انّ القرآن الكريم كتاب عالميّ وخالد بحيث انّ نطاق وآفاق رسالته لاتحدّها الحدود
الجغرافيّة ولا تؤطّرها الحدود الإقليميّة ولا تؤثّر علىٰ نطاق سعته واحاطته فواصل
امتداد الزمان، ومثل هذا الكتاب جارٍ في ماضيه كما هو في حاضره، وينطبق علىٰ السابق
واللاحق كما ينطبق علىٰ الحال... والأحكام والصفات الّتي يذكرها القرآن لنفسه أوسع
من حدود الزمان والمكان.
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الصفة بـ(الجري)، حيث يقول الإمام الباقر عليه
السلام: «ولو انّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقي من
القرآن شيء ولكنّ القرآن يجري أوّله علىٰ آخره مادامت السماوات والارض...».[1]
ويقول هذا الإمام عليه السلام أيضاً انّ جميع آيات القرآن لها ظاهر وباطن...
والبعض من (مصاديقها) قد حدثت والبعض منها لم تأت بعد. وانّ القرآن يجري كالشمس
والقمر: عن الفضيل بن يسار قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية: «مافي
القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن» فقال: «ظهره تنزيله وبطنه تأويله منه مامضىٰ ومنه
مالم يكن. يجري كما يجري الشمس والقمر كما جاء تأويل كلّ شيء منه. يكون علىٰ
الأموات كما يكون علىٰ الأحياء»[2]، في هذا الحديث الشريف اعتبر انطباق آيات القرآن
الكريم علىٰ الموارد الّتي تحصل بواسطة التحليل من قبيل الجري.
والكثير من الروايات الّتي ذُكرت في التفاسير الروائيّة مثل «نور الثقلين»
و«البرهان» ووصفت بأنّها «روايات تفسيريّة» ليست هي بصدد تفسير الآية، لانّ التفسير
هو بمعنىٰ بيان معاني الألفاظ والجمل القرآنيّة، وأكثر تلك الأحاديث ليست من هذا
القبيل، بل هي بصدد تطبيق الآية علىٰ بعض المصاديق، وفي مواضع كثيرة هي لغرض
التطبيق علىٰ أبرز مصاديقها كما حدث بالنسبة للآية الكريمة:
﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّآلِّين﴾ حيث طبّقت علىٰ اليهود والنصارىٰ، والعلامة علىٰ انّ
مثل هذه الروايات تطبيقيّة هو:
أوّلاً: انّ مفاهيم
﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم﴾ و
﴿الضَّآلِّين﴾ عامّة ولها مصاديق
كثيرة، وذكر مصداق واحد لا يعني أبداً عدم انطباق المفهوم الجامع علىٰ سائر
المصاديق، الاّ أن يكون هناك دليل علىٰ الانحصار كما سيأتي في التنبيه القادم.
ثانياً، هذه العناوين بنفسها قد طبّقت في روايات اُخرىٰ علىٰ طوائف غير اليهود
والنصارىٰ، مثل تطبيق
﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم﴾ علىٰ النواصب و
﴿الضَّآلِّين﴾ علىٰ
المشكّكين الجاهلين بالأئمّة عليهم السلام.
ثالثاً، في بعض الروايات طُبِّق عنوان الضالين علىٰ كلتا الطائفتين اليهود
والنصارىٰ.[3]
والشاهد الآخر علىٰ كون أكثر الروايات التفسيريّة تطبيقيّة هو القول الفصل الّذي
خاطب به الإمام الباقر عليه السلام خيثمة حين قال: «يا خيثمة! القرآن نزل أثلاثاً:
ثلث فينا وفي أحبّائنا وثلث في أعدائنا وعدوّ من كان قبلنا و...».[4]
وبناء علىٰ هذا فإنّ هذه الروايات علىٰ فرض صحّتها وكون سندها وجهة صدورها تامّين
فإنّها لاتحدّد أبداً سعة وشمول وعموم معنىٰ الآية، وذكر مصداق لها أو المصداق
الكامل لاينفي المصاديق الاُخرىٰ ولايقيّد يد المفسِّر في تطبيق الآية علىٰ باقي
المصاديق، بل انّ الآية لها معنىٰ عام وهي لا تزال باقية علىٰ عمومها.
وفائدة ودور الروايات التطبيقيّة هو انّ بيان بعض مصاديق الآية يرشد المفسِّر الىٰ
فهم المعنىٰ العامّ.
تنويه: في بعض الموارد يكون المصداق للآية منحصراً ومحدوداً ولا يسري فيها قانون
الجري والتطبيق كما في آية الولاية:
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ رَاكِعُون﴾[5]، وآية المباهلة:
﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا
جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ
وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهل...﴾[6]،
وآية التطهير:
﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير﴾.[7]
آية الله الشيخ جوادي آملي
[1]. تفسير العيّاشي، ج1، ص10.
[2]. بصائر الدرجات، ص216.
[3]. نور الثقلين، ج1، ص24 25.
[4]. تفسير العياشي، ج1، ص10.
[5]. سورة المائدة، الآية 55.
[6]. سورة آل عمران، الآية 61.
[7]. سورة الاحزاب، الآية 33.