تُضيء هذه المقالة من ملفّ العدد على المنزلة الفريدة لليلة القدر التي شاء اللهُ
تعالى أن يهديَنا إليها بالوحي المُنزَل على قلب النبيّ الأعظم صلّى الله عليه
وآله. كما يبيّن صاحب النصّ وهو العلامة المحقّق الشيخ حسين الخونساري (ت: 1099
للهجرة) منزلة هذه اللّيلة العظيمة كما وردت في روايات الأئمّة المعصومين عليهم
السلام.
يستحبّ إحياءُ ليلة القدر بإحياء الثلاث الفُرادى المشهورة، لمزيد الاهتمام بإحياء
ليلة القدر مع إبهامها، ودلالة القرائن على دخولها في الثلاث، خصوصاً إحدى وثلاثاً
من العشر الأخير من جملة الثلاث، لغلَبة الظنّ بكونها أحديهما.
واعلم أنّ ليلة القدر ليلة شريفة مُعظّمة في الشّرع؛ قال الله عزّ وجلّ:
﴿لَيْلَةُ
الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ القدر:3.
وقال عزّ من قائل:
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا
مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ الدخان:3-4. والأخبارُ فيها
بالغةٌ حدّ التواتر، وإنّما سمِّيت بذلك لتقدير الأمور فيها، أو لشَرفها، أو لضِيق
الأرض فيها على الملائكة لأجل كَثْرتِهم في نزولهم إليها. قيل: ولعلّ الله تعالى
إنّما ذكر لفظ القدْر في السورة ثلاث مرّات لهذا السبب، وهي باقية لم تُرفَع
بالإجماع.
* ورووا عن أبي ذرّ، قال: «قلت يا رسول الله، ليلةُ القدر رُفعت مع الأنبياء، أو هي
باقية إلى يوم القيامة؟
فقال: باقِيَةٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ.
قلت: في رمضان أو في غيره؟
فقال: في رَمَضانَ.
قلت: في عشر الأوّل أو الثاني أو الأخير؟
قال: في العَشْرِ الأَخيرِ».
والأخبار من طرق الخاصّة أكثر من أن تُحصى. منها ما رُوي عن الصادق عليه السلام،
أنّه قال: «لَيْلَةُ القَدْرِ تَكونُ في كُلِّ عامٍ، لَوْ رُفِعَتْ لَيْلةُ
القَدْرِ لَرُفِعَ القُرْآنُ».
ثمّ إنّ أكثر أهل العلم على أنّها في شهر رمضان. ويدلّ عليه قوله جلّ اسمه:
﴿شَهْرُ
رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى للنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ
الهُدَى والفُرْقَان﴾ البقرة:185.
وقال تبارك وتعالى:
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ القدر:1. وقال
سبحانه:
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ..﴾ الدخان:3. فلمّا أخبر،
جلّ شأنه، عن شهر رمضان بأنّه أُنزل فيه القرآن، وكذا عن ليلة القدر، فقد أخبر عن
وقوع ليلة القدر فيه...
* وفي (الكافي) عن حسّان بن مهران، في الصّحيح عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام،
قال: «سألتُه عن ليلة القدر، فقال: التَمِسْها لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرينَ، أَوْ
لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ». وعن ابن أبي حمزة، قال: «كنتُ عند أبي عبد الله
(الصّادق) عليه السلام، فقال له أبو بصير: جُعلت فداك، الليلة التي يُرجى فيها ما
يرجى؟
فقال: في لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرينَ أو ثَلاثٍ وَعِشْرينَ.
قال: فإن لم أَقْوَ على كلتَيهما؟
فقال: ما أَيْسَرَ لَيْلَتَيْنِ فيما تَطْلُبُ.
قلت: فربّما رأينا الهلالَ عندنا وجاءنا مَن يُخبرنا بخلاف ذلك من أرضٍ أُخرى؟
فقال: ما أَيْسَرَ أَرْبَعَ لَيالٍ تَطْلُبُها فِيهَا.
قلت: جُعلت فداك، ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجُهَنِيّ؟
فقال: إِنَّ ذَلِكَ لَيُقالُ.
قلت: جُعلت فداك، إنّ سليمان بن خالد روى في تسعة عشرة يُكتَب وفد الحاجّ.
