روي عنهم عليهم السلام مستفيضاً من قاعدة: «نزّلونا عن الربوبية، وقولوا فينا ما
شئتم ولن تبلغوا». فأمّا الروايات الواردة في ذلك فهي:
الأُولى: ما رواه الصدوق في الخصال من حديث الأربعمائة المعروف، قال أمير
المؤمنين (عليه السلام): «إيّاكم والغلوّ فينا، قولوا إنّا عبيد مربوبون، وقولوا في
فضلنا ما شئتم »[1].
الثانية: ما رواه الصفّار في بصائر الدرجات، عن إسماعيل بن عبد العزيز،
قال: «قال أبو عبد الله (عليه السلام) في حديث: يا إسماعيل لا ترفع البناء فوق
طاقته فينهدم، إجعلونا مخلوقين، وقولوا فينا ما شئتم فلن تبلغوا»[2].
الثالثة: ما رواه الصفّار بسنده عن كامل التمّار، قال: «كنت عند أبي عبد
الله (عليه السلام) ذات يوم فقال لي: يا كامل، اجعل لنا ربّاً نؤوب إليه، وقولوا
فينا ما شئتم قال: قلت: نجعل لكم ربّاً تؤوبون إليه ونقول فيكم ما شئنا؟ قال:
فاستوى جالساً ثمّ قال: وعسى أن نقول ما خرج إليكم من علمنا إلاّ ألف غير معطوفة.
والمراد من الألف غير المعطوفة كناية عن نهاية القلّة»[3].
الرابعة: روى في كشف الغمّة من كتاب الدلائل للحميري عن مالك الجهني، قال:
«كنّا بالمدينة حين أُجلبت الشيعة وصاروا فرقاً، فتنحينا عن المدينة ناحية، ثمّ
خلونا فجعلنا نذكر فضائلهم وما قالت الشيعة، إلى أن خطر ببالنا الربوبية، فما شعرنا
بشيء؛ إذا نحن بأبي عبد الله (عليه السلام) واقف على حمار، فلم ندرِ من أين جاء،
فقال: يا مالك ويا خالد، متى أحدثتما الكلام في الربوبية؟ فقلنا: ما خطر ببالنا
إلاّ الساعة. فقال: إعلما، أنّ لنا ربّاً يكلأنا بالليل والنهار نعبده، يا مالك ويا
خالد، قولوا فينا ما شئتم، واجعلونا مخلوقين. فكرّرها علينا مراراً وهو واقف على
حماره»[4].
الخامسة: وروي في البحار في باب معرفتهم بالنورانية (أي إنّ مبدأ خلقهم هو
خلق أنوارهم)، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «يا سلمان ويا جندب. قالا: لبيك
صلوات الله عليك. قال (عليه السلام): أنا أمير كلّ مؤمن ومؤمنة ممّن مضى وممّن بقي،
وأيّدتُ بروح العظمة، وإنّما أنا عبدٌ من عبيد الله، لا تسمّونا أرباباً وقولوا في
فضلنا ما شئتم، فإنّكم لن تبلغوا من فضلنا كُنه ما جعله الله لنا، ولا معشار
العشر»[5].
السادسة: ما رواه الراوندي في خرائجه عن خالد بن نجيع، قال: «دخلت على أبي
عبد الله (عليه السلام) وعنده خلق، فجلست ناحية وقلت في نفسي: ما أغفلهم، عند من
يتكلّمون! فناداني: إنّا والله عبادٌ مخلوقون، لي ربّ أعبده؛ إن لم أعبده عذّبني
بالنار. قلت: لا أقول فيك إلاّ قولك في نفسك. قال: اجعلونا عبيداً مربوبين وقولوا
فينا ما شئتم إلاّ النبوّة»[6]. ورواه في بصائر الدرجات بطريقين.
السابعة: ما رواه في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام) عن
آبائه (عليهم السلام)، قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تتجاوزوا بنا
العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولا تغلوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى؛ فإنّي بري
من الغالين»[7]. ورواه في الاحتجاج عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): « قال
الرضا (عليه السلام): من تجاوز بأمير المؤمنين (عليه السلام) حدّ العبودية فهو من
المغضوب عليهم والضالين. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تتجاوزوا بنا
العبودية ثمّ قولوا ما شئتم ولن تبلغوا، وإيّاكم والغلوّ كغلوّ النصارى؛ فإنّي بري
من الغالين... إلى أن قال بعد شرح غلوّ النصارى: فكذلك هؤلاء، وجدوا أمير المؤمنين
عبداً أكرمه الله ليبيّن فضله ويقيم حجّته، فصغر عندهم خالقهم أن يكون جعل عليّاً
له عبداً، وأكبروا عليّاً عن أن يكون الله عزّوجلّ له ربّاً، فسمّوه بغير اسمه،
فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملّته وشيعته، وقالوا لهم: يا هؤلاء! إنّ عليّاً وولده
عبادٌ مكرمون مخلوقون مدبرون، لا يقدرون إلاّ على ما أقدرهم عليه الله ربّ
العالمين، ولا يملكون إلاّ ما ملكهم»[8].
