إنّ أحد مصادر علم التفسير واُصول البحث والتحقيق للحصول علىٰ المعارف القرآنيّة هو
العقل البرهانيّ النقيّ من الوهم والتخيّل. والمقصود من العقل البرهانيّ هو الّذي
يثبت باُصوله وعلومه المتعارفة أصل وجود مبدأ العالم وصفاته وأسمائه الحسنىٰ.
والتحقيق حول تفسير القرآن بالعقل يحتاج الىٰ بحث شروط البرهان وموانعه بالاضافة
الىٰ ضرورة الإلمام بالعلوم القرآنيّة حتّىٰ يمكن الاستفادة من البرهان العقليّ مع
تجنّب الوقوع في المغالطة، لانّ العقل هو الرسول الباطنيّ لله سبحانه، وكما انّ
مدعي الرسالة الظاهريّة يكون صادقاً تارة اي «نبيّاً» واقعيّاً وتارة اُخرىٰ يكون
كاذباً أي «متنبياً»، فالعقل الّذي هو الرسول الباطنيّ كذلك، تارة يكون ذا رسالة
صادقة عندما يفكّر ويستنتج طبقاً للشروط الخاصّة للبرهان وتارة يكون كاذباً عندما
يُبتلىٰ بالمغالطة فيكون كالمتنبّي الّذي لا حظ له من الرسالة الإلٰهيّة. أجل انّ
الرسول الواقعيّ في عالم الظاهر معصوم دائماً ولا يمكن أن يصيّر نبيُّ الله
متنبّياً أبداً، ولكنّ الرسول الباطنيّ ليس كذلك لأنّه يمكن أحياناً أن يقع في
الخطأ كالمدّعي للنبوّة (المتنبّي).
والتفسير العقليّ، كما مرّ، امّا أن يحصل بإلتفات العقل الىٰ الشواهد الداخليّة
والخارجيّة، بأن يدرك العقل الفطن والوقّاد معنىٰ الآية من الجمع بين الآيات
والروايات، وفي هذا القسم يكون للعقل دور «المصباح» لا أكثر، ومثل هذا التفسير
العقلي الإجتهاديّ يُعدّ جزءً من التفسير بالمأثور وليس تفسيراً عقليّاً لانّه
يتحقّق من المصادر النقليّة، وامّا أن يحصل بإستنباط بعض المبادئ التصوّرية
والتصديقيّة النابعة من المصدر الذاتيّ للعقل البرهانيّ والعلوم المتعارفة، وفي هذا
القسم يكون للعقل دور «المصدر» وليس دور المصباح فقط. وعليه فإنّ التفسير العقليّ
يختصّ بالمورد الّذي يقوم فيه العقل باستنباط بعض المبادئ التصديقيّة والمباني
المستورة والمطويّة لبرهان الموضوع ثمّ يحمل عليها الآية الّتي هي مورد البحث.
وهنا نصل الىٰ قاعدة مهمّة في علم التفسير، وهي انّ المفسّر علىٰ الرغم من انّه
يعمل علىٰ أساس مالديه من القطع، ويفسّر الآية وفقاً لعلمه اليقينيّ، لكنّ البحث في
علوم القرآن وعلم التفسير يحتّم عليه الانتباه الىٰ انّه بأيّ لون من ألوان القطع
يمكن تفسير النصّ المقدّس، لانّ بعض ألوان القطع، كما سيتّضح فيما بعد، غير قادر
علىٰ تفسير ظاهر الآية، وبعض ألوانه له القدرة علىٰ ذلك. طبعاً من الممكن أن يقوم
المفسّر بتغيير المسير الظاهريّ للآية طبقاً ليقينه وقطعه الخاصّ ويكون قطعه خطأ
وغير مطابق للواقع، لكنّ المفسِّر المذكور يُعدّ معذوراً إذا لم يكن مقصّراً في
المبادئ والمقدّمات.