فقال: إِلَيَّ يا أَبا مُحَمَّدٍ؛ وَفْدُ الحاجِّ يُكْتَبُ في لَيْلَةِ القَدْرِ،
وَالبَلايا وَالمَنايا وَالأَرْزاقُ وَما يَكونُ إِلى مِثْلِها في قابِلٍ،
فَاطْلُبْها في لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَثَلاثٍ وَعِشْرِينَ، وَصَلِّ فِي
كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُما مائَةَ رَكْعَةٍ، وَأَحْيهِما إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلى
النّورِ، وَاغْتَسِلْ فيهما.
قال، قلتُ: فإنْ لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟
قال: فَصَلِّ وَأَنْتَ جالِسٌ.
قلت: فإنْ لم أستطع؟
قال: فَعَلى فِراشِكَ، وَلا عَلَيْكَ أَنْ تَكْتَحِلَ أَوَّلَ اللَّيْلِ بِشَيْءٍ
مِنَ النَّوْمِ، إِنَّ أَبْوابَ السَّماءِ تُفْتَحُ في رَمَضانَ، وَتُصَفَّدُ
الشَّياطينُ، وَتُقْبَلُ أَعْمالُ المُؤْمِنينَ، نِعْمَ الشَّهْرُ رَمَضانُ، كانَ
يُسَمَّى عَلَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ
المَرْزوقَ».
[وفد الحاجّ هم القادمون إلى مكّة للحجّ، والمنايا: جمع المَنيّة وهي الموت،
والنّور: كناية عن انفجار الصبح، والصّفد: القيد والشدّ والإيثاق].
* وعن زرارة في الموثّق، قال: «قال أبو عبد الله عليه السلام: التَّقْديرُ في
لَيْلَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ، والإبرامُ في لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرينَ، والإمضاءُ في
لَيْلَةِ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ».
* وعن ربيع المسلميّ وزياد بن أبي الحلال، ذكراه عن رجلٍ، عن أبي عبد الله الصّادق
عليه السلام، قال: «في لَيْلَةِ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ التَّقْديرُ،
وَفي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرينَ القَضاءُ، وفي لَيْلَةِ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ
إِبْرامُ ما يَكونُ في السَّنَةِ إِلى مِثْلِها، وَللهِ، جَلَّ ثَناؤُهُ، أَنْ
يَفْعَلَ ما يَشاءُ في خَلْقِهِ».
* وعن إسحاق بن عمّار، قال: «سمعتُه – أي الإمام الصادق عليه السلام - يقول وناسٌ
يسألونه يقولون: الأرزاق تُقسم ليلة النصف من شعبان؟
قال، فقال: لا وَاللهِ، ما ذاكَ إلّا في لَيْلَةِ تِسْعَ عَشَرةَ مِنْ شَهْرِ
رَمَضانَ، وَإِحْدى وَعِشْرينَ، وَثَلاثٍ وَعِشْرينَ، فَإِنَّ فِي لَيلَةِ تِسْعَ
عَشَرةَ يَلْتَقي الجَمْعانِ، وفي لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرينَ يُفْرَقُ كُلُّ
أَمْرٍ حَكيمٍ، وفي لَيْلَةِ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ يُمْضي ما أَرادَ اللهُ، عَزَّ
وَجَلَّ، مِنْ ذَلِكَ، وَهِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ الّتي قالَ اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ:
﴿..خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾.
قال، قلتُ: ما معنى قولُه يلتقي الجمعان؟
قال: يَجْمَعُ اللهُ فِيهَا مَا أَرادَ مِنْ تَقْديمِهِ وَتَأْخيرِهِ وَإِرادَتِهِ
وَقَضائِهِ.
قال، قلت: فما معنى قوله: يُمضيه في ثلاث وعشرين؟
قال: إنَّهُ يُفْرَقُ في لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرينَ إِمْضاؤُهُ، وَيَكونُ لَهُ
فيهِ البَداءُ، فَإِذا كانَتْ لَيْلَةُ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ أَمْضاهُ، فَيَكونُ مِنَ
المَحْتومِ الّذي لا يَبْدو لَهُ فيهِ تَبارَك وَتَعالى».
* وروى الشيخ رحمه الله في (التهذيب)، عن محمّد بن مسلم - في الصحيح - عن أحدهما
عليهما السلام، في عدد الأغسال المسنونة، إلى أن قال: «ولَيْلَةُ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ
تُرْجى فيها لَيْلَةُ القَدْرِ».
* وعن زرارة في الموثّق... عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: «سألتُه عن ليلة
القدر.
قال: هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرينَ، أو ثَلاثٍ وَعِشْرينَ.
قلت: أليسَ إنَما هي ليلة؟
قال: بَلَى.
قلت: فأخبرني بها.
فقال: وَما عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَ خَيْراً في لَيْلَتَيْنِ؟».
