قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْه
الْحِيلَةِ ودُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللَّه ونَهْيِه، فَيَدَعُهَا رَأْيَ
عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، ويَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ
لَه فِي الدِّينِ"[1].
يترقّى الإنسان في مدارج الكمال المعنوي، فينتقل في سلّم العبودية ليصل إلى مقام
القُرب الإلهي، ويصبح في غاية البُعد عن المعصية، فهو في حصنٍ منها، ولكن ذلك لا
يسلبه القدرة على العصيان والمخالفة، بل قد يرى فُرصًا تُتاح أمامه تسهّل له الوصول
إلى بعض غاياته، ولكنّه لا يدنو منها وذلك حذرًا من مخالفة سِمة العبوديّة والوقوع
في فخّ المخالفة.
ويشير الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في كلمته هذه إلى أن ضُعف صاحب التّقوى
عن فعل بعض الأمور الّتي قد يقتحمها غيره لا يرجع إلى عجزٍ منه ولا إلى جهل وقلة
معرفة وحيلة وتدبير؛ بل لأنّ بينه وبين ذلك حاجزًا يمنعه وهو الخوف من معصية أمر
الله.
إنّ المفهوم الخاطئ في أذهان الناس يذهب بهم إلى مدح من يلجأ إلى الغدر في سبيل
الوصول إلى الغاية ويعتبرون ذلك فطنةً وذكاء، ويصف الإمام (عليه السّلام) هؤلاء في
كلام له بأنّهم أهل جهل؛ لأنّهم لا ينظرون في عاقبة فعل أهل الغدر وأنّهم بفعلهم
خاسرون حقيقة، يقول (عليه السّلام): "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ
الصِّدْقِ، ولَا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ، ومَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ
كَيْفَ الْمَرْجِعُ. ولَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ
أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً، ونَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلَى حُسْنِ
الْحِيلَةِ"[2].
فمن لا يسير على هدي دين الله يَنظر إلى الغايات فقط ولا يرى ملامة في وسيلة يذمّه
النّاس عليها, ويرى أنّه المتفوّق على غيره في ذلك، ويوضح كلام الإمام (عليه
السّلام) هذا؛ أنّ الإسلام لا ينظر إلى الغايات فقط بل يحثُّ على تحديد الطُّرق
الصّحيحة وسلوكها في سبيل الوصول إلى تلك الغايات، ويكشف الإمام خطأ من قايس بينه
وبين معاوية وجعل لمعاوية تفوقًا, جهلًا منه بمحذور الوقوع في الغدر, وهي خصلةٌ
سيئة حتّى لو أوصلت إلى المطلوب يقول (عليه السّلام): "واللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ
بِأَدْهَى مِنِّي، ولَكِنَّهُ يَغْدِرُ ويَفْجُرُ. ولَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ
لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ، ولَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ، وكُلُّ فُجَرَةٍ
كُفَرَةٌ", "وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[3].
فما يحكم حركة المؤمن في تخطيطه للوصول إلى أيّ غاية من غاياته أن لا يقع في
المعصية، وحتّى لو ترتّب على ذلك أمرٌ فيه الصّلاح أو الخير؛ فهذا لا يعني أن يقع
في المعصية لأجل ذلك، وهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد ابتُلي بقوم من حوله
بعيدين عن الخير؛ وله القدرة على إصلاحهم وهي غاية عظيمة وحسنة؛ ولكن ذلك يوقعه
فيما لا يحبّه الله عز وجل فلم يقُم به, يقول (عليه السّلام): "وإِنِّي لَعَالِمٌ
بِمَا يُصْلِحُكُمْ ويُقِيمُ أَوَدَكُمْ، ولَكِنِّي لَا أَرَى إِصْلَاحَكُمْ
بِإِفْسَادِ نَفْسِي"[4].
جعلنا الله من السالكين على هديه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
[1] نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص83.
[2] المصدر نفسه.
[3] المصدر نفسه، ص 318.
[4] المصدر نفسه، ص 99.