ عدم الإنسجام بينهم
ليس هو «الجهل العلميّ» حتّىٰ يُقال بأنّ الإلٰه هو الّذي يكون عالماً بكلّ شيء،
ولا هو «الجهالة العمليّة» والإبتلاء بحبّ الجاه حتّىٰ يقال: إنّ الإلٰه هو الّذي
يكون منزّهاً ومحصّناً من عيوب الأغراض وآفات الغرائز البشريّة والإمكانيّة، بل انّ
منشأ عدم الإنسجام الضروريّ هو كالتالي:
أ. الإلٰه هو البسيط المحض ولا يوجد فيه أيّ نحو من التركّب.
ب. الإلٰه هو الّذي يتّصف بجميع درجات الكمال العلميّ والعمليّ.
ج. حيث انّ الإلٰه بسيط وجامع لجميع درجات الكمال العلميّ والعمليّ فكلّ تلك الصفات
الكماليّة ـ وأحدها العلم الأزليّ وغير المتناهي ـ هي عين ذاته وليست جزءً من الذات
ولا هي خارجة عنها.
د. وحيث انّ الذوات متباينة فالعلوم الّتي هي عين تلك الذوات ستكون متباينة أيضاً.
هـ . حيث انّه لايوجد في العالم شيء غير الله حتّىٰ يقوم الله بفعله مطابقاً له
ووفقاً لميزانه، اذاً فالكلام عن «الواقع» و «نفس الأمر» إنّما يصحّ بعد إفاضة الله
له، لا في عرض الله وقبل إفاضته. وبناءً علىٰ هذا فلا يمكن القول إنّ الله خلق
العالم مطابقاً للمصلحة الموجودة في نفس الأمر؛ لأنّ أصل المصلحة ونفس الأمر، وكلّ
شيء يفرض غير ذات الله فهو فعله، ومخلوق له ومحتاج إليه.
و. الواقع الوحيد هو وجود ذات الله، فإذا فرض إلٰهان فمعنىٰ ذلك وجود ذاتين
متباينتين، وعلمين متشاكسين، وتشخيصين متنازعين، ويقيناً فالعالم الّذي سيوجد سيكون
متشاكساً ومتنازعاً ومنفطراً ومتداعياً بالانفصام والتشتّت؛ كما انّ الآية الكريمة:
﴿... إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ
بَعْض﴾29 تؤيّد هذا المعنىٰ أيضاً، وحيث انّ العالم الموجود منزّه من الصفات
السلبيّة المذكورة كما ورد في الآية الكريمة ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماوَاتٍ
طِبَاقاً مَا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ
هَلْ تَرَىٰ مِن فُطُور﴾30 حيث اُشير فيها إلىٰ نفي الإنفطار والإنشقاق وعدم
الإنسجام، إذاً يمكن الإعتقاد بالتوحيد الربوبيّ ونفي أيّ نحو من الشرك الربوبيّ.
بواسطة هذا التحليل يحفظ لبرهان التمانع سداده وصوابه وإتقانه ولايحتاج عندئذ
لإرجاعه إلىٰ برهان توارد العلل. والقسم المهمّ لتتميم برهان التمانع حاصل بواسطة
آية التمثيل في سورة الزمر الّتي اُخذ فيها علىٰ نحو الضرورة تشاكس وتنازع الإلهين
علىٰ انّه أصل مسلّم.
7. تارة لايوجد بين الآيات المنسجمة في التفسير إرتباط تصوّري أو تصديقيّ من ناحية
تحليل مبادئ الفهم حتّىٰ يتّضح معنىٰ آية باُخرىٰ، بل يوجد بينها ارتباط ترتيبيّ
وتاريخيّ، كالّذي يحصل عندما تضمّ آية إلىٰ آية اُخرىٰ فيعلم أيّهما سبقت في النزول
وأيّهما نزلت بعد ذلك، مثلاً أيّهما نزلت في مكّة قبل الهجرة وأيّهما نزلت في
المدينة بعد الهجرة. ومن الطبيعيّ أنّ البحث في الشواهد التاريخيّة الّذي يحصل من
ضمّ الآيتين يضع في يد المفسِّر مفاهيم تفسيريّة جديدة، لكن نتيجة هذا الجمع
المذكور هو التوصّل إلىٰ موضوع خارجيّ وهو الترتيب التاريخيّ لنزول الآيات، كالّذي
يحصل من ضمّ الآية: ﴿... أَوْ يجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيل﴾31 إلىٰ الآية: ﴿...