* وفي (التهذيب) عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: «إنّ الجُهَنِيّ أَتَى
النّبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا رسولَ الله، إنّ لي إبِلاً وغَنَماً
وغِلمَةً وعَمَلَةً، فأُحبُّ أن تأمرَ بليلةٍ أدخلُ فيها فأشهدُ الصّلاة، وذلك في
شهرِ رمضانَ. فدَعاهُ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسَارَّهُ في أُذُنه،
فكانَ الجُهنيّ إذا كان ليلةُ ثلاث وعشرين دخلَ بإبلِه وغنمِه وأهلِه إلى مكانِه».
وقال في (الفقيه): «اسمُ الجُهَنيّ عبدُ الله بن أنيس الأنصاريّ».
* وروى في (الفقيه) عن سفيان بن السّمط، قال: «قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام:
اللّيالي التي تُرجى فيها من شهر رمضان؟
فقال: تِسْعَ عَشْرَةَ، وَإِحْدَى وَعِشْرينَ، وَثَلاثٍ وَعِشْرينَ.
قلت: فإن أخذَت إنساناً الفترة أو علّة، ما المُعتمد عليه من ذلك؟
فقال: ثَلاثٍ وَعِشْرينَ».
علامةُ ليلة القَدر
وأمّا علامةُ ليلة القدر، فروى في (الكافي) عن محمّد بن مسلم - في الصحيح - عن
أحدهما عليهما السلام، قال: «سألتُه عن علامة ليلة القدر، فقال: عَلامَتُها أَنْ
يَطيبَ رِيحُها، وَإِنْ كانَتْ في بَرْدٍ دَفِئَتْ، وَإِنْ كانَتْ في حَرٍّ
بَرَدَتْ فَطابَتْ».
* قال: «وسُئل عن ليلة القدر، فقال: تَنَزَّلُ فيها الْمَلَائِكَةُ وَالكَتَبَةُ
إلى السَّماءِ الدُّنْيا، فَيَكْتُبونَ ما يَكونُ في أَمْرِ السَّنَةِ وَما يُصيبُ
العِبادَ، وَأَمْرُهُ عِنْدَهُ مَوْقوفٌ لَهُ، وَفيهِ المَشِيَّةُ [المَشيئَة]،
فَيُقَدِّمُ مِنْهُ مَا يَشاءُ، وَيُؤَخِّرُ مِنْهُ ما يَشاءُ، وَيَمْحُو ما يَشاءُ
وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ».
والدفءُ السّخونة: وقال الجمهور علامتها ما رواه أبو ذرّ عن النّبيّ صلّى الله عليه
وآله، قال: «إِنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ في صَبيحَتِها بَيْضاءَ مِثْلَ الطَّسْتِ».
* ورُوي أيضاً عنه صلّى الله عليه وآله، أنّه قال: «هِيَ لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ لا
حارَّةٌ ولا بارِدَةٌ»، وهي تُوافق روايتنا.
* ويستحبّ أيضاً قراءة سورتَي (العنكبوت) و(الروم) في ليلة الثلاث وعشرين. روى
الشيخ، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، قال: «مَنْ قَرَأَ
سورَتَيِ العَنْكَبوتِ وَالرّومِ في شَهْرِ رَمَضانَ لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ،
فَهُوَ، وَاللهِ، يا أَبا مُحَمَّدٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، لا أَسْتَثْني فيهِ
أَبَداً، وَلا أَخافُ أنْ يَكْتُبَ اللهُ عَلَيَّ في يَميني إِثْماً، وَإِنَّ
لَهاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ مِنَ اللهِ مَكاناً».
* ويستحبّ أيضاً الاعتكاف في العشر الأواخر لِما روي في (الكافي) عن أبي عبد الله
عليه السلام، قال: «كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِإذا كانَ
العَشْرُ الأواخِرُ اعْتَكَفَ في المَسْجِدِ، وَضُرِبَتْ لَهُ قبّةٌ مِنْ شَعَرٍ،
وَشَمَّرَ الميزرَ، [المِئْزرَ]وَطَوى فِراشَهُ..».
* وقال في (الفقيه): «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: اعْتِكافُ عَشْرٍ في
شَهْرِ رَمَضانَ تَعْدِلُ حِجَّتَيْنَ وَعُمْرَتَيْنِ». * ويستحبّ أيضاً المواظبة
على النوافل المختصّة به بدعواتها المأثورة.
*ــ العلامة المحقّق الشيخ حسين الخونساري رحمه الله ـــــ