1- تمهيد:
لقد تجلت خدمة المستضعفين في حباة الأنبياء والأئمة(عليه السلام) بأجلى مظاهرها، فضربوا بذلك
أروع الأمثلة، وأظهروا أنبل المشاعر الإنسانية، من خلال سلوكهم العملي على هذه
الأرض، وعلى مر العصور.
فالإمام السجاد(عليه السلام) واحد من هؤلاء العظام، الذين لا يقاس بهم أحد من الناس، فقد
أظهرت صفحات التاريخ من سيرته وسلوكه، بما لم تتحدث عن أحد يضاهيه في ذلك، وهذا إن
دل على شيء, فإنما يدل على انتشار أمره, بين أتباعه وخصومه على حد سواء، مما أدى
إلى نظر الجميع إليه نظر احترام وتقدير تامين.
إن الظروف القاسية والحادة، التي أحاطت بالإمام السجاد(عليه السلام)، واقتحام الأمويين كافة
المحرمات، خصوصا بعد مقتل الإمام الحسين(عليه السلام)، الذي كان آخر أهل البيت النبوي الذين
عاصروا النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، مع ما ورد فيه من مدح وثناء، وذم وقدح لقاتليه من قبل
النبي(صلى الله عليه وآله)، فلم تبق بعده حرمة لأحد، فمن الطبيعي أن ينعكس كل ذلك على شخص الإمام زين
العابدين(عليه السلام)، فإنه البقية الباقية من أهل البيت(عليه السلام)، فلم يمنعه ذلك من السهر على
راحة الناس، والقيام بما يصلح حالهم على كافة المستويات.
2-تجليات الاستضعاف:
الاستضعاف استفعال من الضعف، والاستفعال طلب الفعل، فيكون معنى الصيغة طلب
ضعفه، أي جعله ضعيفا.
ومن الظاهر أن الضعف تارة يكون جسديا ماديا، وأخرى يكون معنويا وروحيا، ولكل منهما
تجليات ووجوه مختلفة، فتارة يكون بواسطة الحكم والسيطرة على الآخرين، إما بالقهر
والغلبة، أو بالسيطرة على النفوس عبر تلميع الكلام وتزيينه، ليأسر قلوب الناس
ويتبعوه، وأخرى بالتضييق عليهم في أرزاقهم ومعاشهم, وثالثة من خلال تجهيلهم
وإبعادهم عن نور المعرفة، فينساقون وراء شهواتهم وغرائزهم، ويندفعون باتجاه إشباع
هذه الرغبات والغرائز، وغير ذلك، هذا إذا كان الاستضعاف ناشئا من الغير.
إلا أن أخطر مظاهر الاستضعاف هو ذلك الناشئ من داخل الإنسان نفسه، فهو أشد فتكا في
النفس، لأن النفس أعدى أعداء المرء، كما هو مدلول بعض أحاديث الأئمة(عليه السلام)، ويتجلى هذا
النحو من الاستضعاف بالسكون والركون إلى الواقع، من دون اندفاع نحو تغييره، أو يكون
تأثيره سلبيا إن لم يتمتع المستضعف بالحكمة اللازمة، ولم يتسلح بالسلاح المناسب
لتغيير الواقع الذي حل فيه.
من هنا، تبدو صعوبة وحراجة الموقف، عند من يبادر إلى معالجة هذا الضعف، وتحويله إلى
عنصر قوة، سواء على المستوى الفردي، أم على المستوى الاجتماعي العام، كما يكشف عن
ضرورة تمتع المصلح بالوسائل الفاعلة للتغيير، ومدى تحمله وصبره أمام العقبات التي
تواجهه، من المستضعفين أنفسهم، خصوصا إذا كان الجهل رائدهم، والعصبيات الضيقة
قائدهم, في مواجهة الأحداث والمواقف، فضلا عن الآخرين الذين يدركون أن امتيازاتهم
المزعومة في معرض الخطر والزوال.
3- تجليات خدمة المستضعفين:
من الواضح أن اختلاف مظاهر الاستضعاف وتباينها, يستدعي اختلافا وتباينا في طرق
معالجتها، إذ من غير المنطقي معالجة أي داء بأدوية لا ترتبط به، بل تعالج أمراضا
أخرى، فإن ذلك، إضافة إلى أنه لا يحل مشكلة ولا يشفي مرضا، فإنه يفاقم من آثار
المرض نفسه، ويؤدي إلى مضاعفات سلبية على كامل الجسد، والأدران النفسية والاجتماعية
لا تقل, في تشعباتها وتبايناتها, عن أدران الجسد وأمراضه كما هو ظاهر.
