بشائر الأنبياء بمبعث النبيّ صلّى الله عليه وآله
قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ
كِتَاب وَحِكْمَة ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ
بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي
قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ آل
عمران:81.
وقال أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام، في تفسيرها: «لَمْ يَبعَثِ اللهُ تعالى نبيّاً، آدَمَ فَمَن بَعدَهُ، إلَّا أُخِذَ عليهِ العَهد في مُحَمَّدٍ صلّى الله عليهِ وآلِه وسَلَّم، لَئِنْ بُعِثَ وهو حَيٌّ ليؤمِنَنَّ به ولينصُرَنَّه، وأَمَرَهُ أنْ يَأخُذَ العَهْدَ على قَومِه».
وقال تعالى: ﴿..يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنجِيلِ..﴾ الأعراف:157.
وفي التوراة المتداولة نصوص عديدة تبشّر بالنبيّ المكّيّ الإسماعيليّ وأوصيائه
الاثني عشر عليهم السلام. منها ما ذكره ثقة الإسلام الطبرسي في (إعلام الورى)، وهو
الفقرة العشرون، من الإصحاح السابع عشر من سِفر التكوين، وترجمته في النسخ المطبوعة
المتداولة هي: «أمّا إسماعيل فقد سمعتُ قولك فيه، ها أنا ذا أُباركه وأُنمّيه
وأُكثِّره جدّاً جدّاً، ويَلِدُ اثنَي عشر رئيساً وأجعله أمَّةً عظيمة».
وقد أجمع علماء المسلمين وعلماء اليهود الذين أسلموا على أنّ هذا النصّ يبشّر
بمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله، وأنّ عبارة «جدّاً جدّاً» وهي ترجمة لعبارة «بمآد
مِآد» العبرية الواردة في النصّ العبريّ، كانت بالأصل تشير إلى اسم «محمّد» صلّى
الله عليه وآله، ثم حُرّفت إلى كلمة متكافئة من ناحية القيمة العددية مع اسم
«محمّد» وهي «بمآد مِآد»، إذ كلاهما يساوي (92). والهدف من ذلك هو حصر المعرفة
بالبشارة بكَهنة اليهود.
وإذا ثبت ذلك - وهو ثابت - كان «الاثنا عشر» بعدها ممّا يرتبط بـ«محمد» وليس
بـ«إسماعيل»، وهو ما كان يفهمه علماء اليهود الذين أسلموا، حيث كانوا يختارون
التشيُّع على غيره من المذاهب، باعتباره مذهباً يقوم على الإيمان باثني عشر وصيّاً
للنبيّ صلّى الله عليه وآله.
وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ﴾ الشعراء:197. وقال أيضاً: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ
اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ
اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ البقرة:89.
وجاء في رواية ابن أبي نملة، قال: «كانت يهود بني قرَيظة يدرُسون ذِكرَ رسولِ الله
في كُتبهم، ويعلِّمون الوِلدان بصفته واسمه ومهاجره المدينة، فلمّا ظَهَرَ حسَدوا
وأنكروا». هكذا في (دلائل النبوّة) للبيهقي، وفي غيره.
وقال ابن إسحاق، كما في (السِّيرة) لابن هشام: «..وضَع عيسى ابن مريم في ما جاءه من
الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، ممّا
أثبته يُحَنَّس – يريد يوحنّا صاحب الإنجيل - الحواري لهم، حين نسخ لهم الإنجيل عن
عهد عيسى ابن مريم عليه السلام، في رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، أنّه
قال: (..ولكن لا بدّ من أن تتمّ الكلمة التي في النّاموس.. فلو قد جاء "المنحمنا"
هذا الذي يرسله الله إليكم من عند الربّ وروح القُدس، هذا الذي من عند الربّ خرج،
فهو شهيدٌ عليَّ وأنتم و"روح القدس" أيضاً..).
قال ابن إسحاق: «المنحمنا بالسريانية: محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، وهو
بالرومية: البرقليطس».
(منحمنا: اسم مضاف إلى ضمير الجمع المتكلّم، وتعني حرفياً «مُسَلِّينا» أو
«مُعَزِّينا»، وأصلها عبريّ من الفعل: نحم)
أقول: الذي ذكره ابن إسحاق هو رواية شفوية بالمعنى للفقرات (15-21) من الفصل الرابع
عشر، والفقرتين (26-27) من الفصل الخامس عشر، والفقرة (13) من الفصل السادس عشر من
إنجيل يوحنّا، وفيما يلي نصوصها:
قال: «إنْ كنتم تحبّوني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الأب فيعطيكم مُعَزِّيَاً آخر
ليمكث معكم إلى الأبد.. الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبّني..». (15ـ21: 14(
وقال: «ومتى جاء المُعَزِّي.. فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنّكم معي من
الابتداء». (26ـ27: 15)
وقال: «ومتى جاء روح الحقّ فهو يُرشدكم إلى جميع الحقّ لأنّه لا يتكلّم من نفسه، بل
كلّ ما يسمع يتكلّم به ويخبركم بأمور آتية». (13: 16)
ولفظة «المُعَزِّي» جعلوها ترجمة للّفظة الإغريقية «البرقليطس»، التي قال عنها ابن
إسحاق: إنّها باللغة الرّومية، والإغريقية هي اللغة الأقدم للإنجيل.
والنصارى اليوم يقولون إنّ في اللغة الإغريقية لفظتين:
الأولى: (باراكليتوس) (Parakletos) وتعني المعزّي، المسلّي.
الثانية: (بيريكليتوس) (Perekletos) وتعني حرفياً ما تعنيه لفظة أحمد العربية.
ثمّ يقولون: إنّ الذي ورد في النسخة الإغريقية للإنجيل هو اللفظة الأولى وليست
الثانية، وبالتالي فلا دلالة لها على ما ذكره القرآن الكريم من أنّ عيسى عليه
السلام كان قد بشّر بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله، كما في الآية الكريمة
﴿..وَمُبَشِّرًا بِرَسُول يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ..﴾ الصف:6.
ونحن نجيبهم بأمرين:
الأول: أنّ الذي يُنعم النظر في النصوص الآنفة الذكر يعلم أنّها تنبئ عن بعثة
نبيٍّ تبقى نبوّته إلى الأبد، يخبر هذا النبيّ بمغيَّبات ويشهد لعيسى عليه السلام
بالنبوَّة والرّسالة، وقد تحقّق ذلك بالنبيّ محمَّد صلّى الله عليه وآله ولم يأتِ
نبيٌّ بعده، وقد مضى على نبوّته أربعة عشر قرناً من الزمن.
الثاني: أنّ النسخة العبرية من الإنجيل المتداولة فعلاً ذكرت اللفظة الثانية
(بيريكليتوس) (فْرَقْليطوس) (مع حركة السكون تحت حرف الفاء وحركة الفتحة تحت حرف
الراء، ولو كان المترجم يريد اللفظة الأولى لكتب حركة المد بالألف تحت حرف الفاء
وحرف الراء)، ممّـا يدل على أنّ وجود لفظة «باراكليتوس» في الأناجيل الإغريقية
المتداولة عند النصارى من التحريف المستحدَث.
السيد سامي البدري*
* مختصر من أحد فصول كتابه (السيرة النبوية)