قال أمير المؤمنين (عليه السلام):"فَرَحِمَ اللَّه امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِه
وقَمَعَ هَوَى نَفْسِه، فَإِنَّ هَذِه النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْءٍ مَنْزِعاً،
وإِنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوًى، واعْلَمُوا عِبَادَ
اللَّه أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُصْبِحُ ولَا يُمْسِي، إِلَّا ونَفْسُه ظَنُونٌ
عِنْدَه، فَلَا يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا ومُسْتَزِيداً لَهَا، فَكُونُوا
كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ والْمَاضِينَ أَمَامَكُمْ، قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا
تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ وطَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازِلِ"[1].
إنّ أُولى الخطوات في تربية النّفس وتهذيبها هو معرفة أنّها لا بد وأن تكون تحت
الرّقابة المستمرّة، وذلك لأنّ هذه النّفس تتّجه إلى شهواتها ولا تكون طيّعة في
الانقياد نحو ما أمر الله به، ولذا كان المؤمن متّهماً لنفسه دائما، ففي كلّ فعل
يقوم به لا بدّ وأن يدقّق النّظر فيما تطلبه النّفس وتميل إليه فيخالفها، ولذا
يرشدنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، إلى أنّ من أُولى الوسائل في التّربية هو
الاتّهام لهذه النّفس، وحقيقة الاتّهام هو أن يظنّ بها السّوء؛ أي بأنّ هذه النّفس
تقود الإنسان إلى ما تريد حتى لو كان ذلك سبباً في هلاك هذا الإنسان؛ وفي أن يكون
مصيره في الآخرة إلى النّار، ومن أهم الأبواب لذلك هو باب الخوف، فمن يخاف الله عز
وجل ويحذر من عقابه؛ سوف يعيش اليقظة دائماً من الوقوع في المعصية، يقول (عليه
السلام) واصفاً المتّقين:"وأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ
أَتْقِيَاءُ، قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ [وهي السهام]، يَنْظُرُ
إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، ومَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ
ويَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا، ولَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ، لَا يَرْضَوْنَ
مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، ولَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ
لأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ ومِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ"[2].
والعقل هو الأداة التي كلّما اشتدّت وقويت وكانت في حصن من الآفات؛ مكّنت النّفس من
الغلبة على الانقياد إلى الشّهوات. ومن كلام له (عليه السلام) في وصف سالك الطّريق
إلى اللَّه سبحانه:"قَدْ أَحْيَا عَقْلَه وأَمَاتَ نَفْسَه"[3].
إنّ كثرة التّفكير في
الآخرة والمصير الذي ينتظر الإنسان هو الذي يعطي العقل القوّة على مواجهة رغبات
النّفس ويُشغلها عن الوقوع في المعاصي يقول الإمام (عليه السلام):"فَاتَّقُوا
اللَّه عِبَادَ اللَّه تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَه، وأَنْصَبَ
الْخَوْفُ بَدَنَه وأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِه"[4].
وكلّما اشتدّت أبواب الرّغبات لهذه النّفس؛ كلّما كانت في خطر أعظم، فمن يملك المال
يفتح له أبواب من الشّهوات، ومن يملك المسؤولية والسّلطة يترصّده الشّيطان دائماً
ليُوقع به، ولذا يأمر الإمام (عليه السّلام) مالك الأشتر لمـّا ولّاه مصر؛ بأن
يَكسر هذه النّفس ويردعها دائما يقول (عليه السّلام):"وأَمَرَه أَنْ يَكْسِرَ
نَفْسَه مِنَ الشَّهَوَاتِ، ويَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ
أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّه"[5].
وكلّما اكتملت معرفة هذا الإنسان وارتقى في سلّم التّقوى؛ كلّما أصبحت هذه النّفس
أكثر انقياداً للعقل حتى يزول الهوى من الأساس، ولذا يصف الإمام (عليه السلام) من
انتصر على نفسه وقمع هواه بقوله:"قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَه الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلَ
عَدْلِه نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِه"[6].
[1] نهج البلاغة، ص 251.
[2] نهج البلاغة، ص 304.
[3] نهج البلاغة، ص 337.
[4] نهج البلاغة، ص 111.
[5] نهج البلاغة، ص 427.
[6] نهج البلاغة، ص 119.