جعفر بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه
هو جعفر بنُ أبي طالب، بنِ عبد المطّلب بنِ هاشم، ابنُ عمّ رسول الله صلّى الله
عليه وآله وسلّم. كنيته: أبو عبد الله، وأبو المساكين.
أبوه: شيخ البطحاء أبو طالب، ناصر دين الله تعالى، والمحامي عن رسوله صلّى الله
عليه وآله، في مواجهة طغاة قريش.
أمّه: فاطمة بنت أسد بن هاشم، التي كانت لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم
بمنزلة الأمّ، سبقت إلى الإسلام وهاجرت إلى المدينة، ولمّا توفّيت كفّنها صلّى الله
عليه وآله في قميصه، واضطجع في لحدها ليرفع عنها ضغطة القبر. وهي أمّ أخوة جعفر؛
طالب، وعقيل، وأمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وأمّ هانئ.
أمّا أولاده، فقد جاء في (الطبقات) لابن سعد: «كان لجعفر من الولد عبد الله، وبه
كان يكنّى وله العقب. ومن وُلد جعفر: محمّد وعون لا عقب لهما. ولدوا جميعاً لجعفر
بأرض الحبشة في المهاجرة إليها، وأمّهم أسماءُ بنت عميس».
وجدير بالذكر أنّ ابنه عبد الله هو زوج السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليهما
السلام.
إسلامه
في (أُسد الغابة): «أسلم جعفر بعد إسلام أخيه (أمير المؤمنين الإمام)
عليّ بقليل. رُوي أنّ أبا طالب رأى النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم وعلياً
يصلّيان، وعليّ (عليه السلام) عن يمينه، فقال لجعفر: صِلْ جناحَ ابن عمّك وصَلِّ عن
يساره».
وأخرج الشيخ الصدوق في (أماليه)، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أوّل (صلاة)
جماعةٍ كانت أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان يصلّي وأمير المؤمنين
عليّ بن أبي طالب عليه السلام معه، إذ مرّ أبو طالب به وجعفر معه، فقال: يا بُني
صِلْ جناحَ ابن عمّك. فلمّا أحسّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تقدّمهما،
وانصرف أبو طالب مسروراً..»
على لسان أصحاب السِّيَر
في (الاستيعاب): «كان جعفر أشبهَ الناس خَلقاً وخُلقاً برسول الله صلّى
الله عليه (وآله) وسلّم، وكان من المهاجرين الأوّلين، هاجر إلى أرض الحبشة، وقدِم
منها على رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم حين فتْحِ خيبر..».
وفي (أُسْد الغابة): «ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، وأخو عليّ بن
أبي طالب (عليه السلام) لأبويه... وله هجرتان: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة،
روى عنه ابنه عبد الله..».
وفي (مقاتل الطالبيين) لأبي الفرج الأصبهاني: «أوّل قتيل من وُلد أبي طالب في
الإسلام جعفرُ بن أبي طالب..».
وفي (تاريخ ابن كثير): «أسلم جعفر قديماً، وهاجر إلى الحبشة، وكانت له هناك مواقفُ
مشهودة ومقامات محمودة، وأجوبة سديدة وأحوال رشيدة.. وكان كريماً، جواداً، ممدحاً،
وكان لِكرمه يُقال له أبو المساكين، لإحسانه إليهم».
هجرته إلى الحبشة
روى ابن هشام في (سيرته) بسنده عن محمّد بن إسحاق المطّلبي، قال: «لمّا
رأى رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ما يصيب أصحابه من البلاء (في مكّة)...
قال لهم: لو خرجتُم إلى أرضِ الحبَشة، فإنّ بها ملكاً لا يُظلم عنده أحدٌ، وهي أرضُ
صدقٍ حتّى يجعل الله لكم فرجاً ممّا أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون إلى أرض
الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أوّل هجرة في الإسلام... وكان
عليهم عثمان بن مظعون. ثمّ خرج جعفر بن أبي طالب (في دفعة ثانية من المهاجرين)،
وتتابع المسلمون حتّى اجتمعوا بأرض الحبشة، منهم مَن خرج بأهله، ومنهم مَن خرج
بنفسه لا أهل معه».