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة﴾32 حيث يعرف هنا ما هو ذلك
«السبيل» الّذي ذكر في سورة النساء، وبالإضافة إلىٰ هذا يتّضح أنّ سورة النور نازلة
بعد سورة النساء أو علىٰ الأقل فإنّ هذا الجزء من سورة النور نازل بعد ذلك الجزء
المعيَّن من سورة النساء.
8. تارة لايكون بين الآيات المنسجمة في التفسير ارتباط مفهوميّ حتّىٰ يتمّ حلّ
المبادئ التصوريّة أو التصديقيّة لإحداها بواسطة الاُخرىٰ كما اُشير إليه في القسم
السابع، بل انّ النضد والترتيب الخاصّ للاُمور في قوس النزول من مبدأ العالم أو في
قوس الصعود نحو غاية ونهاية العالم الّذي هو المبدأ الأوّل، يظهر من ضمّ إحداها
إلىٰ الاُخرىٰ، أي تعرف مراتب صدور الفيض من الله سبحانه وتتّضح مراحل نهاية وزوال
النظام الكونيّ في رجوع البشريّة والعالم إلىٰ الله. مثلاً عند الحديث عن انتهاء
سلسلة الجبال، يمكن من ضمّ الآيات المتعلّقة بها، الإستنباط بأنّه في أشراط الساعة
وحين ظهور علامة القيامة، من أين تبدأ مسيرة زوال الجبال وأين تنتهي وأيّ ترتيب بين
﴿كَثِيباً مَّهِيل﴾33، و﴿كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش﴾34، و﴿قَاعاً صَفْصَف﴾35 وأخيراً
تتحوّل الجبال إلىٰ سراب: ﴿وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكَانَتْ سَرَاب﴾.36
وتارة يستنبط من ضمّ الآيات المنعطفة علىٰ بعضها والآيات المتناغمة مسائل عميقة
تجعل قاطبة خبراء التفسير الّذين أقاموا في ظلّ علوم القرآن ومفاهيمه ولم يفارقوا
ربوعها يخّرون ساجدين شُكراً وتعظيماً أمام مثل هٰذه القراءة التفسيريّة ومثل هذا
التفسير للقرآن بالقرآن وهذا العطاء غير المسبوق.
نعم انّ مثل هذا الفوز والفيض عزيز الوجود للغاية، وانّه لايتجلّىٰ إلاّ في خبايا
وخفايا نتاجات الأقلام المكنونة والمكتومة للعاكفين في حرم الوحي والطائفين حول
حريم الإلهام والراكعين في ربوع العترة والساجدين علىٰ عتبة الولاية: «أهل البصيرة
يتعاملون مع من يعرفهم». طبعاً انّ مثل هذا التعامل وتبادل العطاء بين آيات القرآن
الكريم موجود بين الآيات والروايات وبين الروايات نفسها أيضاً، بحيث إذا توفّرت تلك
الإحاطة والإلمام لدىٰ المفسّر فعندها سيحظىٰ بالدنوّ والإقتراب نحو مراد الكلام
الإلٰهيّ. وإنّ إرجاع الأحاديث إلىٰ بعضها بعنوان انّه أصل قطعيّ هو معقول ومقبول
لدىٰ المحدّثين، والفقهاء والعالمين بعلم الحديث، وقد أشار الشيخ صاحب الجواهر إلىٰ
جانب من هذا الموضوع قائلاً إنّ هؤلاء الذوات المقدّسة هم بمنزلة المتكلّم الواحد:
«بعد ملاحظة أنّ كلامهم جميعاً بمنزلة كلام واحد يفسّر بعضه بعضاً».37
9. تارة تنزل الآية الكريمة علىٰ نحو نصّ يحمل معه أسئلة كثيرة، بحيث انّ بعض تلك
الأسئلة يتمّ الجواب عليها بواسطة التصريح أو الظهور اللفظيّ لآيات اُخرىٰ نازلة
بمثابة الشرح لذلك المتن والتفصيل لذلك المجمل، ولكنّ البعض الآخر من الأسئلة
لايستنبط جوابه من ظهور منطوق الآيات التالية لها، وإنّما يظهر جوابها من خلال
الإستلزام أو الملازمة أو التلازم وأمثاله، علىٰ نحو يتّضح فيه شرح ذلك النصّ من
مجموع المذكور والمحذوف، أو المنطوق والمفهوم والمسكوت عنه.