لذلك فإن من أهم مواصفات من يتصدى لمعالجة هذه الأدران والمشاكل، أن يكون عارفا
بتشعباتها وخصوصيات كل منها، كما لا بد وأن يعرف دواء كل مشكلة وحلها، بالإضافة إلى
قدرته على تطبيق هذه القوانين على مواردها، فمن غير الممكن مثلا معالجة المستضعف
فكريا بإشباع بطنه، أو شهوات فرجه أو غير ذلك، كما لا يمكن سد الجوع بالجرعات
الفكرية، وهكذا في سائر التشعبات.
وبهذا تكون الحجة قد ألقيت على الجميع، ويصير المستضعف في خانة من استضعفه، فلا
يستطيع أن يلومه "وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين[1]"،
كما لا يقبل اعتذارهم بقولهم: "ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا[2]".
وعلى هذا الأساس يكون كل من رفع الجهل، والإعانة على النفس، والإعانة على الظالمين،
والمساعدة على التحرر من ربق العبودية، كما في سد الجوع وستر العورة، وقضاء حاجات
المساكين، وغير ذلك، كل ذلك يكون تطبيقا لخدمة المستضعفين في أنفسهم ومجتمعاتهم.
ولهذا كان بعض المستضعفين من أهل العذاب، كما ورد في القرآن الكريم: "الذين تتوفاهم
الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض[3]".
استنادا إلى ما تقدم تبدو مهمة المصلح على جانب كبير من الأهمية والخطورة، وقد
بينها أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصف النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله)، بقوله: "طبيب دوار بطبه، قد أحكم
مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه، من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة
بكم، متتبع بدوائه مواضع الغفلة، ومواطن الحيرة[4]".
4-الإمام السجاد(عليه السلام) وخدمة المستضعفين:
لقد تجلت المواصفات التي ذكرها أمير المؤمنين(عليه السلام) بحق رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بأبهى
صورها, وأسمى معانيها في الإمام زين العابدين(عليه السلام)، ولا غرابة في ذلك، فهو وريث
النبوة بعد آبائه الطاهرين، والأمين على دين الله تعالى في زمانه، فكان أن نشر
مراهمه المختلفة، وعمل على فتح العيون العمي، والآذان الصم، والألسنة البكم، بعدما
انتشر الضلال، وصارت الحكومة الإسلامية مصدرا للظلم والطغيان في زمن الأمويين،
وكادت هذه المظالم تلتصق بالإسلام نفسه، فشمر(عليه السلام) عن ساعد الجد، ليمسح عن الدين ما
ألصق به من أباطيل، وأخذ بنشر التعاليم الحقة، بما تشمله من إيقاظ الناس، وتعليمهم،
وإيضاح الحق لهم بمختلف الوسائل والطرق المتاحة، مما أدى إلى انتشار التشيع من
جديد، بعد مقتل الحسين(عليه السلام) وأصحابه، وظن الأمويون أنها لن تقوم قائمة لبني علي(عليه السلام).
وكان من مظاهر حركة الإمام السجاد(عليه السلام) في رفع الاستضعاف:
أولا: على الصعيد المادي:
رغم حصار الأمويين له, ومنعه حقوقه من بيت مال المسلمين، خوفا من أن يتقوى به
عليهم، إلا أن ذلك لم يمنعه عن تعاهد الفقراء والمساكين, والسهر على قضاء حاجاتهم،
يطوف على منازلهم في ظلم الليل، حاملا أرزاقهم على كاهله, حريصا على أن يقوم بذلك
بنفسه، دون أن يعرفوه حتى استشهد, وكان يقول(عليه السلام): "صدقة السر تطفئ غضب الرب" فعرفوا
أنه هو الذي كان يقوم بذلك.
وأراد السفر إلى الحج فاتخذت له أخته سكينة، سفرة أنفقت عليها ألف درهم وأرسلت بها
إليه فلما كان بظهر الحرة أمر بها ففرقت على الفقراء والمساكين.
ودخل يوما على محمد بن أسامة بن زيد يعوده فوجده يبكي، فقال: ما يبكيك؟ قال: دين
علي خمسة عشر ألف درهم، فقال(عليه السلام): هي علي بكاملها، ووفاها عنه من ساعته.
والأمثلة التي أوردها الرواة والمحدثون عنه في هذا المجال أكثر من أن تحصى.
ثانيا: تحرير الرقاب:
من أبرز مظاهر الاستضعاف ظاهرة الاستعباد وتجارة الرقيق، وهي ظاهرة تستحق دراسة
مستقلة، فقد انتشرت هذه التجارة بشكل حاد إثر الفتوحات الإسلامية، وتزايد عدد
العبيد على نحو لافت، وزاد من وطأة هذه الظاهرة تعقيدا سياسة التمييز العنصري، التي
اتبعها الأمويون ضدهم، فعمد الإمام(عليه السلام) إلى الاستفادة من هذه الظاهرة، وعمل على
تحرير أكبر عدد منهم، حيث كان يشتريهم ويفقههم في الدين, ثم يعمد إلى إعتاقهم، وقد
قيل أن العبد لم يبق في يده أكثر من سنة، وأنه كان في كل سنة يعتق ألف عبد.