وقال ابن إسحاق: «فلمّا رأت قريش أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم،
قد أمِنوا واطمأنّوا بأرض الحبشة، وأنّهم قد أصابوا بها داراً وقراراً، ائتمروا
بينهم أن يبعثوا فيهم رجلين من قريش جلدين إلى النجاشي، فيردّهم عليهم ليفتنوهم عن
دينهم ويخرجوهم من دارهم التي اطمأنّوا بها وأمِنوا فيها، فبعثوا عبد الله بن أبي
ربيعة وعمرو بن العاص بن وائل، وجمعوا لهما هدايا للنجاشي ولبطارقته، ثمّ بعثوهما
إليه فيهم.
فلمّا جاؤوا - وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله – سألهم، فقال لهم: ما
هذا الدِّين الذي فارقتُم فيه قومَكم، ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من هذه
المِلل؟
فكان الذي كلّمه جعفر بن أبي طالب فقال له:
أيّها الملك! كنّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل المِيتة، ونأتي الفواحش،
ونقطع الأرحام، ونُسيء الجوار، ويأكل القويُّ منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتّى بعث
الله إلينا رسولاً منّا نعرف نَسَبَه، وصدقَه، وأمانتَه، وعفافَه، فدعانا إلى الله
لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان،
وأمرَنا بالمعروف ونهانا عن المنكر، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصِلة
الرحم، وحُسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزُّور،
وأكل مال اليتيم، وقذْف المحصَنة، وكلّ ما يُعرف من السيئات، وأمرَنا أنْ نعبدَ
اللهَ وحدَه لا نشرك به شيئاً، وأمرَنا بالصلاةِ، والزكاةِ، والصيامِ، والصدقةِ...
فصدّقناه وآمنا به واتّبعناه، وعرفنا أنّ ما جاء به هو الحقّ من عند الله، فعبدْنا
الله وحدَه فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحلَلنا ما أحلّ لنا، فعدا
علينا قومُنا فعذّبونا وفتنونا عن دِيننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة
الله، وأنْ نستحلَّ ما كنّا نستحلُّ من الخبائث، فلمّا قهَرونا وظلمونا وضيّقوا
علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على مَن سواك، ورغِبنا في
جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيّها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك ممّا جاء به عن الله من شيء؟
فقال له جعفر: نعم.
فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ.
فقرأ عليه صدراً من (كهيعص).
قالت أمّ سلمة (وكانت مع زوجها في المهاجرين إلى الحبشة): فبكى والله النجاشي حتّى
اخضلّت لحيته، وبكى أساقفته حتّى اخضلّت لحاهم ومصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم.
ثمّ قال النجاشي: إنّ هذا والذي جاء به عيسى لَيخرجُ من مشكاةٍ واحدة.
ثمّ قال لرسولَي قريش: انطلقا، فلا واللهِ لا أُسلمهم إليكما..».
استشهاده في مؤتة
قُتل جعفر عليه السلام شهيداً في غزوة «مؤتة»، وكانت في جمادى الأولى
سنة 8 من الهجرة، ومؤتة موضع معروف عند الكرك بأدنى البلقاء (في الأردن اليوم).
وكان سببها فيما رواه الواقدي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعث الحارث
بن عمير الأزدي سنة 8 إلى ملك بُصرى بكتاب، فلمّا نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو
الغسّاني (من ملوك تلك المنطقة الموالين للروم) ، فقال: أين تريد؟
قال: الشام.
قال: لعلّك من رسُل محمّد؟
قال: نعم.
