اللّسان أخطرُ الجَوارح
اعلم أنّ أكثر الرذائل؛ من الكَذِب، والغِيبة، والبُهتان، والشَّماتة، والسُّخرية،
والمزاح وغيرها، والتكلّم بما لا يعني، والفضول، والخوض في الباطل، من آفات اللسان،
وهو أضَرُّ الجوارح بالإنسان، وأعظمها إهلاكاً له، وآفاته أكثر من آفات سائر
الأعضاء.
وهي (أي الرذائل المذكورة آنفاً) وإن كانت من المعاصي الظاهرة، إلّا أنّها تؤدّي
إلى مساوئ الأخلاق والملَكات؛ إذ الأخلاق إنّما ترسخ في النفس بتكرير الأعمال،
والأعمال إنّما تصدر من القلب بتوسّط الجوارح، وكلّ جارحة تصلح لأن تصدر منها
الأعمال الحسنة الجالبة للأخلاق الجميلة، وأن تصدر منها الأعمال القبيحة المورِثة
للأخلاق السيئة، فلا بدّ من مراعاة القلب والجوارح معاً بصرفهما إلى الخيرات
ومنعهما من الشرور.
وعمدة ما تصدر منه الذمائم الظاهرة المؤدّية إلى الرذائل الباطنيّة هو اللّسان، وهو
أعظم آفة للشيطان في استغواء نوع الإنسان، فمراقبته أهمّ، ومحافظته أوجب وألزم.
والسرّ فيه - كما قيل: إنّه من نعم الله العظيمة، ولطائف صُنعه الغريبة، فإنّه وإنْ
كان صغيراً جِرمُه، عظيمٌ طاعته وجُرمُه، إذ لا يتبيّن الإيمان والكفر إلا بشهادته،
ولا يُهتدى إلى شيءٍ من أمور النشأتَين إلا بدلالته، وما من موجودٍ أو معدومٍ إلا
وهو يتناوله ويتعرّضُ له بإثباتٍ أو نفي، إذ كلّ ما يتناوله العِلمُ يعبّر عنه
اللسان إما بحقٍّ أو باطل، ولا شيء إلا والعلمُ يتناوله.
وهذه خاصيّة لا توجد في سائر الأعضاء؛ إذ العين لا تصل إلى غير الألوان والصور،
والأذُن لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير الأجسام، وكذا سائر الأعضاء،
واللسان رحب الميدان وسيعُ الجَولان، ليس له مردّ، ولا لمجاله منتهى ولا حدّ.
فمَن أطلق عَذَبة اللّسان (العذَبَة: طرَفُ الشيء) وأهملَه مَرخِيّ العنان، سلك به
الشيطان في كلّ ميدان، وأوقعه في أودية الضلالة والخِذلان، وساقه إلى شفا جُرُفٍ
هارٍ، إلى أن يضطرّه إلى الهلاك والبوار، ولذلك قال سيّد الرُّسل صلّى الله عليه
وآله: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِى النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ
أَلْسِنَتِهِمْ؟».
فلا يُنجي من شرّ اللسان إلا أن يُقيَّد بلِجام الشرع، ولا يُطلَق إلا فيما ينفع في
الدنيا والآخرة، ويُكَفّ عن كل ما يُخشى غائلته في العاجلة والآجلة. والآيات
والأخبار الواردة في ذمّه وفي كثرة آفاته، وفي الأمر بضبطه والتحذير منه كثيرة، وهي
بعمومها تدلّ على ذمّ جميع آفاته.
قال الله سبحانه :
﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.
[ق: 18]
وقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى
يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ».
وقال صلّى الله عليه وآله: « إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ أَصْبَحَتِ الأَعْضاءُ
كُلُّها تُكَفِّرُ لِلِّسَانِ، تَقُولُ: اتَّقِ الله فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ
بِكَ؛ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا». (التكفير
هنا بمعنى الخضوع والإقرار بالسيادة)
وقال صلّى الله عليه وآله: «مَنْ لَمْ يَحْسِبْ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ، كَثُرَتْ
خَطاياهُ وَحَضَرَ عَذابُهُ».
وقال أمير المؤمنين عليه السلام لرجلٍ يتكلّم بفضول الكلام: «يا هَذا! إِنَّكَ
تُمْلِي عَلى حافِظَيْكَ كِتاباً إِلَى رَبِّكَ، فَتَكَلَّمْ بِما يَعْنيكَ، وَدَعْ
ما لا يَعْنيكَ».
* الفقيه الشيخ محمّد مهدي النراقي رحمه الله، مختصَر عن كتابه (جامع السعادات)