قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): "فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ
بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي، ولَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتِي لَا
يُدْلِي أَحَدٌ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ، ولَا أَظُنُّ
اللَّهً يَعْرِفُهُ. والْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ"[1].
تجتمع في شخصية أمير المؤمنين (عليه السّلام) صفات إستثنائية، فالعِلم والزُّهد
والشّجاعة والإدارة والتدبير وغيرها من الصفات، تحكي عظمةَ رجلٍ تربّى في حِجر
النبوّة، وكان له في الرّسالة موضعاً لا يَسبقه إليه أحد.
وفي حياة الأمير محطّات كثيرةٌ مشرقة، ترتبط بها إشراقه الرّسالة المحمديّة، وفيها
أيضا مواطن للمظلوميّة التي عاشها الإمام (عليه السّلام) في حياته، هذه المظلومية
التي تتّضح كم كانت عظيمة، بمقدار النّظر إلى عظمة شخصيّة الإمام (عليه السّلام).
ويصف الإمام الخامنئي (حفظه المولى) هذا الأمر فيقول:"هل كان ثمّة رجل في عصره أقوى
منه، أو له مثل تلك القوّة الحيدريّة؟ لم يتحدّ عليّاً عليه السّلام أحد، ولم يجرؤ
أحد على ادّعاء ذلك حتّى آخر حياته. نفس هذا الإنسان كان أكبر أهل زمانه مظلوميّة
والأكثر ظلامة منهم، بل ويقال وهو قول صحيح، لعلّه أكثر إنسان ظُلم في تاريخ
الإسلام. إنّ القوّة والمظلوميّة شيئان لا يجتمعان؛ فالمتعارف أنّ الأقوياء لا
يُظلمون، غير أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ظُلم".
فبعد وفاة الرّسول (صلّى الله عليه وآله) أُلقي عبء حفظ الرّسالة على عاتقه، ولكن
ما جرى حيث صُرف الأمر عنه إلى غيره، زاد في عظمة المهمة ولم يكن ليقوم بذلك غيره،
وكانت مظلوميّة الإمام في تلك الفترة عظيمة جدّا.
وبعد أن رجع النّاس إليه، وبايعوه على السّمع والطّاعة له، ابتُلي بأمورٍ من خروج
قوم عليه ونكثهم لبيعته ـــــ فقادوا جماعة من النّاس لحربه وقتاله ــــ ومن تخلّف
معاوية عن بيعته وإضلال النّاس في بلاد الشام، وأعظم ما ابتُلي به الإمام فضاعف من
مظلوميّته، هم قومه الّذين لا يطيعونه متى دعاهم إلى أمرٍ من الأمور، يقول (عليه
السلام): "لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ ولَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً -
واللَّهِ - جَرَّتْ نَدَماً، وأَعْقَبَتْ سَدَماً. قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ
مَلأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً، وجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ
التَّهْمَامِ أَنْفَاساً، وأَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ
والْخِذْلَانِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ
شُجَاعٌ، ولَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. لِلَّهِ أَبُوهُمْ وهَلْ أَحَدٌ
مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً، وأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي لَقَدْ
نَهَضْتُ فِيهَا ومَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى
السِّتِّينَ ولَكِنْ لَا رَأْيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ"[2].
فعظيم ما واجهه الإمام من قومه يشهد على عظيم الظّلم الذي لحق بهذه الشّخصية
الاستثنائيّة، ومن يدرس هذه التجربة يدرك تماماً أنّ أصعب ما يواجهه القائد الخبير
والعالِم، هو عدم فهم الناس لمواقفه، فهم بعيدون عنه فلا يَسمعون له ولا يمتثلون
لأمره.
ويزيد في مصاب الإمام بقومه أنّهم قومٌ متّبعون للهوى يَسعون وراء شهواتهم ويُريدون
أخذ النّاس إلى ذلك، وأهواؤهم متشتّتة، فكلّ يتّبع هواه الخاصّ به، ممّا أدى إلى
تشتُّتهم، يقول (عليه السلام): "أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ،
الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، الْمُبْتَلَى
بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ. صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَّهً وأَنْتُمْ تَعْصُونَهُ،
وصَاحِبُ أَهلِ الشَّامِ يَعصِى الله وهُم يُطِيعُونَهُ. لَوَدِدتُ والله أَنَّ
مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ، فَأَخَذَ مِنِّي
عَشَرَةَ مِنْكُمْ وأَعْطَانِي رَجُلاً مِنْهُمْ"[3].
فالسّلام على أمير المؤمنين ومولى الموحّدين يوم وُلد ويوم استُشهد ويوم يُبعث حيا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1]نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص369.
[2]نفس المصدر، ص 70.
[3]نفس المصدر، ص 142.