فأمر به فأُوثق رباطاً ثمّ قدّمه فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسولَ الله، فاشتدّ عليه،
وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث، فأسرعوا وخرجوا وعسكروا بالجرف (لمواجهة
الغسّاني)، فأمّر عليهم جعفر بن أبي طالب، فإنْ قُتل فزيد بن حارثة، فإنْ قتل فعبد
الله بن رواحة. ودفع اللواء إلى أميرهم وهو لواء أبيض، ومشى الناس إلى جعفر وأصحابه
يودّعونهم وكانوا ثلاثة آلاف..
أضاف الواقدي: «ومضى المسلمون فنزلوا وادي القرى وأقاموا به أياماً وساروا حتى
نزلوا بمؤتة، وبلغهم أنّ هرقل ملك الروم قد نزل ماءً من مياه البلقاء في بكر،
وبهراء، ولخم، وجذام وغيرهم (من أحلافه) مائة ألف مقاتل».
قال ابن إسحاق: «ثمّ مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء، لقيتهم جموع هرقل من
الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها (مشارف)، ثمّ دنا العدوّ، وانحاز
المسلمون إلى قرية يقال لها (مؤتة)، فالتقى الناس عندها فاقتتلوا، وأخذ اللواء جعفر
بن أبي طالب وقاتل قتالاً شديداً، حتّى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء
فعقرها، فكان أول رجل عقر فرسَه في الإسلام، ثمّ قاتل وهو يقول:
يا حبّذا الجنّةُ واقترابُها طيّبةٌ وباردٌ شرابُها
والرومُ روم قد دنا عذابُها كافرةٌ بعيدةٌ أنسابُها
عليَّ إذ لاقيتُها ضِرابُها».
وفي (عمدة الطالب): «..لمّا رأى جعفر الحربَ قد اشتدّت والروم قد غَلبتْ، اقتحم عن
فرسٍ له أشقر ثمّ عقره وقاتل حتى قُطعت يده اليمنى، فأخذ الراية بيده اليسرى وقاتل
إلى أن قُطعت اليسرى أيضاً، فاعتنق الراية وضمّها إلى صدره حتّى قُتل، ووُجد به
نيّف وسبعون، وقيل نيّف وثمانون ما بين طعنة وضربة ورمْية».
رسول الله صلّى الله عليه وآله يعزّي بجعفر
روى الواقدي بسنده عن أسماء بنت عميس (زوجة جعفر)، قالت: «أصبحتُ في
اليوم الذي أُصيب فيه جعفر وأصحابه، فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم،
فقال: يا أسماء، أين بنو جعفر؟ فجئتُ بهم إليه، فضمّهم وشمّهم، ثمّ ذرفت عيناه
فبكى.
فقلت: يا رسول الله لعلّه بلغك عن جعفر شيء؟
قال: نعم، إنّه قُتل اليوم.
فقمتُ أصيح واجتمع إليّ النساء، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: يا
أسماء، لا تقولي هَجْراً، ولا تضربي صدراً.
ثمّ خرج حتّى دخل على ابنته فاطمة وهي تقول: واعمّاه.
فقال صلّى الله عليه وآله: على مثلِ جعفرَ فَلتَبْكِ الباكية».
وروى أيضاً بسنده عن عبد الله بن جعفر، أنّه قال: «أنا أحفظُ حين دخل النبيّ صلّى
الله عليه وآله وسلّم، على أمّي فنعى إليها أبي، فأنظرُ إليه وهو يمسح على رأسي
ورأس أخي وعيناه تهرقان بالدمع... ثمّ قال: اللّهمّ إنّ جعفراً قدِم إلى أحسن
الثواب، فأَخْلِفه في ذرّيته بأحسن ما خلفتَ أحداً من عبادك في ذرّيته.
ثم قال: يا أسماء، ألا أُبشّرك؟
قالت: بلى بأبي وأمّي.
قال: فإنّ الله جعلَ لجعفر جناحَين يطير بهما في الجنّة».
