قال تعالى:
﴿كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ*الَّذِينَ جَعَلُوا
الْقُرْآنَ عِضِينَ*فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ*عَمَّا كَانُوا
يَعْمَلُونَ*فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾[1].
جاء في التّفاسير أنّها نزلت في المـُقتسمين وهم ستّةَ عشرَ رجُلاً خرجوا إلى عِقاب
مكّة أيام الحجّ على طريق النّاس، على كلّ عقبة أربعةٌ منهم ليصدّوا النّاس عن
النّبي (صلّى الله عليه وآله)، وإذا سألهم النّاس عمّا أنزل على رسول الله (صلّى
الله عليه وآله) بعضٌ يقول: إنّه " مجنون"، وبعضٌ يقول: إنّه "ساحر"، وبعضٌ يقول:
إنه "شاعر"، وبعضٌ يقول: إنّه "كاهن".
وإنّما أطلق عليهم تسمية المقتسمين لأنّهم تقاسموا الأدوار في مواجهة النّبي (صلّى
الله عليه وآله)، بنحوٍ يؤدّي جهدهم للقضاء على الرّسالة المحمديّة.
ويمتاز هؤلاء بأمرَين، أولاً دعواهم أنّهم أصحاب المعرفة والاطّلاع، وثانياً،
دعواهم الحرص على النّاس والبحث عن مصالحهم.
وما يحدّثنا القرآن الكريم عنه لا ينحصر في زمانٍ دون زمان ولا في مكانٍ دون آخر،
ولذا؛ نجد نماذج من هؤلاء في زمانِ ما بعد وفاة النّبي كما نجده في زمان النّبي
(صلّى الله عليه وآله).
وفي زمان الإمام الحسين (عليه السلام) كانت هذه الفئة من النّاس تتوزّع الأدوار في
مواجهة النّهضة الحُسينية، ولا سيّما في الّذين وعدوا الحسين (عليه السّلام)
النُّصرة، وكتبوا إليه بأَن يُقدم عليهم، ولكنّهم انقلبوا متخاذِلين، وقد خاطبهم
الإمام (عليه السّلام) مُذكّرا إيّاهم بالمـُقتَسمين يقول:"تَبّا لَكُم أيّتُها
الجماعةُ وتَرَحاً، أَحِينَ اسْتَصْرَختُمُونا والِهينَ فأَصْرَخناكُم مَوْجِفين،
سَللتُم عَلينا سَيفاً لنا في أَيْمانِكم، وحَشَشْتُم علينا ناراً قْدَحْناها على
عدوِّنا وعدوِّكُم، فأصبحتُم إلْباً لأعدائِكُم على أوليائِكُم، ويَداً عليهم
لأعدائِكم، بغيرِ عَدلٍ أفشَوْهُ فيكُم، ولا أمَلٍ أصبحَ لكُم فيهم، إلَّا الحرامَ
من الدّنيا أَنَالُوْكُم وخَسِيسَ عَيْشٍ طَمِعْتُم فيهِ، ... فسُحقاً لكُم يا
عَبيدَ الأُمَّةِ، وشُذَّاذَ الأحزابِ، ونَبَذَةَ الكِتابِ، ومُحرِّفي الكَلِمِ،
ونَفْثَةَ الشيطانِ، وعُصْبَةَ الآثامِ، ومُطفِئي السُّننِ، وقَتَلةَ أولادِ
الأنبياءِ، ومُبيدي عِترةِ الأوصياءِ، ومُلحِقي العُهَّارِ بالنَّسَبِ، ومؤذِي
المؤمنينَ، وصُرَّاخَ أئمّةِ المستهزئينَ،
﴿الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ﴾
﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي
الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ أنتُمُ ابنَ حَربٍ وأشياعَهُ تَعْضُدون، وعنّا
تخاذَلُونَ".
ومواجهة هؤلاء كما أمرَ الله عزّ وجلّ بذلك تنبيه أن يصدع بنداء الحقّ، وأن لا
يتوانى عن الدّعوة إلى دين الله عزّ وجل، ولا يأبه لِما يقومون به، وهذا ما نطق به
الإمام الحسين (عليه السّلام) حيث قال في تتمّة خِطبته: "ألَا وإنّ الدَعِيَّ ابنَ
الدَعِيِّ قدْ رَكَزَ بينَ اثنَتَينِ: بينَ السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهيهاتَ منّا
الذِّلَّةُ، يأبَى اللهُ لَنَا ذلكَ ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَتْ
وطَهُرتْ، وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ مِنْ أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ
على مصارِعِ الكِرَامِ. ألَا وَقَدْ أَعْذَرْتُ وأَنْذَرْتُ، ألَا وإنِّي زاحِفٌ
بهذِهِ الأُسرةِ على قلَّةِ العَدَدِ، وكَثرةِ العدُوِّ، وخِذلانِ الناصرِ".
وهكذا يُعلم أنّ التّكليف في كلّ زمان في مواجهة أمثال هؤلاء أن يُعلن الإنسان
الحقّ، ويتحمّل في سبيله بَذل النّفوس والدّماء والأموال، لأنّه بذلك تتحقّق بداية
نهايتهم، ويكون الانتصار للحقّ على الباطل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1] سورة الحجر الآيات 90-94.