مثلاً في الآية الكريمة: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ
والأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيام﴾38، مضافاً إلىٰ معنىٰ الأيّام الستّة، هناك أسئلة
تتبادر إلىٰ الذهن يشار إلىٰ بعضها:
أ. هل المقصود هو السماوات والأرض خاصّة أم الأعمّ الشامل لما هو بينهما؟
ب. وفي صورة انّ المقصود هو الأعمّ من السماوات والأرض ومابينهما، ففي كم يوم خُلقت
السماوات، وفي كم يوم خُلقت الأرض، وفي كم يوم خلق مابينهما؟
يمكن استنباط الجواب علىٰ هذه الأسئلة بواسطة ضمّ سائر آيات خلق النظام الكونيّ
إلىٰ الآية المذكورة وبالبحث عن المنطوق والمفهوم، والمسكوت عنه والمحذوف، لأنّ
الّذي يجيب علىٰ السؤال الأوّل هو انّ الموجودات بين السماء والأرض قد شملتها الآية
الاُولىٰ الّتي هي بمثابة المتن والنصّ، ولذلك قد ذكر في بعض الآيات مثل: ﴿الَّذِي
خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيام﴾39، والجواب
علىٰ السؤال الثاني هو انّ السماوات قد خُلقت في يومين: ﴿ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَىٰ
السَّماءِ وَهِي دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَللأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً
قَالَتَا أَتَينَا طَائِعِينَ ٭ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يوْمَين﴾40،
والجواب علىٰ السؤال الثالث هو انّ خلق الأرض قد تمّ في يومين: ﴿قُلْ ءَإِنَّكُمْ
لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يوْمَينِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ
أَندَاداً ذٰلِكَ رَبُّ الْعَالَمِين﴾.41
وأمّا الّذي يُجيب علىٰ السؤال الرابع فهو أنّ خلق مابين السماوات والأرض قد تمّ في
يومين، وهذه المعلومة يمكن استظهارها بواسطة الجمع النهائيّ وطرح الأيّام الأربعة
المذكورة من مجموع الأيّام الستّة.
بالنسبة إلىٰ هذا القسم الأخير لاتوجد آية فيها تصريح أو ظهور، لابصورة المنطوق ولا
المفهوم، وإنّما يمكن اقتناصه من الصمت المعبِّر للآيات المرتبطة بالموضوع، وأمّا
مايمكن استظهاره من الآية الكريمة: ﴿قَدَّرَ فِيهَا اقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ
أَيامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِين﴾42 فالظاهر انّه يتعلّق بتوفير الموادّ الغذائيّة
خلال الفصول الأربعة بلحاظ أغلب المناطق المعمورة، وليس المقصود منها انّ مجموع
الأرض ومابين الأرض والسمٰوات قد خُلِق خلال أربعة أيّام وأنّ السماوات لوحدها قد
خُلقت في يومين فيكون المجموع ستّة أيّام كما قال بذلك بعض المفسّرين.43
10. تارة تنزل الآية لترسم خطّاً أساسيّاً في التعليم والتهذيب دون أن تكون هناك
أيّةُ آية اُخرىٰ تذكّر بالمضمون الصريح لتلك الآية ولا آية اُخرىٰ تقوم بتفصيل
وتبيين وتحديد وتقييد وتخصيص النصّ الأصليّ للآية. لكنّ المفاد الشائع والبليغ
والمطرِّد لجميع أو أكثر آيات القرآن الكريم ناظر إلىٰ ترسيم وتصوير وتبيين وتدقيق
وتعميق وتحقيق المحتوىٰ والمضمون الأصيل للآية المذكورة.
هذا القسم من تفسير القرآن بالقرآن لايستظهر من عنوانه المعروف، بل انّ العنوان
المتداول والمعروف بين المتمرّسين في علم التفسير منصرف عن هذا القسم، ومثال ذلك
الآية: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ
خَلِيفَةً قَالُوا أتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يفْسِدُ فِيهَا وَيسْفِكُ الدِّمَاءَ
وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ
تَعْلَمُون﴾44، حيث قد تمّت الإشارة في هذه الآية إلىٰ المقام السامي والشامخ
للخلافة الإلٰهيّة، دون أن توجد أيّةُ آية اُخرىٰ نازلة في بيان وتوضيح المكانة
العالية للخلافة الّتي هي بحاجة ماسّة إلىٰ الشرح والتفصيل، وليس انّه لم يرد بيان
مبسّط حول هذا الموضوع فحسب بل حتّىٰ القدر المتوسّط من التفصيل لم ينزل أيضاً، بل
حتّىٰ الإخبار المختصر لم يلاحظ أيضاً.
