عن أمير المؤمنين (عليه السّلام):"كمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوَى
أَمِيرٍ"[1].
إنّ مملكة النّفس تعيش صراعًا مستمرًّا بين العقل والهوى، والمفترض أن يكون العقل
قائدًا وأميرًا وحاكمًا مُطاعًا، لأنّ في ذلك خلاص الإنسان وسعادته، ولكن قد تنقلب
المسألة فيصبح الهوى هو الأمير والحاكم والسّلطان، وهذا يعني أن تتحكّم الشّهوات
بهذا الإنسان فتقوده إلى المهالك، وفي إشارة إلى هذا الصّراع يقول (عليه السّلام):"الْحِلْمُ
غِطَاءٌ سَاتِرٌ والْعَقْلُ حُسَامٌ قَاطِعٌ، فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ بِحِلْمِكَ
وقَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ"[2].
ويُشير الإمام (عليه السّلام) إلى الأدوات والأسلحة الّتي يستعملها الهوى في صراعه
مع العقل، وأهمّها أمران:
1ـ الطّمع: فعندما يتعلّق الإنسان بهذه الدّنيا
وشهواتها، فإنّه ولأجل الوصول إليها يتعطّل العقل، وتُغلق أمامه فرص التّفكير
بالمصالح الحقيقيّة والأبديّة المتمثّلة بالآخرة، فتكون الغلبة للانقياد في سبيل
الحصول على هذه الدّنيا، ويقول الإمام (عليه السّلام):"أَكْثَرُ مَصَارِعِ
الْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ الْمَطَامِعِ"[3].
2ـ العُجب: وهو بحسب ما يعرّفه الإمام الخميني (قده) في كتابه الأربعون
حديثًا:"ابتهاج الإنسان وسروره بتصوّر الكمال في نفسه وإعجابه بأعماله، والإدلال
بها بظنّ تماميّتها وخلوصها، وحسبان نفسه خارجًا عن حدّ التّقصير"، وهذا الأمر
يجعل العقل معطّلًا، وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السّلام): "عُجْبُ
الْمَرْءِ بِنَفْسِه أَحَدُ حُسَّادِ عَقْلِه"[4].
وبمعالجة هذين الأمرين يتمكّن الإنسان من تقديم العَون للعقل للانتصار في صراعه مع
الهوى.
ولأنّ العقل قد يقع أسيرًا للهوى أحيانًا، لم يعبّر الإمام بموت العقل أو الهوى
القاتل للعقل، بل عبّر بالأسير، لأنّ باب التّوبة المفتوح للإنسان يُمكّن السجين
والأسير أن يغلب آسره وسجّانه. ولكن قد يصل الأمر بالإنسان في بعض الحالات لأن يصبح
العقل مقتولًا ويكون الهوى قاتلًا، وهنا ينتفي وجود الحياة في العقل فينعدم الأمل
بعودة الإنسان إلى إنسانيّته.
وفي وصف آخر لحالة الصّراع هذه يبيّن الإمام (عليه السّلام) أنّ نتيجة هذا الصّراع
أنّ العقل قد يكون في حالات أخرى مخترَقًا من الشّهوات، وتأثير ذلك موت القلب يقول
الامام (عليه السّلام): "قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَه، وأَمَاتَتِ
الدُّنْيَا قَلْبَه"[5].
وأما من تمكّن من تقوية عقله فغلب هواه، فإنّه يعيش في هذه الحياة بطريقة العقلاء،
فيكون بين حالاتٍ ثلاث يصفها الإمام (عليه السّلام) بقوله: "ولَيْسَ لِلْعَاقِلِ
أَنْ يَكُونَ شَاخِصًا إِلَّا فِي ثَلَاثٍ، مَرَمَّةٍ لِمَعَاشٍ أَوْ خُطْوَةٍ فِي
مَعَادٍ، أَوْ لَذَّةٍ فِي غَيْرِ مُحَرَّمٍ"[6].
إنّ أهمّ ما ينبغي أن يحذر منه الإنسان، أن يكون سببًا في بقاء عقله أسيرًا لهواه،
وتستمرّ هذه الغفلة إلى لحظة الموت، وهي لحظة تحرّر العقل من أسر الشّهوة، وقد ورد
عن الإمام (عليه السّلام): "إِذَا وَقَعَ الأَمْرُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ (وخَسِرَ
هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ
الْهَوَى، وسَلِمَ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا"[7].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1] نهج البلاغة،
تحقيق صبحي الصّالح، ص 506.
[2] المصدر نفسه، ص551.
[3] المصدر نفسه، ص507.
[4] المصدر نفسه، ص507.
[5] المصدر نفسه، ص160.
[6] المصدر نفسه، ص545.
[7] المصدر نفسه، ص365.