والقطع بالمبدأ التصديقيّ إذا كان من سنخ اليقين بمواضيع العرفان النظريّ والفلسفة
والكلام والمنطق والرياضيّات، بحيث يكون ثبوت المحمول للموضوع علىٰ نحو الضرورة،
ويكون سلب المحمول عن الموضوع محالاً، فإنّ مثل هذا القطع يفيد الضرورة، لأنّه علىٰ
أساس امتناع اجتماع النقيضين يكون سلب المحمول عن الموضوع محالاً. ومن هنا فإنّه
سيتمّ حتماً تفسير الآية القرآنيّة أو الحديث المأثور بما ينسجم مع مثل هذا القطع
المفيد للضرورة.
لكن إذا كان اليقين والقطع بالمبدأ التصديقيّ من سنخ القطع بالمواضيع التجربيّة
فإنّه يجب الإلتفات إلىٰ مايلي: أوّلاً انّ القطع في الموضوع التجربيّ والمختبريّ
صعب، لأنّ الاستقراء التام صعب، وتحصيل القياس الخفيّ الّذي يحقّق التجربة ويميّزها
عن الاستقراء هو أمر مستصعب. وعليه فليس من السهولة تحصيل اليقين المنطقيّ في مجال
الاُمور التجربيّة.
وثانياً: علىٰ فرض حصول قطع تجربي بثبوت المحمول للموضوع، فإنّ مثل هذا اليقين في
أغلب الأحيان يكون من جانب واحد، أي انّه يتحقّق القطع بثبوت المحمول للموضوع، ولكن
لايمكن أبداً أن نجد طريقاً «لحصر المحمول في الموضوع» و«انحصار اتّصاف الموضوع
بالمحمول»، لأنّ نتيجة التجارب المتكرّرة هي أنّنا الىٰ الآن كلّما جرّبنا واختبرنا
فقد وجدنا انّ هذا الموضوع له هذا المحمول، وذاك المحمول قد ثبت لذاك الموضوع (أي
القطع بالدوام)، لكن لايحصل لنا يقين بضرورة ثبوت المحمول للموضوع، بحيث لو حصل عن
طريق الاعجاز خرق هذه العادة والدوام والظاهرة المستمرّة العاديّة وحصلت ظاهرة
اُخرىٰ للزم الامتناع العقليّ، فتكون الآية محلّ البحث والّتي تدّعي الاعجاز وخرق
العادة قد ادّعت امراً محالاً، اي انّ القطع التجريبيّ لايفيد أكثر من «الدوام»
و«العادة» ولا يثبت «الضرورة». ولذلك فإنّه لامنافاة بينه وبين اعجاز الاُمور
الخارقة للعادة.
إذاً فإنّ اليقين الحاصل من التجربة لايمكن أن يحكم علىٰ الآية محلّ البحث بأنّها
خلاف العلم لتحمل علىٰ خلاف الظاهر، لانّ الإعجاز دائماً يكون علىٰ خلاف العادة،
ولكنّه لايكون أبداً مخالفاً للضرورة العقليّة، مثلاً انّ ما جرّبهُ الانسان حول
النار يفيد انّه متىٰ ما لامست بدن الإنسان فهو يحترق، ولكن هل انّ هذا الإحراق
والإحتراق أمر ضروريّ أم عادي؟ وهل انّ مجرّد تماسّ النار مع بدن الانسان هو علّة
تامّة للإحراق والإحتراق حتّىٰ لا يمكن الفصل بينهما، ام انّ مثل هذا الأمر ليس
أكثر من عادة مستمرّة وظاهرة دائميّة، وذلك لايرقىٰ إلىٰ إثبات «الضرورة العقليّة»
و«امتناع الإنفكاك»؟ وعليه فإنَّ قصّة إبراهيم الخليل(ع) والمحافظة عليه بعد إلقائه
في النار محال عادي وليس محالاً عقليّاً، ولذلك يثبت بالمعجزة، ولا حاجة ولا مُسوّغ
لحمل الآية الكريمة: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيم}[1]
علىٰ خلاف ظاهرها. أو مثلاً في قصّة توقّف ماء النهر وظهور الطريق اليبس في وسط
النيل الجاري وسائر مواضع الإعجاز فهي كلّها من سنخ المحال العاديّ لا المحال
العقليّ.
