من المعلوم أن معسكر الإمام الحسن عليه السلام كان مؤلفا من أهل العراق على العموم،
وهم الذين كانوا في صف أمير المؤمنين عليه السلام من قبله، فهم أعوانه في حرب
الجمل، وعلى أيديهم دارت الدائرة على الخوارج، الذين كانوا منهم كذلك، وهم الذين
أكرهوه على قبول التحكيم في معركة صفين، ورجالهم كانوا أول من بايع الإمام الحسن
عليه السلام بعد استشهاده، فشكل الإمام عليه السلام جيشه لقتال معاوية منهم.
إلا أن هذا الوقوف التاريخي في صف علي عليه السلام وأهل بيته، لا يعني أنهم كانوا
مؤمنين به حق الإيمان، وعارفين بحقه حق المعرفة، وإنما أملت عليه هذا الوقوف إلى
جانبه، مجموعة من الظروف، هي التي دفعتهم إلى اتخاذ هذا الموقف.
وبعبارة أخرى، إن وقوفهم إلى جانب علي عليه السلام لا يشكل وثيقة، تدل على أنهم
كانوا من شيعته بالمعنى العقائدي، لأن دوافع المناصرة أعم من الإيمان والاعتقاد،
فقد يكون الدافع إليها البحث عن الغنيمة والمال، وقد يكون الترؤس والزعامة، وقد
يكون ناشئا من مجرد الحماس والاندفاع العاطفي، وقد ينشأ من غيرة ونكاية في الطرف
المقابل، وكرها له.
هذا من الناحية النظرية، وأما من الناحية الواقعية والعملية، فإنه يمكن القول أن
أهل العراق كانوا أنصارا لعلي عليه السلام، على مستوى كافة الدوافع والخلفيات،
باستثناء الدافع العقائدي، ذلك أنهم لم يكونوا يرونه إماما مفترض الطاعة بأمر الله
تعالى، بل كانوا يرون فيه القائد المحنك، القادر إلى إيصالهم إلى المقامات
المرموقة، والمناصب العالية، التي تمكنهم من تحصيل الرفاه والمتعة في عالم الدنيا،
كما هو الشأن في كافة الزعماء السياسيين أو القبليين، الذين يفتحون خزائن الدنيا
للمقربين منهم، والمحسوبين في صفهم، وإلى جانبهم، دون أن ننسى البعد العاطفي الذي
تقتضيه جبلة الإنسان وفطرته، مهما كان بعيدا عن الحق، وعن العمل به، بعدما عرفوا من
عظمة علي عليه السلام وسابقته في الإسلام، ومدى قربه من الرسول الأعظم’، مع ما
عاينوه منه ومن شدة إخلاصه وبأسه في ذات الله تعالى.
إن أهل العراق يتشكلون بغالبيتهم من رجال القبائل وعوائل المقاتلين، الذين فتحوا
العراق في خلافة عمر بن الخطاب، والذين كانوا يرونه محققا لطموحاتهم، ومغذيا
لأطماعهم، بعدما بنى مدينتي الكوفة والبصرة وأسكنهم فيها، وولى عليهم أبا موسى
الأشعري ليفقههم في الدين، ولذلك فإن أساس ارتباطهم بالدين محبة عمر بن الخطاب، ولا
يمكنهم أن يرضوا بأي نقد أو موقف سلبي له، وهو الذي فتح لهم أبواب الدنيا من كل
جانب بحسب زعمهم.
ومن الظاهر أنه لم يكن ليخفى عليهم موقف علي عليه السلام من الخلافة، ولا رأيه في
الخلفاء الذين سبقوه، كما ولا موقف عمر بن الخطاب وغيره من رجال السلطة الحاكمة، من
علي عليه السلام وأهل بيته، وبالتالي فلا يمكنهم أن يكونوا في صف علي عليه السلام
من الناحية العقائدية.
وتظهر هذه الحقيقة جلية، بملاحظة أن الإسلام الذي تربوا عليه، هو إسلام عمر عن طريق
أبي موسى، الذي كان مخالفا لعلي عليه السلام، ولشيعته وخطه، وهو الذي عمل على تخذيل
الناس عن نصرة علي عليه السلام في حرب الجمل، وجهد في حثهم على عدم بيعته، بعد مقتل
عثمان، وكان واليا على البصرة حينها، وهو أحد قطبي مؤامرة التحكيم في حرب صفين التي
أدت إلى جعل معاوية قرينا لعلي عليه السلام بمسألة الخلافة في أذهان الناس، وكان
العراقيون قد فرضوه عليه عليه السلام، رغم تحذيره الشديد لهم منه.