وأمّا ماجاء في الآية الكريمة: ﴿يا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي
الأَرْضِ فَاحْكُم بَينَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيضِلَّكَ
عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ
شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يوْمَ الْحِسَاب﴾45 فسيظهر منها جزء وجانب من الخلافة
الإلٰهيّة المطلقة المقترنة بسجود الملائكة، فالخلافة الداوديّة تختلف كثيراً مع
الخلافة الكليّة، المطلقة، العامّة، والدائمة المختصّة بالإنسان الكامل النقيّ
الأصيل، علىٰ الرغم من أنّ داود(ع) يبلغ مقامها بطريق آخر، ولكن مهما كان فإنّ
خلافة سورة «البقرة» غير خلافة سورة «ص»، إلاّ أنّ الرسالة المشتركة والبيان البليغ
لجميع أو أكثر الآيات هو تعليم الأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ وتهذيب النفوس وتزكية
الأرواح لأجل بلوغ المقام السامي للخلافة الإلٰهيّة، لأنّ المحور الأساسيّ لخلافة
الإنسان الكامل هو الإحاطة بحقائق عالم الوجود بعنوان الأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ.
إنّ الأسماء الإلٰهيّة الحسنىٰ منبثّة في جميع القرآن الكريم كالسدر المخضود والطلح
المنضود والماء المسكوب، وهي منثورة في خبايا وثنايا وأطراف وأكناف ومتون وحواشي
وزوايا الآيات الإلٰهيّة كي ينهل كلّ انسان من حقيقة معينها فينال بمقدار مستواه
مرحلة من المراحل التشكيكيّة للخلافة الإلٰهيّة. وعليه فإذا ادّعىٰ أحد بانّ الهدف
النهائيّ للقرآن هو إعداد الإنسان الكامل وتربية الإنسان الأصيل والموحّد وانّ
الآيات الاُخرىٰ للقرآن الكريم هي شرح لآية خلافة الإنسان الكامل، فهو لم يدعّ
شيئاً جزافاً واعتباطاً... وإن كان هذا النوع من التفسير ليس هو من أقسام تفسير
القرآن بالقرآن المصطلح والمشهور.
* آية الله الشيخ جوادي آملي
1- سورة آل عمران،
الآية 61.
2- سورة القصص، الآية 4.
3- سورة الأحزاب، الآية 33.
4- سورة التوبة، الآية 40.
5- سورة الأعراف، الآية 73.
6- سورة الأعراف، الآية 59.
7- سورة الأعراف، الآية 65.
8- سورة التحريم، الآية 12.
9- سورة التحريم، الآية 11.
10- سورة الأعراف، الآية 80.
11- سورة الأحقاف، الآية 21.
12- سورة الأعراف، الآية 198.
13- سورة آل عمران، الآية 90.
14- سورة آل عمران، الآية 90.
15- سورة الأعراف، الآية 60.
16- سورة الأعراف، الآية 66.
17- سورة الأعراف، الآية 64.
18- سورة الأعراف، الآية 27.
19- سورة الناس، الآية 5.
20- سورة الحج، الآية 46.
21- سورة البقرة، الآية 133.
22- سورة الأنعام، الآية 74.
23- سورة التوبة، الآية 113.
24- سورة التوبة، الآية 114.
25- سورة إبراهيم، الآية 41.
26- روح المعاني، ج8، ص351 في ذيل الآية 41 من سورة ابراهيم.
27- سورة الأنبياء، الآية 22.
28- سورة الزمر، الآية 29.
29- سورة المؤمنون، الآية 91.
30- سورة الملك، الآية 3.
31- سورة النساء، الآية 15.
32- سورة النور، الآية 2.
33- سورة المزمّل، الآية 14.
34- سورة القارعة، الآية 5.
35- سورة طه، الآية 106.
36- سورة النبأ، الآية 20.
37- جواهر الكلام، ج26، ص67.
38- سورة الأعراف، الآية 54.
39- سورة الفرقان، الآية 59.
40- سورة فصّلت، الآيتان 11 ـ 12.
41- سورة فصّلت، الآية 9.
42- سورة فصّلت، الآية 10.
43- تفسير المنار، ج8، ص446، ذيل الآية 54 من سورة الأعراف.
44- سورة البقرة، الآية 30.
45- سورة ص، الآية 26.