صلاة جعفر الطيار
ذكر الواقدي في (تاريخه) أنّ غزوة خيبر كانت أوّل سنة سبع من الهجرة،
حاصر فيها رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أربعة عشر ألف يهوديّ في حصونهم بضعاً
وعشرين ليلة، فجعل يفتحها حصناً حصناً، ولمّا تمّ له صلّى الله عليه وآله، فيها
الظّفر أتاه البشير بقدوم جعفر بن أبي طالب وأصحابه من الحبشة إلى المدينة، فقال
صلّى الله عليه وآله: ما أدري بأيّهما أنا أَسرّ؛ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر.
وفي (التهذيب) للشيخ الطوسي، أنّ رجلاً قال لأبي عبد الله الصادق عليه السلام:
«جُعلت فداك، أيلتزم الرجلُ أخاه (أي يعانقه)؟
فقال عليه السلام: نعم، إنّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، يومَ افتتحَ
خيبر أتاه الخبرُ أنّ جعفراً قد قدِم، فقال: واللهِ ما أدري بأيّهما أنا أشدّ
سروراً، أبقدوم جعفر أو بِفتح خَيبر.
قال عليه السلام: فلم يلبثْ أن جاء جعفر، فوثب رسولُ الله صلّى الله عليه وآله
وسلّم، فالتزمه وقبّل ما بين عينيه.
فقال له الرجل: الأربع ركعات التي بلغني أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، أمر
جعفراً أن يصلّيها؟ فقال الإمام عليه السلام: لمّا قدِم عليه السلام عليه قال له:
يا جعفر ألا أُعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟... فتشوّف الناس ورأوا أنّه يُعطيه
ذهباً أو فضّة.
قال: بلى يا رسول الله.
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: صلّ أربع ركعات متّى ما صلّيتهن غُفر لك ما بينهنّ،
إنْ استطعتَ كلّ يوم، وإلّا فكلّ يومين، أو كلّ جمعة، أو كلّ شهر، أو كلّ سنّة،
فإنّه يُغفَر لكَ ما بينهما..».
وفي صفة صلاة جعفر من (الكافي) عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «تُصَلِّي
أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ تَبْتَدِئُ فَتَقْرَأُ، وتَقُولُ إِذَا فَرَغْتَ: سُبْحَانَ
اللهِ والْحَمْدُ للهِ ولَا إِلَه إِلَّا اللهُ واللهُ أَكْبَرُ. تَقُولُ ذَلِكَ
خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ الْقِرَاءَةِ.
فَإِذَا رَكَعْتَ قُلْتَه عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ
الرُّكُوعِ قُلْتَه عَشْرَ مَرَّاتٍ.
فَإِذَا سَجَدْتَ قُلْتَه عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ
السُّجُودِ فَقُلْ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا سَجَدْتَ
الثَّانِيَةَ فَقُلْ عَشْرَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا رَفَعْتَ رَأْسَكَ مِنَ السَّجْدَةِ
الثَّانِيَةِ قُلْتَ عَشْرَ مَرَّاتٍ وأَنْتَ قَاعِدٌ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ،
فَذَلِكَ خَمْسٌ وسَبْعُونَ تَسْبِيحَةً، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ.
ثَلَاثُمِائَةِ تَسْبِيحَةٍ فِي أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، أَلْفٌ ومِائَتَا تَسْبِيحَةٍ
وتَهْلِيلَةٍ وتَكْبِيرَةٍ وتَحْمِيدَةٍ.
إِنْ شِئْتَ صَلَّيْتَهَا بِالنَّهَارِ وإِنْ شِئْتَ صَلَّيْتَهَا بِاللَّيْلِ».
وفي (مفاتيح الجنان) وغيره من كُتب العبادات تفصيل السور القرآنية التي تُقرأ في
ركعات الصلاة الأربع، وفيها الدعاء المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام والذي
يُستحب قراءته بعد الفراغ من الصلاة، وقد ورد أن أفضل أوقات أدائها هو «صدرُ النهار
–أي أوّله بعد طلوع الشمس- من يوم الجمعة».
إعداد: سليمان بيضون