الثامنة: ما في غرر الحكم: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): إيّاكم
والغلوّ فينا، قولوا إنّا مربوبون واعتقدوا في فضلنا ما شئتم»[9].
التاسعة: ما رواه الكليني عن عبد العزيز بن مسلم، قال: «كنّا مع الرضا (عليه
السلام)... ثم ساق حديثاً طويلاً عنه في الإمامة، وفيها: إنّ الإمامة أجلّ قدراً
وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم أو
ينالوها بآرائهم... الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم، وهي في الأُفق
بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار... فمن الذي يعرف معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟
هيهات هيهات، ضلّت العقول وتاهت الحلوم وحارت الألباب وخسئت العيون وتصاغرت العظماء
وتحيّرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت الألبّاء وكلّت الشعراء وعجزت
الأدباء وعييت البلغاء، عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، وأقرّت بالعجز
والتقصير، وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنه أو يفهم شيء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه
ويغني غناه، لا، كيف وأنّى؟ وهو بُعد النجم عن يد المتناولين ووصف الواصفين، فأين
الاختيار من هذا، وأين العقول عن هذا»[10].
وروى في المنتخب من بصائر الدرجات لسعد بن عبد الله الأشعري، عن ابن عيسى بإسناده
إلى المفضّل، قال: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما جاءكم منّا ممّا يجوز أن
يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه، فلا تجحدوه، وردّوه إلينا، وما جاءكم
عنّا ممّا لا يجوز أن يكون في المخلوقين، فاجحدوه ولا تردّوه إلينا[11].
فبيّن (عليه السلام) أنّ الضابطة في صحّة إسناد النعوت والأوصاف لهم (عليهم
السلام) والمدار في تحقيق مقاماتهم، ليس على عدم غرابة النعت، ولا على تعقّلنا لتلك
النعوت وإمكان فهمنا لها تفصيلاً، ولا على أنسنا لتلك الأوصاف والنعوت، بل ولا على
صرف صحّة السند وعدمه، وإنّما المدار على إمكان كون تلك الصفة صفة المخلوقين، أي
عالم الإمكان ما سوى الله، وإن لم يكتنه العقل المحدود للبشر كنه حقيقة تلك الصفة
بنحو التفصيل، لكنّه يدرك إجمالاً أنّ الصفة صفة ممكن حادث، لا صفة مختصّة بالذات
الأزلية الغنية.
آية الله الشيخ محمد سند - (بتصرف يسير)
[1] - الخصال: 614 ط
قم، والبحار 10 / 92. وطريق الرواية الصدوق، عن أبيه، عن سعد، عن اليقطيني، عن
القاسم بن يحيى، عن جدّه الحسن بن راشد، عن أبي بصير ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبد
الله (عليه السلام)، وليس فيه من يتوقّف فيه سوى القاسم بن يحيى وجدّه الحسن بن
راشد، وهما وإن لم يوثّقا إلاّ أنّ كلاًّ منهما صاحب كتاب ذكره في المشيخة، وطريق
الصدوق والشيخ صحيح إلى القاسم بن يحيى، ويروى كتابه أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعري
وإبراهيم بن هاشم وكذلك اليقطيني، وقد حكم الصدوق بصحّة ما رواه في زيارة الحسين
(عليه السلام) عن الحسن بن راشد، وفي طريقه إليه القاسم بن يحيى، وقال: إنّ هذه
الزيارة أصحّ الزيارات عنده رواية، الفقيه، حديث 1614 و 1615.
[2] - بصائر الدرجات: 64 - 65.
[3] - بصائر الدرجات: 149، والبحار 25 / 283 ح 30.
[4] - كشف الغمّة عن معرفة الأئمة 2 / 197.
[5] - البحار 26 / 6.
[6] - بصائر الدرجات 241 / 65، واثبات الهداة للحرّ العاملي 7 / 477 حديث 68 و ج 5
ص 417 حديث 154
[7] - البحار 4 / 303 ح 31.
[8] - البحار 25 / 274 - 278، والاحتجاج 2 / 233.
[9] - غرر الحكم: 159.
[10] - أصول الكافي 1 / 198 - 201.
[11] - البحار 25 / 364، ومستدرك سفينة البحار 1 / 199.