وقد بين لهم الإمام الحسن عليه السلام هذه الحقيقة، يوم استشهاد أمير المؤمنين عليه
السلام، فقد جاء الناس إليه، وقالوا أنت خليفة أبيك، ووصيه، ونحن السامعون المطيعون
لك، فمرنا بأمرك، فقال لهم: كذبتم والله، ما وفيتم لمن كان خيرا مني، فكيف تفون لي،
وكيف أطمئن لكم ولا أثق بكم؟[1].
وقد قطع الإمام الباقر عليه السلام، كل شك في هذه القضية، حين توجه إلى أهل العراق
بقوله _والحديث منقول بالمعنى_: لقد حكمكم علي بن أبي طالب يا أهل العراق وقاتل
عدوه وعدوكم، وما عرفه منكم خمسون رجلا حق معرفته، وحق معرفته إمامته.
وهو ما يتبين بصراحة، من خلال استعراض سيرتهم مع أمير المؤمنين عليه السلام، فإنهم
بعدما فرضوا عليه قبول التحكيم، رغم تحذيره لهم منه، وإصرارهم على أن يكون الحكم من
طرفه من كان مخذلا للناس عنه، وهو أبو موسى الأشعري نفسه، الأمر الذي يوحي بنتيجة
التحكيم سلفا، فإنه بعدما انتهى التحكيم نهايته المعروفة، ثارت الجلبة بين الناس،
وأعلن بطلان الحكم الذي قضى به الحكمان، أعلن قوم من العراقيين كفر علي عليه السلام
ودعوه إلى التوبة، ثم أعلنوا الحرب عليه، وتسموا بالخوارج، وهناك الكثير من القرائن
التاريخية الدالة على أنهم شكلوا حزبهم قبل مسألة التحكيم، وهذه مسألة تحتاج إلى
بحث مستقل ودراسة مستوعبة.
في هذه الأجواء، أراد علي عليه السلام أن يعود إلى المعركة ضد معاوية، ولكن
العراقيين امتنعوا عن المشاركة بالحرب، بحجة أن الخوارج، الذين اعتزلوا عليا عليه
السلام، ربما تعرضوا لنسائهم وأطفالهم وممتلكاتهم، بالسلب والنهب والسبي والقتل،
فإنهم بنو قومهم، وكانوا يعيشون بينهم، وهو ما يعني معرفة الخوارج بكافة أحوالهم،
فزعموا أنهم إذا انتهوا من الخوارج، وأمنوا على عوائلهم وأملاكهم عادوا إلى حرب
معاوية، فاضطر علي عليه السلام لقبول ذلك. حتى إذا قضي على الخوارج امتنعوا عن دخول
الحرب ضد معاوية من جديد.
وقد ورث الإمام الحسن عليه السلام مقاليد الأمور في هذا المجتمع المتفكك، الذي
تحكمه العصبيات القبلية، وغير المتبصر في أمور الدين ولا العارف بحق الإمام، والذي
لا يجمعه سوى الطموح إلى الغنائم، والبحث عن متاع الدنيا بأي ثمن. ولكنه في الوقت
نفسه لم يجد بغيته عند علي عليه السلام، إذ لم يجدوا في الحروب التي خاضوها تحت
لوائه، ما يشبع رغباتهم، في تقسيم الغنائم، من امتلاك الأموال والعبيد والإماء،
فإنه لم يقسم عليه السلام من الغنائم سوى السلاح والعتاد، وأما النساء والعبيد
والأموال فأرجعها إلى عوائل خصومه، لأنه كان يرى أن عوائل محاربيه من المسلمين،
وهذا يعني أنه إذا حلت دماؤهم بخروجهم عليه إلا أن أموالهم وأعراضهم لا تحل لهم،
وأما المقاتلون فيرون أن كل ذلك مشروع ما دام قد أخذ في الحرب، لا فرق في ذلك
بالنسبة إليهم، بين المسلمين وغيرهم.
وهذا ما أدى إلى انكفائهم عن الوقوف في صف علي عليه السلام والحسن، بل والحسين
أيضا، فيما بعد واستطاع معاوية بن أبي سفيان أن ينفذ إلى قلوبهم من هذه الثغرة،
فاشترى ذمم بعضهم بالأموال التي بذلها لهم، مع أنه كان قد نكبهم من قبل، كما حصل مع
عبيد الله بن عباس، الذي كان معاوية قد قتل أولاده الصغار، ثم اشتراه بالمال فانقلب
إلى معسكره، وأسكت آخرين بوعود كاذبة أرسلها إليهم، فكانت النتيجة اضطرار علي عليه
السلام إلى قبول التحكيم، والحسن عليه السلام إلى قبول الصلح، والحسين عليه السلام
إلى الاستشهاد في كربلاء.
* سماحة الشيخ حاتم إسماعيل
[1] بحار الأنوار، ج44، ص43