والأصل الكلي في جميع هذه الموارد هو انّه لم يقم فيها برهان منطقيّ علىٰ «ضرورة
ثبوت المحمول للموضوع» أو «انحصاره فيه». ولذلك فإنّ من الممكن أن ينفصل المحمول عن
موضوعه العاديّ والمألوف ويمكن أيضاً أن يثبت ذلك المحمول لموضوع أجنبيّ غير
الموضوع المعتاد، لأنّه لا دليل علىٰ الضرورة في المورد الأوّل، ولا برهان علىٰ
الإنحصار في المورد الثاني. اذن عند حمل الآية علىٰ خلاف الظاهر أو النصّ لابدّ أن
نرىٰ هل انّ القطع الموجود في المسألة منطقيّ أم نفسي، وإذا كان منطقيّاً فهل هو
يفيد «الضرورة» أم «الدوام»، وإذا كان مفيداً للضرورة فهل هو علىٰ نحو «الانحصار»
أم لا، لأنّه إذا كانت ثمرة الدليل في المسألة هي دوام المحمول للموضوع لا ضرورته،
فإنّ انفكاك المحمول عن الموضوع بصورة الإعجاز ممكن، وإذا كانت الضرورة ليست علىٰ
نحو الإنحصار فإنّ تحقّق ذلك المحمول لموضوع آخر غير مألوف علىٰ نحو خرق العادة أمر
ميسّر وممكن. إذن في تفسير الآية أو الحديث لايمكن الحمل علىٰ خلاف الظاهر أو النصّ
بمجرّد حصول القطع بموضوع ما.
وإذا لم تكن الآية محلّ البحث بصدد التحدّي والإعجاز بل كانت لغرض بيان موضوع عاديّ
فإنّه يمكن تفسيرها وفقاً للاُصول والقواعد الموضوعة، لانّ الغرض هو كونها في مقام
بيان السير الطبيعيّ للأشياء وليست في مقام خرق العادة والتحدّي، فهنا ينظر فيها
إلىٰ المبدأ الفاعليّ والغائيّ للشيء وهو الله سبحانه، وانّ تحقّق ذلك الشيء يمكن
أن يتمّ بعدّة وجوه، وانّ ايّ واحد من تلك الوجوه لا يتّصف بالضرورة العقليّة ولا
بالامتناع، وإذا ظهر فيما بعد خلاف ذلك فإنّ هذا التخلّف يعود الىٰ فهم المفسّر لا
إلىٰ الوحي الإلهيّ، كما في استنباط الأحكام الفرعيّة من المباني الأصليّة، حيث
تارة يكون الاستنباط مطابقاً للواقع، وتارة اُخرىٰ يكون مخالفاً له دون كشف الخلاف،
وفي بعض الحالات يكون مخالفاً للواقع مع كشف الخلاف وفي صورة كشف الخلاف فإنّ خطأه
يعود الىٰ فهم الفقيه لا إلىٰ الشريعة الغرّاء. نعم يجب في اسناد أيّ موضوع الىٰ
صاحب الشريعة أن يؤخذ بنظر الإعتبار مقدار فهم المستنبط وقوّة الدليل الّذي يعتمده
ونوع اليقين والقطع الّذي في نفسه، اي انّ الإسناد تارة يكون قطعيّاً وأحياناً يكون
ظنيّاً، والإسناد اليقينيّ يختصّ بحال القطع والإسناد الظنّي للذي لايملك الاّ
الظنّ.
* آية الله الشيخ جوادي آملي – بتصرف يسير
[1] . سورة الأنبياء، الآية 69.