من المعلوم أن أول عمل بادر إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، في المدينة
المنوّرة بعد هجرته من مكّة المكرّمة هو بناء المسجد، وهذا الأمر له دلالته وأهميته
البالغة. ذلك أنّ المسلمين كانوا فئتين: مهاجرين وأنصاراً، وتختلف ظروف كلٍّ من
الفئتين، فالمهاجرون كانوا من قبائل شتّى، ومستويات مختلفة: فكرياً، واجتماعياً،
وماديّاً، ومعنويّاً، وكذلك الأنصار؛ فإنهم أيضاً كانوا فئتين متنافستين، لم تزل
الحرب بينهما قائمةً على ساقٍ وقدم إلى عهدٍ قريب.
وقد أراد الإسلام أن ينصهر الجميع في بوتقة التوحيد ليصبحوا كالجسد الواحد، في
توادّهم وفي تراحُمهم وتعاونهم، وأن تتوحّد جهودهم وأهدافهم ومواقفهم، الأمر الذي
يؤكّد الحاجة إلى إعداد وتربية نفسية وخُلقية وفكرية لكلّ هذه الفئات، لتستطيع أن
تتعايش بعضها مع بعض، ولتكون في مستوى مسؤولية بناءِ مجتمعٍ متكافلٍ متماسك؛ هو
نواة الأمة الواحدة، خيرِ أمّةٍ أُخرجت للناس. ولأجل ذلك، لا بدّ أن تنصهر كلّ
الطاقات والقدرات الفكرية والمادية لهذا المجتمع في سبيل خدمة الهدف المنشود.
والمسجد هو المكان الوحيد الذي يُمكن فيه تحقيق كلّ ذلك، إذ لم يكن مجرّد محلٍّ
للعبادة فقط، بل كان الوسيلةَ الفُضلى للتثقيف الفكري، إن لم نقل: إنه ما يزال حتّى
الآن أفضل وسيلة لوحدة الثقافة والفكر والرأي، حينما يُفترض فيها أن تكون من مصدرٍ
واحد، وتخدم هدفاً واحداً في جميع مراحل الحياة، مع الشعور بالقدسية، والارتباط
بالله تعالى.
وهكذا، فإنّ ذلك من شأنه أن يُبعد المجتمع المسلم عن الصراعات الفكرية، التي تنشأ
من عدم وجود وحدة موضوعية للثقافة التي يتلقاها أفراده، كلٌّ على حِدة، فتتخالف
المفاهيم والأفكار والمستويات، وتزيد الفجوات اتّساعاً باستمرار، حتى يظهر نتيجة
لذلك عدمُ الانسجام في وضوح الهدف، وفي المشاعر، وفي الاندفاع نحوه، ما يؤثر
تأثيراً كبيراً على مسيرة الوصول إليه، والحصول عليه.
وبهذا يتضح: أن المدرسة التي نعرفها اليوم إذا كانت لا تُعطي إلا المفاهيم الجافة،
والأفكار البعيدة عن واقع الإنسان، والتي لا تنسجم مع احتياجاته، ولا مع تكوينه
النفسي والفكري وغير ذلك، بالإضافة إلى عدم الشعور فيها بالله سبحانه وتعالى، أو
الخضوع له، فإنّ هذه المدرسة لن تكون هي الوسيلة المنشودة، بل يكون المسجد هو
الأفضل والأمثل حسبما أوضحناه، لا سيما وأنها لن تكون قادرة على ملء الفراغ
العقائدي والفكري له، حيث يبقى عُرضة للتيارات والأهواء، وفي متناول أيدي المتاجرين
بالشعوب عن طريق وسائل الإعلام الهدّامة التي يملكونها.
وأما استعمال وسائل الإعلام في عملية الإعداد والتربية، فإنها بالإضافة إلى ما
تقدّم، تجعل الإنسان انطوائياً ومحدوداً يفكّر تفكيراً شخصياً بشكلٍ عامّ، وتقلّل
فيه إحساسه بالحاجة إلى الآخرين، وإلى الارتباط بهم، ولا تسهّل عليه محبّتهم
ومودّتهم.
وبعد.. فإنّ اهتمام الإسلام بالمسجد وتأسيسه، حتّى كان ذلك أول أعمال النبيّ صلّى
الله عليه وآله في قباء، ثم في المدينة، ليدلّنا دلالة واضحة على أنه صلّى الله
عليه وآله يريد منّا أن نتعامل مع هذه الدنيا من منطلقٍ دينيّ، فإنما هي مزرعة
الآخرة، فلا بد أن تُقاد قيادة إلهية ويستفاد منها من خلال الارتباط به سبحانه
وتعالى.
* العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي، مختصر عن كتابه (الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم)