إنّ من أعظم ما فرضه الله عزّ وجلّ على الإنسان هو الوفاء، وهو قيمة إنسانيّة لدى
العقلاء كافّة من أيّ دينٍ كانوا، ولأيّ مذهبٍ انتموا.
والوفاء كما يكون في العهود التي تكون بين اثنين من النّاس أو بين جماعتين، يكون
أيضًا بين الأمّة وإمامها الذي افترض الله عزّ وجلّ طاعته.
وإنّ من المواطِن التي اختبر بها الله عزّ وجلّ النّاس، هو الوفاء لأهل بيت العصمة
والطّهارة (صلوات الله عليهم) الذين افترض طاعتهم، وجعلهم أولياء على خلقه.
ونوع الوفاء يحدّده الإمام المعصوم، فقد يكون الوفاء بالصّمت، وقد يكون بالكلام،
وقد يكون بالقتال وبذل النّفوس.
ومن أعظم درجات الوفاء هو الوفاء بالنّفوس، والذي يتحقّق عندما يأتي النّداء من
المعصوم (عليه السّلام) بطلب النّصرة، ولذا كانت خيانة من يتخلّف عن ذلك، أن يُرمى
به في نار جهنّم، وهذا ما ورد في كلام الإمام الحسين (عليه السّلام)، في مواطن
متعدّدة في مسيرة كربلاء، فمنها حديث الإمام (عليه السّلام) مع عُبيد الله بن الحرّ
الجعفي، الذي طلب الإمام (عليه السّلام) منه وقد التقاه في طريقه إلى كربلاء، أن
يكون ناصرًا ومعينًا، ولكنّ الرّجل اكتفى ببذل فرسه وسيفه قائلًا: "وأنا أواسيك
بكلّ ما أقدر عليه، وهذه فرسي مُلجمة، والله ما طلبتُ عليها شيئًا إلاّ أذقتُه حياض
الموت، ولا طلبتُ وأنا عليها فلحقت، وخذ سيفي هذا، فوالله ما ضربتُ به إلاّ قطعت".
فأجابه الامام الحسين (عليه السّلام): "يَا ابْنَ الْحُرِّ ! ما جِئْناكَ
لِفَرَسِكَ وَسَيْفِكَ، إِنَّما أَتَيْناكَ لِنَسْأَلَكَ النُّصْرَةَ، فَإِنْ
كُنْتَ قَدْ بَخِلْتَ عَلَيْنا بِنَفْسِكَ فَلا حاجَةَ لَنا في شيء مِنْ مالِكَ،
وَلَمْ أَكُنْ بِالَّذي أَتَّخِذُ الْمُضِلّينَ عَضُداً، لأِنّي قَدْ سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ (صلّى الله عليه وآله) وَهُوَ يَقُولُ: من سمع داعية أهل بيتي، ولم
ينصرهم على حقّهم إلا أكبّه الله على وجهه في النّار"[1]. ثمّ سار الحسين (عليه
السّلام) من عنده ورجع إلى رَحْله.
وبهذا تتجلّى عظمة وفاء أصحاب الإمام الحسين (عليه السّلام)، لأنّهم جادوا بنفوسهم
نُصرةً للإمام فأدّوا ما عليهم، وطابق فعلهم منطقهم، وكما قال مسلم بن عوسجة:
"أنحن نخلي عنك، وبما نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ لا والله حتّى أطعن في صدورهم
برمحي، وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به،
لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله
(صلّى الله عليه وآله) فيك، أما والله، لو علمتُ أنّي أُقتَل ثمّ أُحيى ثمّ أُحرَق
ثمّ أُحيى ثمّ أُذرّى، يفعل ذلك بي سبعين مرّة، ما فارقتُك حتّى ألقى حمامي دونك،
فكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة، ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا"[2].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1] موسوعة كلمات الإمام الحسين ( ع )، لجنة الحديث في معهد
باقر العلوم ( ع )، ص444.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 44، ص 393.