وتحدث المؤرخون كثيرا, عن مدى حسن معاملته للعبيد قبل تحريرهم، مظهرا كامل الأخلاق
الإسلامية، ومزيفا كل السياسات الأموية، ويكفي أن نذكر مثالا واحدا يظهر مدى عظمته،
فقد طرقه ضيوف, فاستعجل خادما له بشواء كان في التنور، فأقبل الخادم مسرعا, فسقط
السفود منه على رأس طفل له فقتله، فتحير الخادم واضطرب، فقال له الإمام(عليه السلام): إنك لم
تتعمده، اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى.
ثالثا: على الصعيد المعنوي:
تشكل الصحيفة السجادية المباركة أكبر دليل على مدى اهتمام الإمام(عليه السلام) بالبعد
المعنوي والمعرفي للإنسان، فقد جاءت صورة متكاملة عن مختلف الأبعاد التي عاشها
الإمام معلما للأمة التعليمية والتربوية والروحية وغيرها، يبث المفاهيم الصحيحة عن
الإسلام عن طريق الدعاء، والتوجه إلى الله تعالى، فكانت مدرسة كاملة في رفع الحرمان
الروحي وشد العزيمة، وتصويب المسار، وتصحيح السلوك الإنساني بشكل عام.
إن أعظم خدمة يقوم بها المرء, هي رفع الحرمان والعمل على تغيير الواقع، من دون أجر
يبحث عنه ويسعى إليه، فكيف إذا كان ذلك ببذل المال والجهد خدمة لهم.
وقد أعطى الإمام السجاد(عليه السلام) أروع الأمثلة وأنبل الدروس في توجيه المسلمين وتعليمهم،
جاعلا نفسه واحدا مثلهم في معرض الخطأ والاستغفار، وهو المنزه عن الخطايا والذنوب،
وسنعرض هنا مثالين فقط عن مدى تواضعه أمام الناس, وحرصه على تعليمهم وتغيير حالهم،
دون أن يجرح لهم كبرياءهم.
الأول: أراد تعليم الناس أن يتواضعوا أمام العلم، فقد ورد أنه كان يذهب إلى زيد بن
أسلم ويستمع إليه: فقيل له: أنت سيد الناس وأفضلهم، تذهب إلى هذا العبد فتجلس إليه.
فقال: العلم يتبع حيث كان[5].
ومن الظاهر أنه لم يذهب ليكتسب منه علما، كيف، وهو من دوحة النبوة، ومعدن الرسالة،
ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي والتنزيل، بل أراد بذلك أن يدرب الناس على السعي إلى
اكتساب العلم وتحصيل الفضيلة.
الثاني: أراد توجيه الناس إلى من هو أهل لتعليم العلم، وإلى من ينبغي أن يقصدوه
لأجل ذلك، دون أن يجرح كبرياء من لا يراه أهلا لذلك.
فقد ورد أنه رأى الحسن البصري يوما، وهو يقص عند الحجر الأسود، فقال له: أترضى يا
حسن نفسك للموت؟ قال: لا، قال: فعملك للحساب؟ قال: لا، قال: فثم دار للعمل غير هذه
الدار؟ قال:لا، قال: فلله في أرضه معاذ غير هذا البيت؟ قال: لا، قال: فلم تشغل
الناس عن الطواف[6]؟.
ومن الظاهر أنه أراد أن ينهى الحسن البصري عن التصدي لأمر ليس أهلا له، بملاحظة
جوابه لمن اعترض عليه في استماعه لزيد بن أسلم، لكنه لم يصرح له بذلك حرصا على
مشاعره، وهذا ما يفسر مدى خوف الأمويين منه(عليه السلام)، فقد ورد أن هشام بن اسماعيل
المخزومي، والي المدينة، والذي كان كثير الأذى للإمام، قال مرة: "والله ما أخاف إلا
من علي بن الحسين، إنه رجل صالح يسمع له[7]".
وعلى كل حال، فتجليات خدمته(عليه السلام) المستضعفين أكبر من أن تحيط بها هذه السطور، بل
تستحق دراسات معمقة، وتسليط الأضواء عليها بشكل موسع.
سماحة الشيخ حاتم إسماعيل
[1] سورة
[2] سورة
[3] سورة
[4] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص156، خطبة 108
[5] تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزي، ص329
[6] إعلام الورى بأعلام الهدى، ص255
[7] تذكرة الخواص، ص328